في حالة الصراع لأجل انتزاع التحرَّر الوطني يصبح لكل حدث داخلي معناه الخاص، كجزء مؤثر في مسار الصراع مع الاحتلال، وبالعكس يكون للاحتلال دوره الأساسي في استحداث واستدخال وقائع وظروف جديدة على المجتمعات الواقعة تحت سيطرته، وفي دائرة عنفه وقمعه، ومع ذلك لا يمكن اغفال الدور الأساسي للعوامل الذاتية لدى الشعوب المعرضة للاستعمار والاحتلال، في حماية ذاتها من التأثير الاستعماري العميق، وتصليب بناها الاجتماعية والسياسية.
وفي هذا الإطار يمكن فهم مصطلح الجبهة الداخلية، كمصطلح ينتمي لعلم الحرب والصراع، تنتمي إليه كل تلك المواجهات والممارسات المتعلقة بالبنية الاجتماعية، وحال الجماهير في ظل المعركة أو بين جولاتها، بوصف هذه الحواضن الاجتماعية هي الأداة الأساسية التي تفرز القدرات والأدوات المُختلفة للمُجابهة.
يكتسب مفهوم الجبهة الداخلية أهمية كبرى في الحروب بين الشعوب والمحتلين، فميل ميزان القوة العسكرية المادية لمصلحة القوى الاستعمارية، يكرس رهان الشعب أساسًا على قدرات غير ملموسة ماديًا بالمعنى المُباشر، فالتماسك الاجتماعي، والهوية المُوحّدة، والقناعة بمشروع المواجهة وجدواها، كل هذه ممكنات لقوة المجتمع، وفرص لتفوقه على مشروع الاحتلال وهيمنته.
ليس كل هذا التقديم هروب من حديث صريح وضروري حول التفجيرات الانتحارية الغادرة التي طالت أهل غزة مُؤخرًا، بل ضرورة لتأطير حديث ضروري، لا يقصر المسؤولية أو التداعيات على صناع الحدث أو متلقي الموجة الأولى من ضرره، بل يحيل الأمر لموقعه الأساسي، وهو كونه خرق خطير لحصانة هذا المجتمع، ومدخل لاختلاق نوع مستحدث من الاحتراب الداخلي، يحرق في طريقه كل موارد الصمود الوطني الفلسطيني في هذه البقعة من أرض فلسطين.
إن الضرر الجمعي الناتج عن الحدث، يلزمنا جميعًا على التعامل بدرجة كبرى من المسؤولية الجماعية، والاستعداد لتحمل الأعباء، والتحلي بالصراحة والجرأة لنقد الذات، وتدارك السلبيات والأخطاء، وفي هذه المواجهة مع الغول التكفيري وأنيابه الأمنية المحدقة بالقطاع، يبدو مصدر الخطورة الأساسي يكمن في وجود فكرة الانتحاري، فالكثير يمكن إسقاطهم بالرشوة والتهديد لتنفيذ أعمال مُعادية، لكن تنفيذ هجمات انتحارية لحساب جهات مُعادية لكل ما هو فلسطيني، يعني وجود كوارث على مستوى وعي هؤلاء، سمحت بوصولهم لقناعات أدت لتجنيدهم واستغلالهم لمثل هذه الأفعال الوحشية بحق الذات قبل أن تكون بحق الضحايا.
إن المسؤولية الوطنية اليوم تتطلب من كل فرد فلسطيني في القطاع أو غيره، التعامل مع هذه الحالات، باعتبارها بالأساس هجوم على الهوية الوطنية الفلسطينية، وعلى البنية الاجتماعية، يجب ردعه، من خلال تجفيف روافده، وقطع إمداداته المالية والتعبوية.
فالمعالجة الأمنية قد تعتقل من قام بالتجنيد، لكنها لا تحل مشكلة وجود شخص مستعد ليكون أداة لهذه الأفعال الإرهابية تحت ستار التعبئة الدينية أو غيرها، إن المطلوب اليوم هزيمة هذه الفكرة الوحشية بالفكرة الوطنية الفلسطينية، وردع منابر التنظير لها، بإتاحة باب الحريات العامة وممارستها دون تقييد، واستعادة العنوان السياسي الواضح للجهد الفلسطيني المُوحَّد ضد الاحتلال، وإحياء فهمنا جميعًا عن العيش المشترك والتسامح وحق الاختلاف، واستنهاض المعنى الحقيقي للشهادة في وجه كل هذا الموت المزيف، الذي اخترق وعي أبناء هذا الشعب، وأحالهم لضحايا وقتلة في آنٍ واحد.