Menu

نعي مسبق للوساطة اليابانية

محمد السعيد إدريس

نقلًا عن صحيفة الأهرام المصرية

تكشف متابعة الخطاب السياسى الأمريكى إزاء الأزمة المتفجرة منذ أسابيع مع إيران عن «فجوة هائلة» بين دعوة التفاوض «اللينة» وخطاب «التشدد العقابي». هذه الفجوة تتأكد بصفة خاصة فى المزج بين الدعوة الأمريكية «للتفاوض على اتفاق نووى جديد» كما ينادى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وبين حرصه على تأكيد ثقته فى نجاح ما يعتبره «إستراتيجية الضغط القصوي» لإجبار إيران على القبول بمثل هذا الاتفاق.

لذلك يكون منطقياً السؤال عن مدى جدية العروض الأمريكية للتفاوض مع إيران، خصوصاً إذا كانت واشنطن تدرك جيداً أن إيران لن تخضع لضغوط ولن تقبل بشروط.

هل واشنطن جادة فعلاً؟هذا السؤال يفرض نفسه الآن على وجه التحديد بالنسبة لأى تفاؤل بخصوص فرص نجاح الوساطة اليابانية التى سيقوم بها رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى الذى سيزور طهران غداً الأربعاء فى ظل ما يمكن اعتباره تعمدا أمريكيا لإفشال الوساطة اليابانية. فلماذا كان إغراء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لرئيس الوزراء اليابانى للقيام بهذه الوساطة؟

ففى مؤتمره الصحفى يوم الاثنين «28/5/2019» مع رئيس الوزراء اليابانى قدم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الكثير والكثير من «المحفزات» و«المغريات» لرئيس الوزراء اليابانى كى يقبل أن يقوم بالوساطة بين واشنطن وطهران مستغلاً العلاقة الجيدة التى تربط اليابان بالطرفين الأمريكى والإيراني. وما كان ممكناً أن يعلن شينزو آبى زيارة لطهران والقيام بوساطة هدفها «التوصل إلى حل سلمى للتوترات المتصاعدة» بين واشنطن وطهران دون أن يحصل على ضوء أخضر أمريكى قوي.

ففى هذا المؤتمر الصحفى قال ترامب إنه يعتقد أن إيران «ترغب حقاً فى إبرام اتفاق واعتقد أن ذلك ينم عن ذكاء، واعتقد أن هذا يمكن أن يتحقق»، وقال أيضاً «إذا رغبوا فى الحوار فنحن راغبون أيضاً». وزاد على ذلك تأكيد على «عدم نيته تغيير النظام فى إيران، وأنه لا يسعى لإيذاء إيران على الإطلاق». مضيفاً أن «إيران بقيادتها الحالية أمامها فرصة لكى تصبح دولة عظيمة». ولخص موقفه من الأزمة المتفجرة الآن بقوله «نحن لا نتطلع لتغيير النظام أريد فقط أن أوضح ذلك. نحن نتطلع إلى عدم امتلاك إيران أسلحة نووية».

حتما هذه التأكيدات كان لها مردود إيجابى عند رئيس الوزراء اليابانى وشجعته على طرح فكرة القيام بدور «الوساطة» خصوصاً أن محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيرانى كان قد قام بزيارة لليابان قبل أسبوعين فقط من زيارة دونالد ترامب، وأن وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو دخل هو الآخر، بعد ثلاثة أيام فقط من زيارة ترامب لطوكيو، فى مزاد التحفيز للوساطة اليابانية عندما أعلن من سويسرا 1/6/2019 «استعداد بلاده للتحاور مع طهران بدون شروط مسبقة»، وقال فى مؤتمر صحفى مع نظيره السويسرى الذى تقوم بلاده بدور رعاية المصالح الأمريكية فى إيران «نحن على استعداد لبدء محادثات دون شروط مسبقة، نحن مستعدون للجلوس معهم إلى طاولة مفاوضات».

تفاؤل أحبطه الأمريكيون أنفسهم. فقد بادرت وزارة الخزانة الأمريكية بإعلان فرض عقوبات على صناعة البتروكيماويات الإيرانية التى تعد عصب الاقتصاد الإيرانى، وذلك بفرض عقوبات على شركة «جى بى آى سي» أضخم مجموعة إيرانية للبتروكيماويات لاتهامها بتقديم دعم مالى ضخم للحرس الثورى الإيراني، وقال سيجال ماندلكز مساعد وزير المالية الأمريكى لمكافحة الإرهاب والاستخبارات المالية أن «الحرس الثورى الإيرانى تسلل بشكل منهجى إلى قطاعات رئيسية فى الاقتصاد الإيرانى لتمويل نفسه». وبعده جاء الدور على مايك بومبيو وزير الخارجية ليطالب إيران «بوقف تهديداتها وتصعيدها النووي، وتجمد تجارب الصواريخ الباليستية وتكف عن دعم الإرهابيين وتوقف الاحتجاز التعسفى للأجانب»، وهو الذى كان يتحدث قبل أيام عن «حوار غير مشروط مع إيران» ثم جاء الدور على جون بولتون مستشار الأمن القومى الأمريكى ليتهم إيران بإنفاق أموال مواطنيها على الإرهاب والاغتيالات، لكن الأهم هو مطالبتها بـ «إنهاء حكم الإرهاب الذى دام 41 عاماً» ويقصد نظام الجمهورية الإسلامية فى انقلاب واضح على تصريحات الرئيس الأمريكى فى طوكيو بأن أمريكا «لا تتطلع إلى تغيير النظام».

عندما يحدث هذا كله قبل ثلاثة أو أربعة أيام على الأكثر من بدء شانزو آبى رئيس الوزراء اليابانى زيارته لطهران فالمعنى المباشر أن واشنطن تتعمد إفشال هذه الزيارة، والسؤال المنطقى لماذا كان الحرص الأمريكى على تحفيز رئيس الوزراء اليابانى للقيام بوساطته؟

هناك من يقول إن ما ورد على لسان ترامب فى طوكيو لم يكن جاداً، وأنه ربما كان يجامل رئيس الوزراء اليابانى الحريص على نزع فتيل التوتر بين دولتين صديقتين لبلاده، وأنه يقوم بالوساطة بدوافع يابانية وليس بإغراءات أو حتى ضغوط أمريكية، وأن زيارة ترامب لطوكيو لم تكن من أجل الأزمة المتفجرة مع إيران ولكن لدوافع انتخابية رئاسية بحتة بالنسبة للرئيس الأمريكى الذى أعلن أنه قرر أن يخوض تلك الانتخابات التى ستجرى فى نوفمبر من العام المقبل، وأنه أراد أن يحقق مكاسب اقتصادية أمريكية مع اليابان وهى الورقة الوحيدة بيده التى يريد أن يسوق نفسه انتخابياً بها، لكن رغم رجاحة هذا الرأى فإن المؤكد أن أمريكا تريد فعلاً التفاوض مجدداً مع إيران ولكن على شاكلة التفاوض مع كوريا الشمالية. إغراءات لغوية وإطراء للشعب ولشخص الزعيم للحصول على مكاسب دون تنازلات.

الإيرانيون فهموا ذلك، فالتشدد الأمريكى ولد تشدداً إيرانياً. فقد اعتبر أمير خاتمى وزير الدفاع الإيرانى «استعداد واشنطن للتفاوض بلا شروط مسبقة كذبا وخداعا ومراوغة». أما على شمخانى الأمين العام لمجلس الأمن القومى الإيرانى فقد اعتبر أن «أمريكا لا تستحق التفاوض، وأن دعوات المفاوضات هدفها الضغط على إيران».

فهمت إيران رسالة القرار الأمريكى بفرض عقوبات جديدة على قطاع صناعة البتروكيماويات، واعتبرتها «برهانا أكيدا على عدم جدية واشنطن للتفاوض»، من هنا جاء قرار مجلس الأمن القومى الإيرانى بوضع ثلاثة شروط للقبول بأى دعوة للحوار أو التفاوض مع واشنطن هي: العودة الأمريكية للاتفاق النووى، ورفع كل العقوبات المفروضة على إيران، وتعويض خسائر إيران. شروط ثلاثة تنعى مسبقاً الوساطة اليابانية وتعود بالأزمة مجدداً إلى دائرة الخطر.