Menu

فيلم عذرًا عن الإزعاج: تقاسيم على مقام الصراع الطبقي

أحداث القصة تدور حول شخصية شاب أمريكي يُدعى كاسيوس غرين وصديقته

سهى عودة- وكالات

عذرًا عن الإزعاج فيلم لمخرج الأفلام المستقلة الأميريكي بوتس رايلي، وكان من أبرز الأفلام المستقلة، وأكثرها نجاحا، في العام الفائت. قصة الفيلم تدور أحداثها حول شاب أمريكي أسود يدعى كاسيوس غرين يعيش هو وصديقته في مرآب منزل عمه، والأخير يُذكِّره بأنه تخلف عن دفع أجرة المرآب منذ أربعة أشهر. فيجيبه غرين بأنه لا يزال يبحث عن وظيفة.

يشكل الفيلم إضافة مهمة للإنتاج الأدبي والفني في الصراع الطبقي ومناهضة النظام الرأسمالي والاستغلال وحقوق العمال. وحتى لا يكون المصنف الفني المناهض للنظام الرأسمالي أشبه بمحاضرة تقليدية مملة يسهل معها تشتيت الأذهان، يلجأ المخرج للكوميديا في محاولة منه للتقرب من المشاهد البعيد كل البعد عن كل ما هو نقد للوضع العام أو حتى الخاص، وبذلك يكون قد جعل من المصنف متاحا من حيث يسهل فهم المعلومات التي يحاول المخرج المشاركة بها من خلاله، بعكس الكثير من المصنفات الأدبية والفنية التي تتناول الصراع الطبقي والتي تأتي في قالب لا يجعلها متاحة أي يصعب على القارئ أو المشاهد فهمها. 

يتقدم غرين بطلب لشغل وظيفة في شركة جل ما عليه القيام به هو إجراء مكالمة هاتفية للأشخاص المدرجة أسماؤهم ضمن جداول ومحاولة بيع سلعة أو خدمة ما. حتى بعد كشف أكاذيبه، يتم القبول بغرين وزميله في الوظيفة بالرغم من ادعاء كليهما الحصول على تقدير من عملهم السابقة وبعض الجوائز التي من شأنها أن تزيد من فرص الحصول على أي وظيفة للمتقدم. هل تتحقق الشركات التي تدّعي أنها بصف العمال من مؤهلاتهم العلمية وخبراتهم وكل المعلومات التي يتم الإدلاء بها أمامهم في المقابلة الشخصية أم أنها لا تكترث لذلك؟ العمال هم مجرد بطاريات محدودة الطاقة يتم تفريغها أثناء القيام بالوظيفة ولا توجد بطارية مخالفة للقانون وأخرى مثالية بنظر الشركات.

يشرح مسؤول غرين في العمل عن إمكانية ترقية المسوقين عن طريق الهاتف إلى مسوقين عن طريق الهاتف "أقوياء" وذلك من خلال جلب أكبر عدد من العملاء والزبائن. من مميزات أن يصبح الشخص مسوق عن طريق هاتف قوي هو استخدامه المصعد الذهبي. العمال في الشركة لا يتسلقون سلم النجاح وحسب بل أصبح بالامكان أن يستقلوا مصعدا لذلك. ولكن يصبح المسوق مسوقا قويا؟ يحاول غرين مرارا وتكرار جلب الزبائن ولكنه يفشل. يلفت زميله الأكبر سنا في العمل (الممثل داني غلوفر) انتباهه لمشكلة ما وهي عدم استخدام غرين لما يعرف بـ"الصوت الأبيض". 

الصوت الأبيض ما هو إلا ضرب من ضروب "سياسة الدمج" Assimilation  التي استخدمها المستعمرون البريطانيون ضد السكان الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية واستراليا والتي بعد المطالبات باسقاطها أخذت تتغلغل بشكل سياسات في أماكن العمل والدراسة وباتت تعرف ب Respectability Politics؛ أي أن يقوم الشخص غير الأبيض بتغيير كيفية التواصل والتعبير والمظهر الخاص به وثقافته لكي يحاكي ذاك الخاص بالشخص الأبيض حتى ينال الاعتراف بآدميته! الصوت الأبيض، أن يتخلى غرين عن هويته وكل ما يلمح لها كطريقته في الكلام وصوته كشخص أسود، ويستبدلها بطريقة كلام وصوت الشخص الأبيض! ما إن يتبع غرين نصيحة زميله حتى ينهال عليه الزبائن ويصبح مسوقا قويا! يشير رايلي إلى وجود ارتباط عميق بين العنصرية والصراع الطبقي في عصرنا الحالي حيث يرينا كيف أن المستهلك أو الفرد أكثر إصغاء واقتناعا حينما يكون الشخص الذي يحاول يبيع خدمة أو سلعة ما أبيضا بالرغم من عدم كونه ذلك إلا أنه يبدو كذلك. يسري ذلك على أمور كثيرة وليس فقط النشاط التجاري. فجميعنا "ينحاز" إلى ذوي البشرة البيضاء ويفضلهم على غيرهم بسبب نظام العنصرية السائد.

تعزو أهمية وجود مصنفات أدبية وفنية تتناول الصراع الطبقي من ذوي البشرة السوداء إلى نظام العبودية وحركة تجارة الرق عبر المحيط الأطلسي من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر عن نظام الرأسمالية في الولايات المتحدة الأمريكية. إبراز دور الرأسمالية في حركة العبودية والتذكير بأنها الدافع الأساسي لقيام الحركة، إلغاء الكينونة القانونية والمستقلة للرق كان بدافع الامتناع عن دفع الأجور والمطالبة بأي حق والقيام بعملية الانتاج كليا دون أي مقابل. فتجارة الرق والنظام الرأسمالي مرتبطان ارتباط وثيق بالرغم من محاولة الرأسماليين دحض ذلك.

يبتعد الفيلم عن مقارنة العمال بالروبوتات وهي من المقارنات التي يتلذذ بها أصحاب المنشآت بل ويتفضلون على العمال بها ذلك أنهم عوضا عن الاستعانة بروبوتات وأنظمة ذكية للقيام بأعباء الوظيفة قد استعانوا ببشر ووفروا لهم الوظائف. يكتشف غرين فيما بعد قيام الشركة التي يعمل لديها بإجراء تجارب على البشر وتحويلهم إلى مخلوقات "أكثر قدرة على الإنتاج" وتبدو في هيئتها كالأحصنة. يذكرني هذا المشهد بمصطلح "كديش" الشامي وهو ما يطلق على الحمار ويقال بالعامية "عيشة الكديش" أو "كدشوا" أي العمل بلا توقف. مرة أخرى، يوفق رايلي في إيصال فكرتين وهي أن الرأسمالية تنفي صفة الآدمية عن البشر، وأن نظرة الرأسمالية إلى العامل لم تتغير منذ زمن تجارة الرق عبر المحيط الأطلسي إلى عصرنا هذا فكلاهما ليس إنسانا. 

يُظهر الفيلم عقود العمل الطويلة الأمد الحياة على حقيقتها، حيث يشارك العمال المتعاقدون لمدى الحياة مع شركة زملائهم السكن (يشاركونهم حتى السرير) وتوفر لهم الشركة وجبات سيئة المذاق والقيمة الغذائية فعن أي حياة كريمة تتحدث وأنت لا تملك المساحة حيث تقطن ولا حتى الخيار فيما تأكل؟ كذلك يشير الفيلم إلى تردي مستوى المحتوى الترفيهي في ظل النظام الرأسمالي الذي يجني أرباح من وراء استغلال الناس. حيث يجلس غرين ورفاقه ليشاهدوا التلفاز وإذ ببرنامج على غرار برامج تلفزيون الواقع يتلقى فيه المشاركون اللكمات. أين الترفيه في استغلال حاجات الناس وبث آلامهم بغية الحصول على أكبر عدد من المشاهدين؟

ماذا يستخلص المشاهد من عذرا عن الازعاج؟ أن العمل في القطاع الخاص لا يوفر الحياة الكريمة كما يتوهم البعض؟ وإن حصلت زيادة في رصيد العامل فإنها تكون على حساب مبادئه وصحته وعلاقاته؟ وأن المستفيد الأول والأخير في المنشأة هو صاحب المنشأة لا العامل؟ هل يعي العمال حقيقة كونهم ترسًا في ماكينة إنتاج ثروة مملوكة لصاحب المنشأة؟ وأنه ما إن يتوقف الترس عن العمل حتى يتم استبداله بترس آخر؟

فيلم عذرا عن الازعاج جدير بالمشاهدة، صحيح أننا سنشاهده على الكنبة، لكنه يمثل مرآة لمجريات الصراع الطبقي.