Menu

معركة التجويع من أجل التركيع

حاتم استانبولي

في العلاقة بين الفكرة الرأسمالية والفقر والجوع فإن المعركة تحسم لصالح الفقر والجوع، بالرغم من تجميل الفكرة بملائكة الجنة الموعودة.

الأفكار هي نتاج وانعكاس للواقع الاجتماعي، وهي تعبير عن مصالح القوى الاجتماعية المتصارعة؛ الأفكار تنتج نتيجة لانخراط البشر في عملية الإنتاج الاجتماعي، هذه العملية التي يلعب فيها الإنسان دورًا رئيسيًا حاسمًا.

العملية الإنتاجية بغض النظر عن كيفيتها ونوعها، فإن الإنسان هو القاسم المشترك في العلاقة بين المنتج والناتج وتطوير أدوات الإنتاج ووسائله التي تنتج فائضًا للقيمة لا تنعكس في حياة البشر المنتجين لها، بل تتركز في أيدي قلة، وتخلق معادلة بين تراكم القيمة الفائضة (الربحية)، وبين الفقر والجوع، جوهرها يكمن بقدر تراكم الثروات المادية لدى الفئة القليلة لرأس المال بقدر ما تتراكم أعباء الفقر والجوع بين الأكثرية العامة للشعب.

إن أوضح تعبير عن هذه العلاقة تكمن في علاقة البنوك مع الشعب.

لا يمكن أن تعمل البنوك أو تنشأ بدون عملاء من عامة الشعب، بالرغم من امتلاك أصحابها الأموال، ولكن الأموال لا يمكن أن تولد أموالًا إلا بشرط وجود الإنسان كعاملٍ وسيط لتوظيفها، وأكثر توضيح أن الأموال إذا وضعت في الخزائن فإنها لا تتكاثر.

البنوك يعمل ممثلوها في الدولة على فرض قوانين تجبر المواطنين على فتح حسابات تحويل تحت عنوان تحويل رواتبهم، وأضافت خدمة أخرى للبنوك وهي الدفع الالكتروني للرسوم والفواتير، هذه الآلية التي تفرض البنوك من خلالها رسوم تحصيل تؤمن تدفقات شهرية للبنوك بلا أية إنتاجية تنعكس على المواطنين (بمعنى فرضت ضريبة على الدفع وهذه غير قانونية).

التحصيلات المالية التي تحصل عليها البنوك من التدفقات النقدية الشهرية من خلال الرواتب والفواتير والرسوم، تؤمن للبنوك ربحية يومية من خلال المقاصات، ونسب فائدة تحصل عليها من البنك المركزي على أموال المواطنين بدون تقديم أية تسهيلات لهم؛ وإذا فرضت التسهيلات فإنها تكون على شكل قروض عالية الفوائد في معادلة الفوائد، فإن البنوك تقدم ما قيمته فائدة سقفها 2% على الودائع، في حين تأخذ فائدة بمعدل 7%، وتراكمية على قروض الأفراد العقارية والإنتاجية والشركات، مشروطة بتأمين رهن عقاري أو كفالة.

إن الفرق بين قيمة الفوائد بين الودائع والقروض تذهب لصالح البنوك، بالرغم من أن نسبة عالية من القروض المقدمة للمواطنين أو الشركات، هي من أموال الودائع لمواطنين آخرين.

أما عن البنوك الإسلامية، فإنها تحصل قيمة الفائدة مسبقًا من خلال عنوان الربحية التي تضاف للقرض مسبقًا، هذه الربحية التي لا ناظم أو معيار لها، أي إنها تأخذ ربحيتها مسبقًا.

وفي معادلة تسديد القروض فإن أولوية الدفع تكون لصالح الفائدة البنكية، ولهذا فإن المواطن يكافح على مدار سنوات ولا يصل إلى البدء بدفع أصل القرض. وفي حال تراكمية الفوائد فإن المواطن طيلة حياته لن يستطيع دفع القرض ويورثها، أو يتم استعادة العقار، أو وضع اليد على أملاك الشركات.

في الدولة الغير منتجة (الريعية) تلعب البنوك عامل إفقار للدولة والمواطنين، حيث تقوم بإقراض الدولة من أجل دفع التزاماتها للمواطنين (رواتبهم) التي تحولها لحساباتهم في البنوك، وهنا يتجلى الدور الوظيفي للمواطن في معادلة تدوير أموال البنوك التي أقرضتها للدولة. وتلجأ البنوك لتشجيع الحكومات لحل مشكلة القروض الداخلية بالإقتراض الخارجي لتأمين دفع فوائد القروض الداخلية المترتبة على الدولة، وتربط الحكومات بسياسة نقدية لدفع فوائد الديون الخارجية التراكمية بمنظومة القروض الدولية التي تتحكم من خلال أدواتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في الدول وشعوبها، وبهذا فإن دور البنوك يتخطى الحدود الوطنية، وفي التعارض بين الوطني والاستعماري فإن المنظومة المالية تختار أدوات الاستعمار المالي.

إن استمرار البنوك في سياساتها الإفقارية تنعكس اجتماعيًا في الوصول إلى مدخرات المواطنين العينية والعقارية، ناهيك إنها تلعب دورًا مخالفًا للدستور في انصياعها لقرارات البنك الدولي وFID  التي تجبر البنوك على تقديم كافة المعلومات الشخصية والمالية لها؛ لتستخدمها في مراقبة حركة حساباتهم، وتكون بذلك قد كشفت المواطنين في عمل غير أخلاقي، وغير وطني، يخالف الدستور وخصوصية المواطنين.

إن استمرار الخلل في معادلة الفوائد والتحصيل لمصلحة البنوك وأصحابها وانعكاساتها الاجتماعية، تدفع المجتمع إلى التفكك، من خلال انتقال نسبة واسعة من الطبقة الوسطى (المهنيين، والعمال المهرة، وأصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة)، إلى مصاف الفقراء، ويصبح الفقر هو السمة العامة للمجتمع، وتخلق الشروط المواتية للفوضى الخلاقة، وتصبح معركة التجويع من أجل التركيع، هي الهدف للبنك الدولي وأدواته المحلية.

الفوائد البنكية ونظام الربحية هي الشكل الحديث لصورة المرابي (شيلوك)، وهو المتحكم بالعلاقة بين البنوك ودورها الاستغلالي. هذا المثال لا يعني أن نلغي دور البنوك، ولكن المهمة هي إجبار البنوك أن تطلق سياسة وطنية، تساهم في البناء الاقتصادي والاجتماعي، وتكون عاملًا وطنيًا للحفاظ على خصوصية المواطن وكرامته، وتخصص جزءًا من أرباحها التراكمية للمشاريع الوطنية الداخلية ولسد حاجات المواطنين.

ما الذي يقف حائلًا أمام البنوك لكي تساهم في حصة التعليم ورفع رواتب المعلمين الذين هم العامل الحاسم في تربية الأجيال القادمة؟!

البنوك مادتها الخام هم المواطنون وأرزاقهم ورواتبهم وودائعهم، فلتخصص قسمًا من أرباحها لسد حاجيات المجتمع والتوقف عن إفقاره.

لماذا لا نؤسس بنكًا "للدولة" تكون أموال النقابات المهنية والموظفين مادة عملها، وتكون هي أرحم على عملائها من البنوك الخاصة، وتتوقف عن كشف خصوصيات عملائها؛ كالتجربة الصينية والكورية الجنوبية واليابانية سابًقا، وتحول شعار التجويع من إجل التركيع إلى شعار الإشباع من أجل الكرامة؟!