Menu

غزة.. تخصصات نادرة دفنتها الأزمات السياسية

محمد أبو ضلفة

غزة _ خاص

"الكساد الاقتصادي الكبير يشبه حالات البطالة الشديدة، فكليهما تم إنتاجه من خلال سوء الإدارة الحكومية، وليس بسبب أي اضطراب متأصل في الاقتصاد الخاص"، هذه الكلمات كتبها عالم الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان، الحاصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1976.

ولقطاع غزة من هذه المقولة نصيب، ففيه تُضاف الأزمات السياسية إلى عوامل سوء الإدارة، التي تتسبّب بالمشكلات الاقتصادية، ومنها أزمة الموظفين التي خلّفت، على مدار 12 سنةً ويزيد، خسائرَ لم تقتصر على الجوانب المادية بل تعدّتها إلى خسارة كفاءات وموارد بشرية في مجالات هامة.

في هذا السياق، رصدت بوابة الهدف عددًا من الحالات، لموظفين درسوا تخصصاتٍ، تعتبر -على أهمّيتها- نادرة في قطاع غزة، تمكّنوا على إثرها من الحصول على وظائف في قطاعات حكومية، إلّا أنهم واجهوا صعوباتٍ جمّة وخيباتِ أملٍ لا تُعدّ مع اتساع وتفاقم أزمة الموظفين على مدار سنوات الانقسام المشؤوم.

تخيّل أن تدرس الطيران لتمتهنه، وبعد أن تُمارسه وتعيش تجربته الفريدة تُجبَر على الجلوسِ في المنزل دون عملٍ، هذا بالفعل ما حصل مع أحمد (اسم مستعار)، فآماله بالتحليق في الجوّ مجددًا تبدّدت مع سريان قرار الرئيس محمود عباس وقفَ موظفي السلطة الفلسطينية في قطاع غزة عن العمل، وهو ما عُرف بين المواطنين اصطلاحًا باستنكاف الموظفين.

خلال حديثه لـ بوابة الهدف، يقول الموظف أحمد إنّ حياته المهنية انتهت تقريبًا، فمسيرة الطيار تُقاس بعدد الساعات التي يقضيها في الجو، وهو توقف عن الطيران منذ سنوات طويلة، ومن الصعب جدًا تعويض ما فاته من خبرات، مشيرًا إلى أن الطيران ليس مثل أيّة قيادةٍ تصبح روتينية بعد وقت من الممارسة؛ إنّما هي بحاجةٍ إلى إلمامٍ ومتابعة حول علومٍ أخرى مثل الأحوال الجوية وبعض المسائل الفزيائية.

"أنا نادمٌ بعض الشيء لأنّي درست مهنةً يصعب ممارستها في فلسطين، حتى لو كانت الأوضاع السياسية الداخلية بخير، لكن ندمي الأكبر كان البقاء وعدم البحث عن فرصة عمل في الخارج لممارسة الطيران، أنا أعمل على ذلك الآن، ومستعدٌ لدفع الأموال حتى أعود إلى التحليق مرة أخرى" يُضيف أحمد.

وترتب على الانقسام الفلسطيني مُنتصف العام 2007، نشوء سلطتين سياسيتيْن وتنفيذيتيْن؛ إحداهما في الضفة الغربية المحتلة تحت سيطرة حركة فتح، والأخرى في قطاع غزة تحت سيطرة حركة حماس .

وعقب قرار "استنكاف الموظفين" عملت حكومة غزة على توظيف عشرات الآلاف لسدّ الشواغر في الوزارات والهيئات المختلفة، في حين تجمّد موظفو السلطة في مكانهم، بدون عمل ولا مُستحقات وظيفية، ومؤخرًا بفُتات الراتب.

موظفٌ آخر، درس هندسة الإلكترونيات في الخارج، وتخصّص في مجالٍ دقيقٍ فيها لا يُوجد مثيلٌ له في القطاع، كما حصل على شهادات في الصيانة والبرمجة من شركات عالمية، يُعاني جرّاء تعطّله عن العمل بفعل الأزمة السياسية التي تجلد رؤوس موظفي السلطة.

يقول إبراهيم (اسم مستعار) لبوابة الهدف إنّ الأوضاع في غزة لا تحدّ من التطور المهني والعملي فحسب، إنّما تساهم في تكريس السلبية، والرغبة في العمل من أجل الحصول على مقابل مادي فقط، وهذا انعكس على كل باحثٍ و مختصٍ يسعى إلى تطوير ذاته أو محيطه في مجالٍ أو مهنةٍ معينة.

على عكسِ سابقه، لم يُبدِ إبراهيم ندمًا على دراسته لتخصّصه التكنولوجي الدقيق، الذي يحبه، إنّما عبّر عن ندمه على قراره العودة إلى قطاع غزة بعد إنهائه الدراسة بالخارج، يُضيف "لم أكن أعلم أن الظروف ستقودني للعمل نهارًا لِقاء 50% فقط من راتبي، وليلًا في ورشة صيانة، من أجل توفير لقمة العيش، هذا كلّه على حساب أسرتي في المقام الأول، ثمّ تطوري المهني.

قاطع حديث الموظفي إبراهيم، اتصالٌ من صديقه الذي يعمل في إحدى الكلّيات التكنولوجية بغزّة، وهو حاصلٌ على درجة الدكتوراة في مجاله، وكان مضمون المُهاتفة "فضفضة" ممّن كان باحثًا متميّزًا في جامعة أوروبية وانتهى به الحال أكاديميًا مُحبطًا من قلّة الإمكانات والوضع المُتردّي له ولطلّابه في غزة.

تُبيّن الإحصائيات مُعدّلاتٍ مُرعبةً للبطالة والفقر في قطاع غزة، إذ وصلت الأولى إلى 54.9%، في ظل وجود قرابة 295 ألف عاطلٍ عن العمل، خلال العام 2018، وبلغت نسبة الفقر 80%. (الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين)

الصحفي والكاتب السياسي هاني حبيب اعتبر أنّ أطراف الانقسام تتحمّل تداعيات ومسؤولية الأوضاع الحالية في قطاع غزة، وقال "إن السلطة الفلسطينية مسؤولة عن ذلك حتى قبل إجراءاتها العقابية التي فرضتها على القطاع (مارس 2017)، كما أنّ "فشل القائمين على قطاع غزة في إيجاد مناخ يمكن من خلاله تحقيق تطور اقتصادي أو وقف التدهور الحالي، يضعهم ضمن دائرة المسؤولية أيضًا".

وخطّأ حبيب السلطة الفلسطينية في قرارها سحب موظفيها من أماكن عملهم في القطاع، وأوضح أنّ هذه الخطوة كانت "خطأً بكل المقاييس، إذ فاقمت الأزمة التي كانت موجودة، وتعززت بشكل واضح بفعل الانقسام والحصار الإسرائيلي وتبعاتهما"، مشيرًا إلى أن الوضع الحالي "لا يُبشّر بالخير" وإنّما يُشير إلى مزيدٍ من السوء والتدهور مُستقبلًا.

وعن خسارة الكفاءات بيّن أنّ "سوق العمل في غزة مغلق، وبعض الكفاءات الموجودة تعمل في غير مجالها من أجل توفير لقمة العيش فقط، فيما وجد البعضُ الآخر الخلاصَ في الهجرة من القطاع، وهذا كلّه يودي بغزة إلى مستقبلٍ حالك السواد، شائخٌ وعقيم" على حدّ تعبير الكاتب حبيب.

المهندسة سميرة (اسم مستعار)، الحاصلة على درجة الماجستير في التخطيط العمراني المتعلق بتأسيس المدن الكبرى، اضطرّت إلى التوقّف عن عملها الخاص مخافةَ الفصل من وظيفتها الحكومية تحت بند "ازدواجيّة العمل"، الذي فعّلته حكومة الوفاق بالعام 2017.

قالت لبوابة الهدف إنّها لجأت إلى العمل بوظيفة أخرى لشغفها تجاه علم الهندسة، وليس للتحصيل المادي فقط، لكنّ هذا تغيّرَ بعدما فقد زوجُها عمله وباتت أسرتها وأطفالها الثلاثة بدون دخل مالي.

تمنّت المهندسة سميرة أن تتحسن الأوضاع السياسية في قطاع غزة، وأن تنزاح عنه أزماته، في مقدّمتها أزمة الموظفين، ليتمكّن زوجها من إيجاد فرصة عمل أخرى، ولتعود هيَ للعمل في مجالها الذي تهوى، سواء ضِمن وظيفتها الحكومية التي حُرمت من ممارستها لأكثر من 12 عامًا، أو من خلال مكتب خاصٍ للتصميم الهندسي.

* رفضت الحالات التي حاورتها الهدف التصريح باسمها الحقيقي خشيةً من إجراءات عقابية من جهات عمله