Menu

حول مزاعم «المحرقة الثانية»

علي جرادات

نقلا عن الخليج الإماراتية

في الاجتماع الذي عقدته حكومة الاحتلال «الإسرائيلي» يوم الفاتح من الشهر الحالي، قدم رئيس «معهد سياسات الشعب اليهودي»، دينيس روس، تقرير المعهد السنوي، الذي حمل عنوان: «وضع الشعب اليهودي- تقييم سنوي للعام 2019»، وتضمَّن، فيما تضمَّن، آخر المعطيات بشأن ازدياد نسبة الزواج المختلط في صفوف اليهود حول العالم. وحسب التقرير بلغ عدد اليهود في العالم، (حتى بداية العام الحالي)، 14.7 مليون إنسان، منهم، فقط: 6.665 في «إسرائيل». 

ويشير التقرير إلى أن الرقم الأخير يشمل المستوطنين اليهود في الأراضي التي احتلت عام 67. ويلفت الانتباه، هنا، ما أورده التقرير حول أنه كان في «إسرائيل» في بداية عام 2019 نحو 427 ألف شخص «بلا دين»، أي من المهاجرين الجدد الذين ليسوا يهوداً حسب الشريعة اليهودية؛ لكنهم «ينخرطون من ناحية قومية واجتماعية»، وأنهم «هاجروا إلى «إسرائيل» بموجب «قانون العودة»، وهو الأمر الذي يغيِّر، (حسب التقرير)، النسبة بين اليهود في «إسرائيل» وفلسطينيي 48 من 79% مقابل 21% إلى 74% مقابل 26%. 

ويشير التقرير إلى أن عدد اليهود في الولايات المتحدة بلغ 5.7 ملايين، علماً بأن ثمة تقديرات أخرى تشير إلى أن عدد اليهود الأمريكيين قد وصل إلى 6.7 أو 7 ملايين. 

أما الاستنتاج العام لهذا التقرير، وهنا الأهم، فهو:.. إجمالاً، وفي موازاة الإنجازات الحقيقية الجدية، يمكن القول: إن العام المنصرم لم يحمل أية مؤشرات على إمكانية حصول انعطافة يمكنها ضمان التوصل إلى حلول للقضايا والمشاكل الاستراتيجية الأساسية التي تواجه «إسرائيل»: التهديدات والتحديات السياسية والأمنية والديموغرافية والأخلاقية في غياب حلّ المسألة الفلسطينية. 

وحسب صحيفة «هآرتس»، فإن معطيات التقرير واستنتاجاته وتوصياته قد أرعبت رئيس ووزراء حكومة الاحتلال، وأحدثت لهم صدمة كبيرة، عبَّر عنها وزير التربية والتعليم، (والحاخام الرئيسي السابق في جيش الاحتلال)، رافي بيرتس بالقول: إن انصهار اليهود حول العالم، وبصورة خاصة في الولايات المتحدة، هو أشبه بمحرقة نازية ثانية.. وإنه بسبب الزواج المختلط في صفوف اليهود في السنوات ال70 الأخيرة خسر الشعب اليهودي 6 ملايين شخص.

هنا، واستناداً إلى المعطيات التي أوردها التقرير المذكور أعلاه، وإلى حقيقة أن عدد الفلسطينيين، في الوطن والشتات، قد بلغ أكثر من 13 مليون إنسان، حسب الإحصاء الذي أصدره، مؤخراً مركز الإحصاء الفلسطيني، فلنقل:

* أولاً، إن صدمة حكومة الاحتلال التي عبّر عنها الوزير المذكور أعلاه حول «المحرقة الثانية» إنما تعبر، في المقام الأول، عن القلق؛ بل الذعر، الوجودي، الذي يعتري النخب الفكرية والسياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية «الإسرائيلية»؛ بفعل الحقائق الديموغرافية التي تؤكد أنه لم يعد هناك إمكانية واقعية أو تاريخية؛ لتحقيق هدف إقامة («إسرائيل» اليهودية الخالصة)، لا على أرض فلسطين بين البحر والنهر، ولا حتى على المُحتل منها عام 1948. كيف لا؟ وقد بتنا، بعد قرنٍ ويزيد من الصراع، ومن عمليات التطهير العرقي المُخطط ضد الشعب الفلسطيني، إزاء توازن وتداخل سكاني بين المستوطنين اليهود والفلسطينيين على أرض فلسطين؛ بل، وإزاء ما يقترب من التساوي بين عدد اليهود وعدد الفلسطينيين في العالم. ودع عنك أنه قد ولَّى زمن تعديل هذا الميزان الديموغرافي، بموجات هجرة يهودية كبيرة، أو بموجات تهجير كبرى للفلسطينيين، أو بالأمريْن معاً. 

* ثانياً، إن المزاعم حول «المحرقة الثانية» هذه إنما تعكس التناقض الحاصل والمتنامي بين قادة «إسرائيل» والتلموديين من حاخاماتها وبين أغلب أتباع اليهودية في العالم الذي رفضوا الهجرة إلى فلسطين، واختاروا، طواعية، الانصهار في مجتمعات الدولة/ الأمة التي يتواجدون فيها، ومارسوا حقهم الطبيعي في الزواج المُختلط. كيف لا؟ وقد أصبح أغلب اليهود الأمريكيين، مثلاً، بين المنتقدين، علناً، لخطة «صفقة القرن»؛ وذلك من قاعدة أنها، (الخطة)، التي لا تخدم مصالح اتباع اليهودية في العالم. هنا يتجلى أحد، وليس كل أوجه مأزق قادة الاحتلال الذين ما انفكوا يحلمون بإقامة («إسرائيل» اليهودية الكبرى الخالصة)، بينما لم يُسفر قرن من الصراع عن طرف منتصر بالكامل وطرف مهزوم بالكامل. وهذا هو معنى الاستنتاج العام للتقرير المشار إليه أعلاه: لا حلول لمشكلات «إسرائيل» الاستراتيجية في غياب حلّ المسألة الفلسطينية.