Menu

صراع الخيارات

معتصم حمادة

ما معنى قول الرئيس عباس أن لا دولة فلسطينية قبل 15 عاماً؟

أصاب البلاغ السياسي، الصادر عن دورة «العيد الخمسين لإنطلاقة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين »، التي عقدها مكتبها السياسي ، حين أكد أن ما تقوم به سلطة الإحتلال، بالتحالف مع إدارة ترامب، هو التطبيق العملي، من جانب واحد، لما يسميه أهل أوسلو «قضايا الحل الدائم». وبالتالي لم يعد هناك ما يلزم إسرائيل بالإتفاق، بينما يبقى الإلتزام قائماً على الجانب الفلسطيني، في جوانبه السياسية (الإعتراف بدولة إسرائيل) والأمنية (التنسيق والتعاون مع قوات الإحتلال) والإقتصادية (التبعية للإقتصاد الإسرائيلي والإرتباط به، وإعتماد الشيكل عملة للتداول).

ومع أن دولة الإحتلال تجاوزت إتفاق أوسلو، من جانبها، فإن الجانب الفلسطيني مازال يؤكد إلتزامه به، من خلال ما بات يسمى «رؤية الرئيس». وهذا يقودنا إلى النتيجة التالية: باتت الحالة الفلسطينية في مرحلة رمادية. هي من الجانب الفلسطيني محكومة بإستحقاقات أوسلو وإلتزاماته، أما من الناحية الإسرائيلية، فهي مرحلة تثبيت أركان «الحل الدائم»، عبر تحويل الحكم الإداري الذاتي إلى «حل دائم» بديلاً للدولة الفلسطينية، وتأكيداً لمقولة نتنياهو «لا دولة ثالثة بين الأردن وإسرائيل».

في ظل هذا الوضع يمكن لنا أن نصف هذه المرحلة الرمادية، بأنها مرحلة «صراع خيارات» بين الأطراف الفلسطينية، في ظل تعدد الخيارات والمشاريع والبرامج.

لم يعد «المطبخ السياسي» يتوقع أن تقوم عملية تفاوضية جديدة. وشروطه على «صفقة العصر» تشكل، على الأقل، من الناحية النظرية عقدة تمنعه من التفاعل الإيجابي مع الصفقة، خاصة مطالبته الإدارة الأميركية بالتراجع عن الإعتراف ب القدس عاصمة لإسرائيل، والتوقف عن نقل السفارة الأميركية إليها. «فالمطبخ السياسي»، يدرك جيداً أن لا عودة أميركية إلى الوراء، بل إن «صفقة العصر»، وضعت، لا للإعلان عنها، بل لتطبيقها. وهي تطبق خطوة خطوة، ليس من قبل الولايات المتحدة وحدها، فحسب، بل وكذلك من قبل حكومة نتنياهو. فترامب، الذي لم يستكمل صياغة صفقته، تراه يربط مسألة الإعلان عنها، بالواقع الميداني، وحدود تطبيقات إسرائيل لـ«الحل الدائم». وبالتالي فمن المتوقع أن لا يتم الإعلان عن «الصفقة» إلا بعد أن تصدر الإشارة من ديوان نتياهو.

«المطبخ السياسي»، هو خير من يعرف ذلك. لذلك نراه يعارض «الصفقة»، ويدين إجراءات نتنياهو، ويستنكر سياسته، حتى أن معظم مؤسسات السلطة تحولت إلى «مكاتب صحفية»، باتت مهمتها الرئيسة إصدار البيانات، خاصة «الخارجية»، و«مجلس الوزراء» و«ديوان الرئاسة» وغيرها. لكن «المطبخ السياسي»، في الوقت نفسه، لا يدخل الإشتباك الميداني، في مواجهة عملية لما يجري. لأنه، وهذا ما يجب التأكيد عليه، اعتمد «رؤية الرئيس» مشروعاً سياسياً له، بديلاً لقرارات المجلسين المركزي والوطني، التي دعت إلى إعادة تحديد العلاقة مع سلطات ودولة الإحتلال. وبالتالي بات المشروع السياسي للقيادة الرسمية هو «الدفاع عن إتفاق أوسلو»، ومنع إنهيار الإتفاق، أي بتعبير أكثر وضوحاً، بات المشروع السياسي للقيادة الرسمية هو «الدفاع عما تبقى من السلطة الفلسطينية»، وربط مصيره بهذه السلطة، لأنها هي التي راكمت له، وللطبقة البيروقراطية العليا في الأجهزة الإدارية، والسياسية والأمنية، وفي الإقتصاد وغيرها، مصالح فئوية طبقية بات الحفاظ عليها وصونها يتطلب الحفاظ على الوضع القائم، وعدم إحداث أي حراك فيه، حتى لا يقود هذا الحراك إلى تقويض مصالح الطبقة الحاكمة وحلفائها والملتحقين بها. ولعل هذا ما يفسر قول الرئيس محمود عباس ، في القاهرة، أمام وسائل الإعلام، أن لا دولة فلسطينية حتى 15 عاماً. فالدولة المستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس الشرقية، وعلى حدود 4 حزيران (يونيو) 67، لم تعد على جدول أعمال «المطبخ السياسي». خيار «المطبخ السياسي» بات الدفاع عما تبقى من السلطة، والدفاع عما تبقى من أوسلو، ومنع إنهيارهما، لإرتباط مصالح «المطبخ السياسي» وحلفائه بهما.

في ظل ما بات يعرف بـ«تفاهمات التهدئة» بين حماس ودولة الإحتلال، دخل الإنقسام مرحلة جديدة، لم تعد فيها حركة حماس تعاني من الضغط المالي الذي تمارسه السلطة في رام الله عليها، خاصة بعد سماح تل أبيب، لحقائب ملايين الدولارات القادمة من الدوحة، المرور في مطار اللد. لا شك أن إنفراجة حصلت في القطاع، وأن كثيرين بدأوا يتسلمون رواتبهم، أو ما يشبه رواتبهم. كذلك تحسنت الخدمات، خاصة الكهرباء وبات الوضع في القطاع أكثر إرتياحاً، بحيث فقدت أدوات الضغط لدى رام الله الكثير من تأثيرها. فضلاً عن التقدم السياسي الذي حققته حماس، بحيث باتت دون أوفى شك، طرفاً في المعادلة السياسية في المنطقة. تتعامل معها الأمم المتحدة من خلال مبعوثها إلى المنطقة بإعتبارها سلطة الأمر الواقع. كذلك تعاملها إسرائيل بإعتبارها سلطة الأمر الواقع، ومن زاوية سياسية خبيثة، في عملية إستغلال فاقع لحالة الإنقسام، والدفع بها نحو مواقع أكثر خطورة.

لذلك، وكما يلاحظ، فإن خيار حماس، وكما تؤكده الوقائع، لم يعد، حتى إشعار آخر، العودة إلى المباحثات الثنائية مع فتح، ولا إلى إحياء تفاهمات 12/10/2017. فبعد التطورات الأخيرة، ترى حماس أن هذا التفاهمات أصبحت متقادمة، ولا بد من «تفاهمات» جديدة، تأخذ بالإعتبار التطور الإيجابي الذي تحقق لصالح الحركة الإسلامية.

لذلك نعتقد، جازمين، أن خيار حماس، في هذه المرحلة، هو العمل على تمكين سلطتها في القطاع. وهو من شأنه أن يخدمها في كل الإتجاهات. إذا ما تعطلت بشكل دائم عملية إنهاء الإنقسام، تكون حماس قد رسخت وجودها. وإذا ما استؤنفت مباحثات إنهاء الإنقسام، يكون بحوزة حماس أوراق قوة جديدة تحسن لها مواقعها التفاوضية.

الخيار الثالث (وهو الأول في الحسابات الوطنية) هو خيار المقاومة الشعبية بكل أشكالها. هو الخيار الذي لم يسقط يوما ً من حسابات الشارع الفلسطيني. ومنذ خريف العام 2015، والمقاومة الشعبية تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة، في القدس، وفي الضفة الفلسطينية، وفي قطاع غزة. وفي ظل دعم غير محدود من الفلسطينيين العرب داخل دولة إسرائيل، وفلسطينيي الشتات. ما يؤكد وحدة الشعب، ووحدة قضيته ووحدته النضالية.

لكن، وبإعتراف الصف الواسع من القوى السياسية، تفتقر هذه المقاومة إلى عملية تأطير، وهيئات تنسيق وتوحيد، كما تفتقر إلى «الهيئة الوطنية العليا» على غرار الهيئة الوطنية لمسيرات العودة وكسر الحصار، أو ما يشبهها. لذلك تتواصل هذه المقاومة في الضفة، وتقدم في السياق تضحيات باهظة [الإحصائيات تتحدث عن 41 شهيداً في الضفة خلال العام 2018، وإعتقال أكثر من 6500 مواطن، بينهم نساء وأطفال ومصادرة أملاك واسعة، وبناء حوالي 6 آلاف وحدة إستيطانية، 83 % منها في المستوطنات المسماة معزولة، على طريق تسمينها تمهيداً لضمها إلى دولة الإحتلال. فضلاً عن حجز أكثر من 350 ألف مواطن فلسطيني خل جدار الفصل والضم العنصري]. وإذا كانت مسيرات العودة وكسر الحصار قد خطفت الأضواء، خلال العام 2018، فإن معركة المشروع الوطني، ومعركة إجهاض المشروع الصهيوني، تدور على أراضي القدس والضفة.

من هذا المنظار يمكن القول إن «الخيار الثالث» (الخيار السياسي الأول للشعب الفلسطيني) تصادفه عقبات كبرى، يمكن إزالتها إذا ما توفرت الإرادة السياسية، خاصة وأن المقاومة الشعبية، كما دللت الوقائع، لا تقف عند حدود فصائلية، بل هي عابرة لقواعد الفصائل، بغض النظر عن سياسات قياداتها. هذا من شأنه أن يرمي الكرة في ملعب القوى اليسارية والديمقراطية والوطنية والليبرالية، التي تقدم نفسها صاحبة البرنامج الوطني، والتي تتمسك بقرارات المجلسين المركزي والوطني، والتي تدين الإنقسام وتدعو لإنهائه، والتي تطالب بوقف التنسيق الأمني، وإعادة بناء المؤسسة الوطنية على أسس ديمقراطية وإئتلافية، ووقف العبث السياسي في الصف الوطني.

بعض المراقبين رأى في ولادة « التجمع الديمقراطي الفلسطيني » خطوة في هذا الإتجاه. ما يعني أن صفاً عريضاً من الرأي العام، ينظر إلى «التجمع»، بإعتباره «التيار الثالث»، الذي من شأنه أن يملأ الفراغ الناجم عن إرتباط «المطبخ السياسي» بأوسلو، وعن إنشغال حماس بقضايا سلطة الأمر الواقع في القطاع. دون أن نتجاهل أن كثيرين مازالو يتوجسون من إمكانية فشل «التجمع» في تحمل أعباء الشعارات السياسية التي تشكل تحتها.

وبالتالي فإن «التجمع الديمقراطي الفلسطيني»، على المحك، وبرنامجه هو البرنامج الوطني المجمع عليه من كل القوى والمؤسسة الوطنية، والذي لا تجرؤ قوة سياسية واحدة على رفضه.

فهل يشق «الخيار الثالث» طريقه ليقدم في العام 2019 صفحات جديدة، على طريق تطوير المقاومة الشعبية، وكل أشكال الحراك الشعبي، في الميادين المختلفة.