Menu

ما بين انتفاضة الحجارة ومسيرات العودة

الإسلاميون في المشهد النضالي الفلسطيني

د.أحمد يوسف

في 8 ديسمبر 1987، كانت اللحظة التاريخية المميزة لحركيِّة النضال الفلسطيني بعد نكسة عام 1967، حيث فاجأت انتفاضة أطفال الحجارة الجميع، وأدخلت الإسلاميين أو التيار الإسلامي إلى حلبة المواجهة مع الاحتلال في مناوشات واحتكاكات يومية، كما دفعت الحركة الإسلامية بكل كوادرها إلى الانخراط في الفعل النضالي مع الآخرين من فصائل العمل الوطني، وتجنيد كافة إمكانياتها التنظيمية والمالية في الحشد والتعبئة لتلك الانتفاضة المباركة، بهدف إظهار حضورها ودورها الفاعل والمؤثر فيها.

بدأت الحركة الإسلامية منذ اللحظات الأولى للهبِّة الشعبية بتأطير نفسها وتكييف قدراتها التنظيمية، ليس فقط كمشارك في المواجهات بل كمحرك لها، حيث أخذت تصدر بانتظام بيانات الدعم والتأييد لها، وتتحرك من خلال المساجد لحثّ الناس عامة، و كواردها التنظيمية خاصة للنزول إلى الشارع والالتزام بالسلوكيات الحركية التي تنادي بها،كالإضرابات وأيام التصعيد والتحدي، واعتمدت الحركة واجهة نضالية باسم حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، واجتهدت - من باب تظهير قدراتها - في التحرك بقوة في مناسبات معينة، قد لا تلتقى أحياناً مع ما كانت تنادي به "القيادة الوطنية الموحدة"، وربما بدون  التشاور أو التنسيق معها.

قبل الانتفاضة المباركة، كان الإسلاميون في قطاع غزة غير مهتمين أو حتى غير فاعلين ولا تعنيهم كثيراً أشكال المواجهة مع الاحتلال، حيث كان جلُّ اهتمامهم منصباً حول العمل على إعداد "الجيل القرآني الفريد" أو "الجيل الرباني"؛أي جيل التأسيس،الذي سيقع على كاهله وينعقد تحت لوائه تحقيق رؤيتهم لمشروع التحرير والعودة.

قبل الانتفاضة، كانت المساجد والعمل الدعوي هما دائرة الفعل والشغل الشاغل للإسلاميين، حيث لم يلتفت أحدٌ منهم لتلك الساحة النضالية، وتركوا الميدان للقوى الوطنية الأخرى؛كحركة فتح وفصائل اليسار الفلسطيني للتعامل مع الاحتلال؛ باعتبار أن إعداد الجيل وتأسيسه له الأولوية في أي رؤية استراتيجية لمواجهة الاحتلال واقتلاعه من أرض الإسراء والمعراج.

نعم؛ كانت الحالة الوطنية تتململ عندما اندلعت الانتفاضة، والتي شدَّت انتباه الشارع الفلسطيني، بحيث لم يكن لأحدٍ أن يتجاهلها أو يخطئ توقيت التعامل معها.

شعر الإسلاميون بأن الوقت قد حان، وأن الفرصة قد أصبحت مواتية، حيث طاب الغرس واستوى "الجيل الرباني" على سوقه، وجاءت "لحظة الاختبار" لتلك الكوادر الإسلامية النخبوية،التي تمَّ إعدادها وتهيئتها لملاقاة العدو الصهيوني، لتلقي بثقلها في الساحة النضالية، واثبات قدراتها على الحضور في المشهد النضالي بأفضلية على مستوى المواقف والفعل والتضحية في الميدان، وهذا ربما هو ما أعطى الكثير من قيادات العمل الإسلامي الشعور بالانتشاء،والنظر لأنفسهم بأنهم من يقفون خلف تطوير فعاليات الانتفاضة واستمرار تأثيرها، وأنهم من منحها "شريان الحياة"بالتضحيات وصور البسالة والفداء التي قدَّموها، من أجل ديمومتها، والوصول إلى ما وصلت إليه من غايات، تجلَّت بخروج الاحتلال في عام 2005 ذليلاً من قطاع غزة.

في الحقيقة، وكشاهد على وقائع الأحداث عام 1988، وأحد الكوادر الفاعلة فيها، فإن الحركة الإسلامية قد علَّقت عملها الدعوي لصالح الحضور الفاعل في الميدان، وتحولت جلُّ أنشطتها وتشكيلاتها الحركية إلى كوادر تتحرك وفق الأجندة اليومية لأحداث الانتفاضة ووقائعها، فكان الإسلاميون ممثلين بإطارهم النضالي الجديد، الذي تمثله حركة حماس ، يعملون ويتحركون في الميدان ليس كـ "شاهد مشفش حاجة"، بل كمحرك وشريك للكثير من تلك الوقائع والأحداث.

لقد شكلت حركة حماس لجان إدارية وواجهات حركية للتعاطي مع الانتفاضة، وأخرى للتنسيق مع باقي القوى الوطنية، التي كان حضورها مشهوداً لا تخطئه العين، ولكنَّ الإسلاميين كانوا حريصين بألا يظهروا في المشهد كتابعين للتيارات الوطنية التاريخية،والتي كانت لها الأسبقية من حيث النشأة والتأسيس، وخاصة حركتي فتح والجبهة الشعبية، بل كعناوين وطنية تحاول فرض حضورها وترسيخ أقدامها في المشهد النضالي الفلسطيني.

من الجدير ذكره، إن حِراكات الانتفاضة، وتعدد واجهات العمل التي كانت تدعو في بياناتها لها وتحدد مسار فعالياتها، كانت تختلف - أحياناً- حول فعاليات الإضراب والمواجهة، وهذا الاختلاف في الاتفاق على فعل موحد كان يجر إلى تبادل الاتهام والتشكيك، والذي كان يحتاج تجاوزه إلى جهودٍ مقدرة للجان الوطنية، التي كانت تقوم بعمليات رأب الصدع وإصلاح"ذات البين" بين الفصائل التي تتحرك عملياً في الميدان.

لا يمكننا أن نتجاهل سعي الجميع لإنجاح الانتفاضة والحفاظ على زخمها وقوة الدفع الذي كانت عليه، برغم زعم البعض بقدراته وحضوره الفاعل على ساحتها أكثر من الآخرين!!

لا شك بأن "القيادة الوطنية الموحدة" كانت تحاول وضع الجميع تحت عباءتها والعمل بأجندتها، ولكن الإسلاميين كانوا من جهتهم يحاولون إظهار دورهم وتميزهم، ويعملون لإبراز قوتهم الخاصة، وذلك لحاجة في أنفسهم، مفادها أنهم أحد المكونات الوطنية الفاعلة،والتي بدأت ترسم ملامح حضورها كرقم صعب في المعادلة الوطنية،لا يمكن إنكاره أو تجاوزه، من خلال المشاهد والتعبيرات التي كانت عليها الحالة النضالية في مواجهة الاحتلال.

لقد نجحت الانتفاضة بمشاركة الإسلاميين فيها إلى جانب القوى الوطنية الأخرى، أن تعطي الجميع ما كان يتطلع إليه من مساحات الحضور والظهور الإعلامي، ولكنَّ ذلك أثَّر - بلا شك - على طبيعة العلاقة التنافسية بين الجميع، وخاصة التيار الوطني والتيار الديني. وبرغم تلك الخلافات، إلا أنها لم تؤثر كثيراً على استمرارية الانتفاضة، وقد أكسبت الجميع تجربة نضالية يعتز بها ويفخر، وأسهمت كذلك في فهم كل طرف للآخر، وتفهم تطلعاته في المشهد الوطني والنضالي العام.

إن حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي تنتمي تاريخياً لحركة الإخوان المسلمين، كانت ولادتها الحقيقة مع لحظة شروق الانتفاضة، وإنجازاتها تجلت من خلال الدور الذي لعبته في فعاليات تلك الهبّة الشعبية، وهو من أعطاها عن جدارة واستحقاق "أنواط التكريم" ومساحات التقدير والمكانة في المشهد الفلسطيني؛ سواء في انتخابات الاتحادات الطلابية والنقابات العمالية، أو ما تحقق على مستوى الانتخابات البلدية، والتي شجَّعت الحركة فيما بعد ومهدت لها الطريق، للدخول والمشاركة في الانتخابات التشريعية، وتحقيق الفوز الذي فاجأ الجميع في الشارع الفلسطيني.

إن من الظلم القول بأن نجاح الانتفاضة واستمرارها لحين توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993، وعودة القيادة الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة عام 1994، وتشكيلها للسلطة الوطنية، يعود فيه الفضل إلى جهة دون أخرى، فالكل الفلسطيني له من سهام الخير ما لا يمكن إنكاره أو التجني عليه، وقد كان لحركة حماس والجهاد نصيب يحسدون عليه من هذا الإرث النضالي، كما كان للآخرين من فصائل العمل الوطني حظهم الوافر في فعاليات الانتفاضة، وما تحقق من تمكين لشعبنا تحت الاحتلال. وإنصافاً للواقع، فإنه لولا حركة حماس وتضافر الجهود والعمل المتميز الذي شاركت فيه القيادة الوطنية الموحدة، والتي كان عماد الفعل فيها هما حركتي فتح والجبهة الشعبية، لتَّم القضاء على الانتفاضة في مهدها، كما سبق حدوث ذلك مع انتفاضات أخرى.

إن هناك الكثير من الدروس والعبر التي شكلت فيما بعد عقلية الإسلاميين، ومهدت الطريق لسلوكيات وحدودية للتعامل مع "الكل الفلسطيني"، ضمن سياقات نضالية وتوافقات وطنية، تتجلى اليوم فيما نشاهده في مسيرات العودة وكسر الحصار، حيث لا يغيب عن مشهد الفعل فيها فصيل أو تيار، فالكل له حضوره في الميدان، وفي قيادة الساحة النضالية من خلال اللجنة الوطنية العليا.

إن ما افتقدناه في انتفاضة 1987، نجحنا في تخطيه نسبياً في انتفاضة الأقصى عام 2000. واليوم، يظهر حجم التلاحم والالتقاء في مسيرات العودة وكسر الحصار، من خلال حركيِّة الشارع الفلسطيني بمختلف أطيافه الحزبية حول رؤية وطنية جامعة، يأمل الجميع أن تحقق ما يصبو إليه "الكل الفلسطيني" في الحفاظ على حيوية القضية في المشهدين الإقليمي والدولي، بهدف تعزيز مشروعنا الوطني في التحرير والعودة.

ودائماً سنظل نقول ونردد: "إذا صدق العزم وضح السبيل".