Menu

د. منى الفرا تكتب للهدف : من ذاكرة الانتفاضة الأولى .. أحلام معلقة

د. منى الفرا

الانتفاضة (2).jpg

خاص بوابة الهدف

رغم ما كان يدور على السطح من ازدهارٍ لاقتصاديات الأراضي المحتلة في عقد الثمانينات من القرن الماضي ومن تطبيعٍ للعلاقة مع المحتل، إلّا أنّ الحالة الوطنية كانت مُلتهبة وكان الجمر لا زال متقدًا تحت رماده. وقبل أن يطوِى العام 1987 آخر أوراقه، تفاعل المخاض الوطني وراح يعبّر عن نفسه في هبة شعبية عارمة اتصفت بالشمولية على مستوى المشاركة والجغرافيا أيضًا. اندلع ما اصطُلِح عليه حينئذ بالانتفاضة، هذا الاصطلاح الذي حفر لنفسه مكانًا في مختلف اللغات.

اندلعت الانتفاضة من مخيم جباليا ثم امتدّت لتشمل كافة أنحاء الأراضي المحتلة، وليخوض غمارها مختلف مؤسسات وشرائح الشعب الفلسطيني؛ عمال، مزارعون، طلبة، جامعات، نقابات ومؤسسات أخرى. وتشكلت اللجان الشعبية المتنوعة في مختلف أنحاء الوطن، وتشكلت أيضًا القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، لتقود ذلك الفعل الجماهيري الثوري بكل بسالة. ذلك الفعل الذي جمع في أتونه الرجل والمرأة والطفل، ليصنعوا ملحمةً وطنية أذهلت العالم.

ولم يغِب القطاع الصحي عن المشهد العام، فعلى الفور تشكلت اللجان الشعبية للخدمات الصحية، وانضوى تحت لوائها العشرات من الأطباء والممرضين ومن المهن الصحية المساندة، ومن كلا الجنسين. وكانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تمثل الحاضنة السياسية لهذه اللجان، إلى جانب الجماهير الشعبية المنتفضة في المدن والقرى والمخيمات.

وبدأنا معًا فعلًا صحيًا ثوريًا تقدميًا. وكان العمل في مجمله طوعيًا؛ التحمنا خلاله مع الجماهير، نتحرك في أوساطها ونسدّ احتياجاتهم الصحية دون كللٍ وبإمكانياتٍ محدودة؛ خصوصًا في ظل تراجع خدمات الأشكال الصحية الرسمية كالتأمين الصحي الحكومي، وفي ظلّ ملاحقة الاحتلال ومطاردته لقيادات العمل الوطني في مختلف المجالات، إلى جانب ملاحقة الجرحى والمصابين أنفسهم.

وقد عملت اللجان الشعبية للخدمات الصحيّة على عدة مستويات أذكر منها:

- خدمة صحية علاجية ميدانية، خصوصًا بعد أيام حظر التجوّل التي كانت تطول، مما يمنع الجماهير وخصوصًا أصحاب الحاجة، من تلقى الخدمة الطبية.

- كان هناك بعض المراكز الصحية الأوّلية مثل مركز جباليا وجورة اللوت في خانيونس، ومركز النصيرات وسط قطاع غزة. حيث كانت تقوم باستقبال المرضى والمصابين وسط المواجهات، إلى جانب دعم أسر الأسرى في سجون الاحتلال وتقديم الخدمة الصحية لهم.

- كما برزت النواة الأولى لبرامج التثقيف الصحي لتعزيز الوعي والثقافة في هذا القطاع الهام لدى النساء في المجتمع الفلسطيني.

وكان ذلك يتم بالتنسيق الكامل مع اتحاد لجان المرأة الفلسطينية. وكان العمل الوطني من خلال هذه التشكيلات الصحية المختلفة طوعيًا ومرتبطًا بصورة وثيقة ببواعث ومضامين العمل الوطني؛ بل إنه في سياقات معيّنة كان سريًا ومطاردًا من قبل الاحتلال، حيث اعتقل الكثير من الأطباء والممرضين والناشطين في هذا المجال وزجّ بهم في سجونه.

وينبغي الإشارة هنا إلى الدور البارز للمرأة الفلسطينية في هذا المجال، رغم عدم وجودها في مراكز صنع القرار، إلا أن هذا القصور لم يقلل من شأنها ودورها في مختلف قطاعات وتشكيلات العمل الوطني؛ فقد كانت إلى جانب الرجل كتفًا بكتف ويدًا بيد، ساعيةً لتحقيق نفس الحلم، بناء نظام صحي وطني يؤمن ويمارس فكرة العدالة الاجتماعية ويرفع شعار "الخدمة الصحية حقٌ أصيلٌ لكلِّ محتاجٍ". وفي سياق بناء هذا النظام التقدّمي نخوض غمار المواجهة مع النزعات الرأسمالية وإجراءات الخصخصة وفرص السياسات الصحية الاستراتيجية التقدمية.

ولا يفوتني هنا أيضًا، التذكير بالدور الحيوي لجمعية الهلال الأحمر لقطاع غزّة، بقيادته التاريخية وعلى رأسها الراحل الوطني الكبير د. حيدر عبد الشافي. والذي مثّلَ حاضنةً صحيةً وطنيةً ذات رؤية تقدمية، وقدم كل ما احتجناه من معدات ومستلزمات طبية،إلى جانب جمعية اتحاد الكنائس وكذلك المستشفى الأهلي العربي وجمعية بنك الدم المركزية وجمعية الشبان المسيحية؛ حيث لعبت هذه المؤسسات بطواقمها دورًا حيويًا في توفير مقومات الصمود لجماهير شعبنا ميدانيًا ووطنيًا.

وتعود بي الذاكرة هنا لواحدةٍ من حكايا الانتفاضة التي تعلق بالذاكرة ولا يمكن أن تغادرها. كانت المواجهات في خانيونس على أشدّها، وكُنّا قد قسمنا المناطق إلى مربعات عمل أو نقاط صحية لمتابعة الأحدث الميدانية، وكنت مسؤولة عن شارع منزلنا في المدينة وما يحيط به من بيوت وسكان، هاجم جنود الاحتلال المتظاهرين بشراسة كبيرة وسقط الكثير من الشهداء والجرحى. أحضروا لي أحد المصابين وكان الطلق الناري قد أصابه في منطقة حساسة من جسده، وحين حاولت معالجته رفض بإصرار وظلّ المحيطون به يحاولون إقناعه بشتى السبل حتى قبل أخيرًا بإجراء الكشف الطبي له ومعالجته. وظل هذا الموقف حديث الشارع لسنوات طويلة. ولا زلت إلى الآن أستذكر أحداث تلك الانتفاضة الباسلة بكل فخر، فما أن أعصر ذهني حتى تنهال الذكريات، القاسية منها والطريفة أيضًا. كانت ثقافة شاملة قد تشكلت، وكان شعارها الأساسي: الحرية والاستقلال.

ورغم سلميّتها واقتصار سلاح المتظاهرين على الحجارة، إلا أن الاحتلال وكعادته واجهها ببطش شديد، فقتل وجرح وأسر وحاصر.

ورغم انتهاء تلك الانتفاضة بتوقيع اتفاقيات أوسلو وتشظي الأحلام وتراجعها إلى حنايا الذاكرة، إلا أنّها تبقى صفحة مجيدة ومتوهجة في تاريخ نضال شعبنا، ولا زال شعوري بالفخر والاعتزاز لا يتراجع تجاه هذه التجربة الخالدة المزدحمة بحكايا الفعل الوطني الثوري فكرًا وممارسة.