Menu

الموقف الأمريكي من قرار تقسيم فلسطين رقم ١٨١

عبد الرحمن البيطار

في ١٠ شباط ١٩٤٨، كان وايزمان في نيويورك لا يزال يُعاني من الحُمّى التي أصابته، وكان حينها مُنشغلاً في إجراء الاتصالات بأصدقائه هناك ليُدَبِّروا له فرصة الالتقاء بِـالرئيس “ترومان، فشل جميع هؤلاء في تحقيق ما سعى “وايزمان” إليه.

عَلِمَ ”وايزمان” من هؤلاء أن الرئيس الأمريكي كان على وشك البدء برحلة طويلة الأمد خارج واشنطون، في تلك الأيام من شباط ١٩٤٨، كان الجَوُّ بارداً جداً في نيويورك، ويصل إلى درجة التجمد. وقبل أن ييأس تمامًا في مساعيه لتحقيق اللقاء المنشود، قَرَّر “وايزمان” أن يكتب للرئيس “ترومان”، فكتب يقول:

عزيزي الرئيس

في الأسبوع الأخير، كنت على وشك السفر إلى فلسطين من لندن عندما تَسَلَّمتُ مُكالمة عاجلة تم فيها التوسل إليَّ للعودة إلى الولايات المتحدة وذلك في ضوء الأزمة التي عصفت بالأمور في فلسطين. لم يكن من السَّهل عليَّ أنْ أرجىءَ سفري إلى فلسطين، (وما كان ذلك ليحصل) إلا بسبب أني شَعرتُ بأنه يتوجب عليَّ أن أكون إلى جانب شعبي في هذه الوقت الحَرِج (من تاريخه). لقد كان قراري السفر والعودة للولايات المتحدة، مُعلقاً على نحو واسع بالأمل في أن أحظى بفرصة الالتقاء بك مرة أُخرى وفِي أن أكون قادراً (هذه المَرّة أيضاً) على مد يد العون لقومي في هذه الأيام الصعبة والمضطربة.

لقد نمى إلى علمي هذا اليوم بأنك ستقوم قريباً بمغادرة واشنطون في رحلة إلى منطقة الكاريبي. إنّي أتفهم على نحو جيد الكم الثقيل من الانشغالات التي تُحيط بك في ضوء هذه الظروف. وما كنت لأَجْرُأ لأُقحم نفسي عليك في هذه اللحظة لولا أن الوضع، قد بلغ في رأيي قدراً عالٍ جدا من الخطورة. إنَّ لعُنصر الوقت أهمية جوهرية، وإنه إذا ما تم الإخفاق في وقف الاتجاه السائد في تطور الأحداث (المتعلقة بقرار التقسيم)، فإن من المحتمل أن تنتهي الأزمة إلى كارثة ليس فقط لقومي، ولكن لكل فلسطين وللأمم المتحدة على وجه التعيين.

لقد كان لـِ الُّلطف والتفهم الذي أبديتهما تجاهي في زيارتي الأخيرة إليك أثناء وجودي في الولايات المتحدة، الأثر الكبير في الجسارة التي وجدتني أمتلكها في التوسل إليك ،مع (إبداء) الاحترام الكبير لشخصك، أن تقبل مِنّي طَلَبَ استقبالي في أي وقت تراه مناسباً خلال الأيام القليلة القادمة وذلك قبل سفرك، وأن تتيح لي دَقائق قليلة من وقتك الثمين،….”.

جاء الجواب على رسالة “وايزمان” بعد يومين من تاريخ إرسالها، أي في ١٢ شباط ١٩٤٨، وفيه نقل “ماتيو كونيللي”، سكرتير “ترومان” اعتذار الرئيس عن تلبية طَلَبَ وايزمان واستقباله نظرا لأن أجندة الرئيس ترومان في الأسبوع السابق لسفره كانت مزدحمة جداً بالمواعيد والالتزامات.

كان “لِينتنْ ” جالساً إلى جانب السَّرير الذي يرقد عليه “وايزمان” عندما استلم جَواب ترومان. يَصف ”لِينتنْ” مِقدار الأَلَم الذي تفجر في عيني “وايزمان” التي بارحها الإبصار، وذلك وهو يتلقى نبأ إحجام الرئيس عن الالتقاء به. ويقول، أنَّ ذلك ذَكَّرَه بموقف آخر أليم جداً، حصل في العام ١٩٣١، عندما كان “وايزمان” يحضر المؤتمر الصهيوني السابع عشر في بال في سويسرا، وكان رئيساً له، وذلك عندما سحب المؤتمر الثقة بِـ “وايزمان” ، واتهمه بأنّه مُحابٍ جداً للبريطانيين .

في تلك اللحظة، انفجر وايزمان وصاح بالمؤتمرين قائلاً: “إن الصهيونية (هذه) لا تصلح أن تكون أساسا يتم عليه تأسيس دولة مَلَكِيّة أو جمهورية…”

أعاد المؤتمر “وايزمان” إلى موقع الرئاسة في العام ١٩٣٥، غير أنه، وفِي العام ١٩٤٦، أي بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية، عاد المؤتمر الصهيوني المنعقد في ذلك العام واٌتهم “وايزمان” من جديد بالاعتدال والديماغوجية.

لدى تلقيه صفعة المؤتمر من جديد، تَذَكّر “لِينتنْ ” أيضا وجه “وايزمان” وثورته العاصِفة في وجه المؤتمرين في ذلك الوقت. تَذَكَّرَه وهو يَهُبُّ مُقَرِّعاً المؤتمر قائلاً :

أحدهم يَصِفني بالديماغوجي ! “

أنا ديماغوجي …. !، أنا الذي وُلِدتُ على آلآم مخاض حركتنا (الصهيونية) هذه وأوجاعها !

إن الشخص الذي نطق بهذه الكلمة وقَذَفني فيها بوجهي، عليه أن يَعلم أنه لا تُوجد مزرعة أو بيت من بيوت ‘ناهلال’، ولا ورشة عمل صغيرة في تل أبيب أو في حيفا إلا وبها قطر ة من دَمي …….”

لَمْ يتمالك أعضاء المؤتمر أنفسهم وهم يُصغون لكلمات “وايزمان” الحانِقة، فوقفوا لـ “وايزمان” إقرارا بعطائه المُمَيَّز لحركتهم، وضَجَّت قاعة الاجتماعات بتصفيق حاد وشديد تقديرا له.

وفي الوقت الذي جَلَس فيه أصدقاء “وايزمان” حول سريره في نيويورك يكتنفهم حزن شديد عليه، قال أحدهم، واسمه “فرانك چولدمان:

عندي فِكرة. لي صديق حميم اسمه “إدي جيكوبسون”، وهو صديق قديم لـ”ترومان”. دعوني أُهاتفه، لعله يستطيع أن يعمل شيئا ما (مع ترومان). “إدي” ليس صهيونياً، ولكني أعتقد أنّه مُتعاطف مع الحركة الصهيونية…”

هاتف چولدمان صديقه “إدي” الذي كان يُقيم في “كانساس سيتي.

كانت الساعة قد تجاوزت مُنتصف الليل، حيث أخبره أنّه اضطر لمكالمته في هذا الوقت لأنَّ الظرْف لا يحتمل التأجيل أو الإرجاء، وأن “وايزمان” قد جاء إلى نيويورك لغرض مقابلة الرئيس فحسب، وأن الرئيس قد خَذَلَ كل الأشخاص الذين حاولوا ترتيب لقاء لـ “وايزمان” معه، بمن فيهم “إدوارد فلين”، وهو رئيس لجنة الحزب الديمقراطي التنفيذية في “برونكس كاونتي” في نيويورك.

وعاد وقال لـ ” إدي”، بأنَّ الدولة اليهودية قد لا ترى النور أبداً إذا لم يتمكن “وايزمان” من الاجتماع بـ “ترومان،

تَفَهَّم “إدي” حراجة الموقف ، وأخبر صديقه أن يتركه ليفكر في الأمر.

قرَّرَ “إدي” أن يُرسل برقية لـ ” مات كونيللي ”، سكرتير الرئيس، يَحثه فيها أن يقوم بترتيب لقاء لوايزمان مع الرئيس، وأنه هو، أي ” إدي” مُستعدٌ أن يكون حاضِراً للاجتماع المنشود إذا ما رغب الرئيس بذلك.

انتظر ”إدي” أسبوعاً كاملا قبل أن يستلم رَداً بالبريد صادر من قاعدة بحرية في ” كي ويست” حيث كان ” ترومان” في ذلك الوقت.

في تلك البرقية، عَبَّر الرئيس “ترومان” لصديقه “إدي” عن أسفه لعدم توفر فرصة للالتقاء بـ “وايزمان”، لكنه قال: بأنه لا يعتقد بأنَّ لدى “وايزمان” أي شيء يُمكنه إخباره به، ولا يعلمه هو للتّو.

ثم أردف “ترومان” قائلاً :

إنَّ الوضع ، ومنذ عامين ونصف، كان مصدر صداع مستمر له.

ثم قال:

إن اليهود حّسّاسين جداً، كما أنه من الصعوبة بمكان التحدث مع العرب، وأنّه وعلى الأغلب، فإن هناك استحالة لعمل أي شيء، كما أن البريطانيين، كانوا وبدرجات متزايدة غير متعاونين في المساعي الرامية للوصول إلى نتيجة. لقد توقع الصهيونيون مِنّا أن نستعمل عصاً غليظة لصالحهم، ومن الطبيعي ان يُصابوا بالإحباط لأننا لم نكن قادرين على استعمالها.”

وأضاف:

دعنا نتأمل أن تنتهي الأمور إلى ما يُرام، لكني على وشك الوصول إلى استنتاج بأن الوضع غير قابل للحل وذلك كما تبدو عليه الأُمور الآن. غير أني سأستمر في المحاولة لبلورة حل من خلال قرار للأمم المتحدة.

جاء ذلك في جَواب الرئيس على برقية صديقه “إدي”…..!

كان الأسبوع الثالث من شهر شباط من العام ١٩٤٨ على وشك الانتهاء، وقد أضاف جَواب الرئيس مزيداً من الإحباط على “وايزمان”، وفِي أوساط قادة الحركة الصهيونية في واشنطون ونيويورك.

ماذا حصل بعد ذلك ….؟!

سنعود إلى ” دان كيرزمان ” بعد أسبوع للتعرف على ما كتبه أيضاً حول تطورات موقف الولايات المتحدة من قرار تقسيم فلسطين في ذلك الشهر من شهور شتاء العام ١٩٤٨ .

وللحديث بقية