سأتناول في هذا المقال مختلف الآراء المطروحة بخصوص الانتخابات، فلا يكفي عرض كل صاحب رأي وجهة نظره من دون إظهاره لأهميتها وإمكانية تطبيقها، وقيام الآخرين المعارضين بتفنيدها وإظهار عوارها، وذلك على أمل التوصل إلى تصور مشترك، أو فهم أفضل لوجهات النظر المتنوعة والمتعارضة.
بادئ ذي بدء، لا بد من القول إن طرح الانتخابات حتى الآن ليس جديًا، كما قبولها من حركة حماس والفصائل الأخرى كذلك، وإنما مناورة تهدف إلى كسب الوقت، وتحميل "حماس" وإسرائيل المسؤولية عن عدم إجرائها، أو العكس من خلال تحميل الرئيس محمود عباس وحركة فتح المسؤولية عن عدم إجرائها، والدليل تشكيل لجنتين من مركزية فتح وتنفيذية منظمة التحرير من أسابيع عدة، ولم يعلن حتى كتابة هذه السطور عن أسماء أعضائهما.
دليل آخر على عدم الجدية هو تكليف لجنة الانتخابات المركزية بالتشاور مع الفصائل، وهذا ليس من اختصاصها، فهذا شأن سياسي في حين المطلوب منها أمور فنية، كالتحضير للانتخابات عندما يصدر مرسوم بذلك، وتحديث سجل الناخبين ... إلخ.
لو توفرت الجدية لتمت الدعوة إلى حوار وطني جاد وفوري على أعلى المستويات، وبرئاسة الرئيس، للحوار على كيفية مواجهة المخاطر والتحديات التي تهدد القضية الفلسطينية وتوظيف الفرص المتاحة، وكيفية توفير مستلزمات إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، أي أن تكون في سياق كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، وإنجاز التحرير والعودة والاستقلال والسيادة.
حتى تكون الدعوة للانتخابات جدية لا بد أولًا من إنهاء الانقسام. فالوحدة فقط هي المدخل لإجراء الانتخابات، بحيث تكون خطوة إلى الأمام وليس لتحويل الانقسام إلى انفصال.
كما تظهر عدم الجدية في عدم صدور مرسوم رئاسي، مع أن صدوره لا يعني بالضرورة أنّ هناك جدية بعقدها، خصوصًا مع العزم على عقد انتخابات تشريعية أولًا ورئاسية ثانيًا، خلافًا للقانون الأساسي الذي ينص على تزامن الانتخابات الرئاسية والتشريعية إلا في حالة شغور منصب الرئيس، إذ لا بد في هذه الحالة من إجراء الرئاسية خلال ستين يومًا، تمامًا كما حدث بعد اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات.
إن العذر المعلن لإجراء الانتخابات التشريعية أولًا، وتأجيل الرئاسية لأشهر عدة، بحجة عدم حدوث فراغ دستوري، غير مقنع، لأن الانتخابات المتزامنة تجري في نفس الوقت، وتعلن نتائجها معًا بحيث لن يحدث أي فراغ.
وهناك رأي يتردد بشأن إجراء الانتخابات التشريعية فقط، بأن عدم إجراء الرئاسية يعود إلى أن الرئيس بعد الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية لا يصح أن يخوض انتخابات لرئاسة سلطة الحكم الذاتي. والرد على هذا العذر الأقبح من ذنب، يكون بأن هذا ينطبق على الانتخابات التشريعية أيضًا. فلماذا نقيم ونجدد مجلسًا تشريعيًا للحكم الذاتي، ونستمر في المرحلة الانتقالية المفترض أنها انتهت منذ أيار 1999.
يمكن حل هذه المعضلة من خلال إعلان الرئيس والمجلس التشريعي بعد انتخابهما، وفي وقت مناسب، بأنهما رئيس وبرلمان للدولة، لأن الإعلان عن ذلك قبل إجراء الانتخابات يعني عدم إجرائها، فخطوة بهذا الحجم بحاجة إلى تفاوض واتفاق مسبق مع الاحتلال، أو إلى كفاح سيطول ضد الاحتلال لفرض إجراء الانتخابات عليه.
في كل الأحوال، هناك حاجة إلى الكفاح لإجبار الاحتلال على السماح بإجراء الانتخابات، لأن أي حكومة إسرائيلية لن تسمح طائعة بإجرائها، خصوصًا في القدس ، في ظل عاصفة التطرف والعنصرية التي تعصف بشدة في إسرائيل، وتضع ضم الضفة الغربية أو أجزاء منها على الأجندة الإسرائيلية، وليست أجندة بنيامين نتنياهو فقط.
أقوى حجة تقدم لتفضيل إجراء الانتخابات أولًا أن الحوارات التي جرت والاتفاقات التي وقعت طوال أكثر من 12 عامًا، لم تطبق ولن تطبق، لأن أصحاب المصالح والنفوذ ومراكز القوى المستفيدة من الانقسام منعت تنفيذها؛ لذلك لا بد من إجراء الانتخابات كونها هي المدخل لتجديد شرعية السلطة ومؤسساتها، ولإنهاء الانقسام. وبعض أنصار هذا الرأي يتواضع ويقول إن الانتخابات قد تؤدي أو يمكن أن تكون مدخلًا لإنهاء الانقسام.
يمكن الجزم بأن الأفراد والمجموعات، والأطراف المحلية والعربية والإقليمية والدولية، وإسرائيل، ومختلف العوامل والأسباب التي حالت دون تطبيق اتفاقات المصالحة؛ ستقوم بنفس الدور لمنع إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، وتمكن الشعب من ممارسة حقه المقدس في إجراء الانتخابات.
وهناك أنصار آخرون يجاهرون بأن الانتخابات يجب أن تجرى، حتى لو لم توافق "حماس" على إجرائها في قطاع غزة. ويطرحون حلًا لذلك من خلال اعتماد قانون التمثيل النسبي الكامل، ووضع مرشحين من غزة على القوائم، متناسين أن أساس أي انتخابات هو تعدد الخيارات والتنافس الحر، والناخبون وليس المرشحين فقط. ويقترحون نفس الحل إذا منع الاحتلال إجراءها في القدس، متجاهلين أن إجراء انتخابات من دون قطاع غزة والقدس في ظل الانقسام يعطي نوعًا من الاعتراف والشرعية للمخططات الإسرائيلية بضم القدس، وفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية.
ومن المثير للسخرية أن من أنصار الإقدام على المحرمات بإجراء انتخابات من دون القدس وغزة من يقول إن فلسطين ليست استثناء، وينطبق عليها ما ينطبق على بلدان العالم الأخرى التي أجرت انتخابات بأجزاء.
أما الرد على هذا الرأي فيكون بالقول إن فلسطين كلها تحت الاحتلال، وهذا يعني أنها استثناء، وهو لاعب رئيسي يؤثر على إجراء أو عدم إجراء الانتخابات، وإذا جرت يتدخل بقوة في كل مراحلها، من الترشيح، إلى الدعاية، وانتهاء بمصادرة نتائجها، كما حصل بعد الانتخابات التشريعية في العام 2006، من خلال اعتقال عشرات النواب وبعض الوزراء، ويبدو أن البعض كل ما يهمه أن يصبح عضوًا في المجلس التشريعي ومن بعده فليأت الطوفان .
أي انتخابات لن تكون حرة ونزيهة وتحترم نتائجها إذا لم يسبقها توافق على توفير شروط وضمانات تحقيق ذلك فلسطينيًا، ويتضمن ذلك الاتفاق المسبق على القواسم المشتركة سياسيًا، وعلى أي قانون، وما المحاكم التي تتحكم بالطعون وغيرها، وفي ظل أي حكومة ستجري، وكيفية التصرف في حال اعتقال نواب؛ إذ لا بد من الاتفاق المسبق على إصدار قانون في أول جلسة للمجلس التشريعي القادم يعطي لكل كتلة حق استبدال النائب المعتقل أو قيامه بتوكيل بدلًا منه، ولكن استنادًا إلى قانون متوافق عليه وطنيًا مسبقًا، وليس تنفيذًا لقرار اتخذته كتلة واحدة كما فعلت كتلة التغيير والإصلاح التابعة لحركة حماس.
لذا، لا مفر من توفر تيار شعبي سياسي جارف لتحقيق إعادة الاعتبار للمشروع الوطني والمنظمة، وفي سياق ذلك تتم الانتخابات، لأن هذا التيار سيقف بالمرصاد لجماعات مصالح الانقسام، التي هي نفسها تحول دون تغيير المسار واعتماد مسار جديد يقود الشعب الفلسطيني نحو الانتصار.
وهنا، لا يمكن فهم من يطالب بإنهاء الانقسام أولًا، والتوافق على شروط إجراء الانتخابات، عندما يقول: إذا تعذر تحقيق ما يطالب به، يمكن الاكتفاء بالتوقيع على ميثاق مشترك، وتشكيل لجنة وطنية. فهذا شأنه شأن من يقول لمريض بحاجة إلى عملية قلب مفتوح لإنقاذه من خطر الموت: خذ حبة إسبرين إذا لم توافق على إجرائها.
إن إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها في ظل الاحتلال والانقسام من دون توحيد المؤسسات مستحيل، وإذا جرت ستقود، وليس قد تقود، إلى تعميق الانقسام. فيمكن جدًا في ظل سلطتين تشرفان على الانتخابات لكل منهما أجهزة أمنية وقضائية ووزارات خاصة ... إلخ؛ حدوث تزوير، أو عدم الاعتراف بنتائجها والادعاء بأنها زُوِّرت.
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحول دون ذاك هو إنجاز وفاق وطني، يستند إلى درجة من التوافق السياسي والقانوني والقضائي والأمني، ويفتح الطريق لتشكيل حكومة وحدة أو وفاق وطني، تتولى التحضير لإجراء الانتخابات. وإذا كان هذا مستحيلًا، فإجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها تحت الاحتلال وفي ظل الانقسام وبلا وفاق أكثر استحالة.
وأخيرًا، هناك رأي ينطبق علية "حق يراد به باطل"، مفاده أن لا انتخابات تحت الاحتلال، وأن السلطة عبء على المشروع الوطني ويجب حلها، من دون توضيح هل يشمل الحل السلطة في غزة، أم أنها سلطة في أرض محررة، وبالتالي ليس مطلوبًا حلها.
في الأصل هذا الكلام صحيح تمامًا، فكما يقول البروفيسور مشتاق خان، إذا كان يمكن إجراء انتخابات حرة وديمقراطية حقيقية وتنمية مستدامة تحت الاحتلال، فلماذا لا نطالب باستمرار الاحتلال؟
ولكن لا تنتهي القصة هنا، بل لها بقية. فمن بدع اتفاق أوسلو أنه أقام سلطة تحت الاحتلال، وبعد مقاطعة هذه السلطة من معظم الفصائل من داخل منظمة التحرير وخارجها، تمت المشاركة في العام 2006 في السلطتين التشريعية والتنفيذية، باستثناء الجهاد الإسلامي، التي لم تشارك كليًا، والجبهة الشعبية التي شاركت في الانتخابات التشريعية ولم تشارك في الحكومة. كما أن جميع الاتفاقات التي نجمت عن جلسات الحوار تضمنت ما يكفي من بنود تشير إلى التمسك بوجود السلطة، أي أن هناك سلطة أصبحت واقعًا.
وما دامت السلطة قائمة فيجب أن تحظى بشرعية الانتخاب، أو بشرعية التوافق والمقاومة، أو بشرعية التوافق والمقاومة والانتخابات. ومن المثير للغرابة أن هناك مسؤولون ووزراء هنا وهناك يرفضون إجراء الانتخابات تحت الاحتلال، ولكنهم يتمتعون بالمسوؤليات والوزارات وفوئد السلطة تحت الاحتلال!
لم توجد سلطة حسب علمي تحل نفسها، والقوى بأغلبيتها لا تريد حلها، ومن يطالبون بذلك لا يزالون أقلية، والاحتلال لا يريد حلها، وإنما المزيد من إخضاعها، وكذلك الأطراف العربية والإقليمية والدولية لا تريد حلها.
المخرج الوحيد من هذا الوضع هو الكفاح من أجل إعادة النظر في شكل السلطة والتزاماتها ووظائفها وموازنتها، وضمان تجسيدها للتعددية، والمشاركة والديمقراطية التوافقية، والسعي لتحويلها، ولو تدريجيًا، تجسيدًا للدولة، ولكي تصبح أداة من أدوات منظمة التحرير الموحدة، بحيث تصبح سلطة مجاورة للمقاومة، من خلال توفيرها لمقومات صمود وتواجد الشعب على أرض وطنه، وهذا سيدخلها في مواجهة مع الاحتلال شأنها شأن مختلف المؤسسات الفلسطينية.