Menu

24 ساعة في ثلّاجات الموت!

بيسان الشرافي

غزة_ بوابة الهدف

نستيقظُ صباحًا فنغسل وجوهَنا بمياهٍ دافئةٍ تُهوّن علينا برد ساعات الصباح، بعد أن استغرقنا في نومِ ليلةٍ هادئةٍ، تحت أغطيةٍ ثقيلةٍ حجبت عن أجسادنا بردًا، لو كان أصابَها لأعياها. نُبدّل ملابسَنا بأخرى نحرص أن تكون سميكةً لتُدفئنا، نتناول وجبةَ إفطارٍ قد تكون ساخنة لمنحِنا مزيدًا من الدفء مع كوبِ مشروب ساخن أيضًا. وإن كُنا من ذوي الحظ ممّن يستيقظون باكرًا ويتنعّمون بمُتّسعٍ من الوقت، ربّما نجلس إلى جانب مدفأةٍ ونتصفّح هواتفنا لمعرفة آخر الأخبار، أو نتبادل أطراف حديثٍ مع شخصٍ ما.

صباحٌ كهذا يبدو عاديًا لكثيرين، لكنّه يا أعزاء نعيمٌ وفيرٌ وأحلامٌ سرمديّةٌ لا تنقشع عن مُخيّلة خمسة آلافِ فلسطينيّ كان قدرُهم أن يُزجَّونَ في سجونِ دولة الإرهاب الصهيونية "إسرائيل".

هؤلاء محرومون من أدنى حقوقهم الإنسانية، وتمنّ عليهم إدارة السجون الإسرائيلية بفُتاتٍ من تلك الحقوق، تعدّ عليهم الأنفاس والخطوات والأفكار، وتُحاسبهم حتى على "النوايا". ومع بداية كلّ شتاءٍ تنتعشُ دولةُ الإجرامِ هذه، وتتّسع شهيّتُها لمزيدٍ من البطشِ والتنكيل بمن تعتقلهم في زنازينها، وتَرى هذه الشهور القليلة "فرصة لتشديد الخِناق أكثر حول أعناقهم"، هذا ما تُتقنه مُقابلَ فشلٍ مُدوٍ لم تعُد تخفيه في النيل من إرادتهم.

نحن الأحرار- إلّا من خيالاتنا- كيف لنا الهربُ من التفكير فيما يعيشه أسرانا داخل سجون الاحتلال خلال فصل الشتاء- المحبوب لدى غالبيّتنا- لنُفكّر فقط في ما يمرّ به الأسير حين تقتحم قوات السجن الغرف في منتصف الليل وتطردهم- بالملابس التي عليهم فقط- إلى الساحة الخارجية غير المسقوفة للتفتيش أو العدّ؛ سيمكث الأسرى في درجاتِ حرارةٍ تحت الصفر، وربّما تُمطِرُ عليهم لساعات، حتى تتجمّدَ أطرافُهم.

تلك ساعاتٌ قد تمرّ، ثم يعودون إلى الغرف.. ها؟! الغرف، ربّما تجدُر تسميتها بالثلّاجات، هذا المحتلّ الذي يتفنّن في ابتداع أساليب التعذيب، يمنع على الأسرى استخدام وسائل التدفئة، كما يقطع عنهم المياه الساخنة؛ فكيف يُفوّت فرصةً كهذه للتنكيلِ بهم أكثر، وإذلالهم أكثر، وامتهان إنسانيّتهم أكثر وأكثر؟!

يعني هذا أن عودة الإحساس بأطرافِهم ستستغرق مزيدًا من الوقت؛ لذا يدسّ بعض الأسرى أجسادَهم تحت ما توفّر من أغطية، علّها تمدّهم ببعض الدفء. يُفضّل آخرون ممارسة حركات رياضيّة لتُحرّك الدمَ في أوردتهم وترفع حرارةَ أجسادهم قدرَ ما ترفع، في حين ينكبّ بعضٌ آخر على مُغالبةِ دموعِه قهرًا وغضبًا.

ترتفعُ الشمسُ في السماءِ أكثر، سيحين بعد قليلٍ موعد وجبة الإفطار، يليها وجبةُ الغداء، ويأمل الأسرى قبلهما أن تصلا ساخنتيْنِ أو دافئتين، لتُنعِش أجوافهم بدفْءٍ ولو قليل. وهذا الأملُ معرضُ للانهيار، إذ قد تصل الوجبات بادرةً كالثلج، أو فاسدة بسبب الأمطار.

بِثِقلٍ مروّعٍ، يمرّ النّهارُ على الأسرى، ومهما كان عصيبًا، لن يكون كجحيم الليل الذي ينتظرهم. بحلول ساعات المساء يُسارع الأسرى إلى النّومِ؛ والمحظوظ منهم من ينام قبل اشتداد البرد، فإنّ حلَّ هذا قد لا يتمكّن كثيرون من إغماض جفونهم من قسوته.

ليلًا، يتلحّف الأسرى أغطيتَهم استعدادًا للنوم، يلفّونها حول أجسادِهم، يُحكمون قبضاتهم على أطرافِها، ويشدّونها بأرجلهم لمنع تسرّب حرارة أجسادهم من تحتها، تنحني الأجساد على نفسِها مُتّخذةً وضعَ الجنين؛ ليس عمدًا.. لكنّه البرد! وبعد هذا كلّه لن تدفأ، هيَ لعنةُ السّجنِ وظُلمُ السجّان.

وللأسرى المرضى وجعٌ آخر، وبخاصةٍ من كانت علّتُه في عِظامه؛ كمرضى الروماتيزم والمفاصل. الشتاءُ لهم عذابٌ إضافيّ، إذ يُفاقم الألم الذي لن تلتفتَ إليه إدارة السجن، ولن يرفّ لها طرْفٌ مهما زاد؛ بعضُ الحالات لأسرى مرضى أبكت رفاقَهم في الغُرَف، كل ما كان بإمكانهم فعله إيثارُ غطاءٍ أو قطعةِ ملابس وتقديمها لهم، أملًا في تخفيف أثر البرد القاتل.

البوسطة، الباصاتُ الحديثة المُزوّدة بأقسى أساليب التعذيب والتنكيل، هذه قصةٌ أخرى؛ كراسٍ حديديّة، قيودٌ وسلاسل لتكبيل الأسرى في المقاعد، بلا مِرحاضٍ، وتكييفٌ باردٌ جدًا مُسلطٌ على أجساد الأسرى، إنّها "أداة تعذيب متحركة"، و"الفريزر"، كما يُسمّيها الأسرى، يستخدمها الاحتلال لنقلهم بين السجون والمحاكم أو من سجنٍ إلى آخر، وغالبيةُ عمليات النقل التي تُنفَّذ في فصل الشتاء تكون بهدف التنكيل والتعذيب فقط.

من يعتقله الاحتلال حديثًا، وبخاصةٍ الأطفال، يُصعَق من هولِ ما يجد من ظروف الاعتقال عامةً، وما يعيشُه الأسرى في الشتاءِ خاصةً، هؤلاء- المعتقلون الجُدد- يمنعهم الاحتلال من زيارات الأهل وكذلك الشراء من مقصف السجن (الكانتينا) لمدّة تتراوح بين 3 و 6 شهورٍ، لذا يُؤْثِر الأسرى ملابسَ وأغطية لرفاقهم الجُدد، وهم مئاتٌ شهريًا، ما يُفاقم حالة الشحّ الموجودة أصلاً في هذه المقتنيات.

هذا العذاب المُتواصل بحق الأسرى ومُسلسل التنكيل الذي لا يتوقّف.. كيف لا يُشعلُ النار في نفوسنا؟ نارًا تنصبّ حِمَمًا على المُحتلّ وأذرعِ إرهابه، وتُلهب الأرضَ تحت أقدامه انتفاضةً واشتباكًا على كلّ شبرٍ من أرض الوطن. كيف بعد كلّ هذا يُنسقّ "فلسطينيّ" مع "إسرائيليّ"؟ كيف نبتاع بضائعَهم؟ كيف نحضر مؤتمراتهم؟ كيف نُشاركَهم في لُعبة جودو أو كرة قدمٍ؟! كيف نقبل أن يبقى يُباع لنا الوهم باسم السلام في حين تُمتَهن كرامتُنا وتُنسَف حقوقُنا!؟ إنّ كرامة الوطنِ من كرامة الإنسان، وحريّتُه تسمو وتعلو.. هي البوصلة وهي العنوان.