Menu

أي عقد اجتماعي نريد؟

د. غسان أبو حطب

»وُلِدَ الإنسان حُرّاً إلا أنه في كل مكان مُكبّل بالأغلال«

جان جاك روسو

مقدمة:

يعتبر روسو أحد أهم فلاسفة عصر التنوير، وقد شكلت مقاربته حول العقد الاجتماعي أحد أبرز مرجعيات الثورة الفرنسية، وقد مثلت في حينه نبراسًا يُهتدى به ضمن سياق كانت تهيمن به تعاليم الكنيسة ورجالتها على الفضاءات العامة والخاصة، وحظيت نظرية الحق الإلهي بالهيمنة المطلقة أو شبه المطلقة، وقد ركزت مقاربته حول العقد الاجتماعي على الحقوق الطبيعية والمدنية، وعلى العدل الاجتماعي، والحرية كشرط تأسيسي وتكويني، فقد اعتبر أمارتيا صن[1] الحرية غاية التنمية ووسيلتها؛ فالحقوق تمثل الشرط التكويني للحرية بوصفها تنمية، والشرط الأداتي يتمركز حول: الحريات السياسية، التسهيلات الاقتصادية، الفرص الاجتماعية، ضمانات الشفافية، الأمن الوقائي، فجاءت أفكاره متناغمة إلى حد كبير مع متطلبات الواقع المعاش آنذاك، وقد استرشدت العديد من الديمقراطيات الأوروبية بأفكاره ومقتربة حول العقد الاجتماعي. فالشعب عنده صاحب السيادة وهو من يمتلك الإرادة العامة لا ممثليه.

لقد اعتبر العقد أداة إرادية يتنازل من خلاله الأفراد عن حريتهم الطبيعية إلى كل فرد آخر، ويصهروا إرادتهم الفردية في إرادة عامة مشتركة ويتفقوا على قبول أحكام هذه (الإرادة العامة) كأحكام نهائية قاطعة، وهذه الإرادة العامة هي السلطة صاحبة السيادة، وإذا ما فهمت هذه السلطة فهمًا صادقًا فإنها سلطة (مطلقة) و (مقدسة) ولا يمكن الخروج عليها. أما الحكومة فهي أمر ثانوي عرضي، فالملك والموظفون أو الممثلون المنتخبون ممثلون عن الشعب الذي يملك السلطة والسيادة.

يتلخص جوهر العقد الاجتماعي بأن يضع كل واحد منا شخصه وكامل حقوقه تحت الأمرة العليا للمشيئة العامة، وأن غاية العقد الاجتماعي الحفاظ، ولا ريب على حياة المتعاقدين، وكل عقد يحد من سلطة الشعب السائدة المطلقة يقوِّض أساس الميثاق الاجتماعي، ليس ممثلو السلطة التنفيذية إذا كانوا قادة الشعب أو رؤساء، إنما هم موظفون عنده وهو من يعيينهم أو يسرِّحهم، ولا تقوم وظيفتهم على أساس بنود عقد محدد وإنما على أساس انصياعهم للواجب الذي تفرضه الدولة.

إن النزعة المعيارية هي ما جعل نظرية روسو تحتل مكانة مميزة، حيث رأي روسو أن الواقعة لا تسوغ الحق، لذلك فإن أشكال الحكم في نظر روسو ليست أكثر من أشكال تنظيمية للسلطة التنفيذية ومهما اختلفت أشكال الحكم، تبقى السلطة السيادية على الدوام من حق الشعب، ولكن قد يعهد هذا الأخير بالسلطة التنفيذية، إما إلى الجزء الأكبر من الشعب، وإما إلى عدد محدود صغير من الأشخاص، وإما إلى شخص واحد، ويطلق على الشكل الأول من أشكال الحكم اسم الديمقراطية، وعلى الثاني الأرستقراطية، وعلى الثالث اسم الملكية.

صورة الواقع الفلسطيني 

الاحتلال ماضٍ وبلا هوادة في سياساته وممارساته التمييزية والمخالفة للقانون الدولي الإنساني، حيث تواصل المستوطنات انتشارها وتوسعها، بما في ذلك في شرقي القدس . فحرمان الفلسطينيين يزداد يومًا بعد يوم يزداد من المنطقة المسماة (ج) حسب اتفاقية أوسلو والتي تشكل 62% من مساحة الضفة الغربية وتضم غالبية موارد فلسطين الطبيعية. وما زالت غزة تحت الحصار، وتنزلق بسرعة نحو أزمة إنسانية حادة، فلقد قوّض الحصار المستمر منذ ما يزيد عن اثني عشر عامًا الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وذلك من خلال فرض القيود المشددة على الواردات والصادرات، ومنع إقامة البنية التحتية الحيوية، وحرمان فلسطينيي غزة من إمكانية الوصول إلى الموارد الاقتصادية. كما أدى الحصار إلى عزل غزة عن الضفة الغربية والعالم بأسره، فإزداد تدهور الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية لتصل إلى مستوى غير مسبوق، حيث أسفر الحصار عن تدني إمكانية الحصول على المياه النظيفة المأمونة، وانقطاع إمدادات الكهرباء، وتفشي البطالة والفقر، والعيش في مساكن دون المستوى اللائق، وانتشار انعدام الأمن الغذائي. وهنا نسوق بعض المؤشرات السكانية والاقتصادية التي تلخص الواقع الفلسطيني:

أولاً: المؤشرات السكانية[2]:

تشير الإحصاءات المتوفرة إلى أن عدد أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج مع نهاية 2019 بلغ نحو 13.350 مليونًا، نصفهم تقريبًا (49.7%) داخل حدود فلسطين التاريخية، أي قرابة 6.637 مليون فلسطيني موزعين على الضفة الغربية 3.02 مليون، وفي قطاع غزة نحو 2.019 مليون، وفي فلسطين المحتلة 1948 قرابة 1.598 مليون.

أما في خارج فلسطين يقيم نحو 6.713 مليون، وقد بلغ عدد اللاجئين المسجلين لدى الأونروا نحو 6.172 مليون لاجئ، أما العدد الحقيقي فيبلغ نحو 8.990 مليون لاجئ مسجل وغير مسجل لدى الأونروا.

ثانيًا: المؤشرات الاقتصادية:

أطّر بروتوكول باريس الاقتصادي لعام 1994 الاقتصاد الفلسطيني في مرحلة أوسلو، وباعتباره الملحق الاقتصادي لاتفاقية أوسلو، تمكن البروتوكول من مأسسة الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية على الموارد الأساسية للاقتصاد الفلسطيني، وأعاد تعريف الهيمنة الاقتصادية، من كونها تبعية قسرية منذ عام1967 ، إلى تبعية بالتعاقد تستند إلى اتفاقات معترف بها دوليًا. فقد[3]:

  • مأسس البروتوكول نظام التبادل التجاري غير المتوازن، من خلال إضفاء صفة رسمية على الاتحاد الجمركي غير المتوازن.
  • يتحكم المُستعمر بالمعابر والحدود وحركة النقل والتجارة وحركة الأفراد.
  • لا يستطيع الفلسطينيون الاستيراد والتصدير من دول لا يقيم المُستعمر معها علاقات سياسية أو تجارية، وبالتالي يُحرم الاقتصاد الفلسطيني من التعامل مع 48 دولة لا تقيم علاقات مع المُستعمر قد تكون سلعها أفضل وأرخص.
  • لا يستطيع الاقتصاد الفلسطيني التوسع تصديرًا واستيرادًا إلا من خلال الموافقات الاستعمارية.
  • حدود التوسع بالقاعدة الإنتاجية محصور بالمنطقتين أ و ب وفقًا للمخطط الهيكلي للمُستعمر.
  • يُحرم الاقتصاد الفلسطيني من إقامة الموانئ والمطارات والسكك الحديدية لتسهيل تدفق السلع والخدمات والتجارة.
  • محظور التعامل بحرية مع مدينة القدس إنتاجًا وتصديرًا واستيرادًا.
  • تخضع التجارة الخارجية لغلاف جمركي موحد مع المُستعمِر.
  • يقوم المُستعمر بتحصيل الرسوم الجمركية والضرائب على البضائع والسلع مباشرة قبل تحويلها لخزينة السلطة.

في ضوء ذلك، فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي للسلطة الفلسطينية وفق تقديرات 2019 نحو 16.82 مليار دولار، مقابل الناتج المحلي الاسرائيلي الذي بلغ وفق تقديرات 2019 نحو 390.36 مليار دولار. كما بلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الفلسطيني ما معدله 3600 دولار، مقابل 43.240 دولار للفرد الإسرائيلي وفق تقديرات 2019.

كذلك فإن إيرادات السلطة تعتمد على مصادر لا تتحكم بها، حيث أن نحو 84.3% منها في العام 2018 جاءت من المقاصة ومن المنح الدولية، كما ما زال المُستعمر يهيمن على التبادل التجاري الخارجي للسلطة، الذي بلغ حجم استيرادها من الكيان الإسرائيلي 3.632 مليون دولار لسنة 2018، أي بنسبة 55.5% من مجمل الواردات البالغة 6.540 مليون دولار، في حين بلغ حجم التصدير لإسرائيل بنفس العام 967 مليون دولار، بنسبة 83.7% من صادرات السلطة البالغة 1.156 مليون دولار[4].

في جدل العلاقة بين معطيات الواقع ومسوغات العقد الاجتماعي

إن التحولات الجذرية في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي الفلسطيني تُعيد الحاجة الماسة لإحياء النقاش الجدي والمسؤول حول ضرورة نظم عقد اجتماعي جديد، يأخذ بالاعتبار حالة التطور التي شهدها المجتمع الفلسطيني ضمن سياقات مستعمرة، حيث نحن بأمس الحاجة إلى:

- إعادة بناء منظمة التحرير كمعبر عن الكيانية والهُوية الوطنية الجامعة للشعب الفلسطيني، بحيث تبتعد عن منطق المحاصصة، وأن تفسح المجال لتمثيل كافة مكونات الشعب الفلسطيني، كما يجب أن تضم كافة القوى السياسية التي ما زالت خارجها، وأن تنفصل تنظيميًا وإداريًا ووظيفيًا عن السلطة الفلسطينية، وأن يُعاد الاعتبار لميثاقها الوطني.

- إعادة الاعتبار لحالة الاشتباك الشامل مع المُستعمر حول مختلف القضايا (الحياتية اليومية المباشرة، والوطنية العامة)، وإفساح المجال أمام مختلف فئات وشرائح المجتمع الفلسطيني للانخراط بشكل إبداعي في العمل النضالي ضد المُستعمر.

- إعادة بناء الاتحادات والأطر والنقابات المهنية وفق أسس ديمقراطية واضحة.

- استعادة الوحدة من خلال الشروع بالتحضير لانتخابات شاملة تشريعية ورئاسية ومجلس وطني؛ كأداة نضالية قادرة على مواجهة سياسات وممارسات المُستعمر والتأسيس لنظام سياسي تحرري انعتاقي، قادر على تلبية مطالب الشعب الفلسطيني في التحرر والانعتاق والكرامة والعدالة الاجتماعية.

في حالتنا الفلسطينية الراهنة، نحن بأمس الحاجة لإعمال ثلاثية الحرية والحق والعدالة الاجتماعية، ضمن هرمية تعتمد مبدأ الإرادة العامة والتي تمثل سيادة الشعب من خلال امتثال المنظمة والسلطة لشرعية الإرادة الشعبية، وكذلك كافة البنى الاقتصادية والاجتماعية.

كما إننا ما زلنا نعيش مرحلة تحرر وطني ديمقراطي؛ حيث لم نحقق مهمات التحرر الوطني، ولا مهمات البناء الاجتماعي الديمقراطي، وأحد أهم إخفاقات م.ت.ف القفز عن مشروع التحرر إلى مشروع بناء الدولة، حيث أن ولع القيادة بهاجس الدولة خلق قصورًا بنيويًا في الحوكمة السياسية التي غيرت بشكل جوهري دور المحكوم "الشعب"، وعند كل منعطف من منعطفات مشروع بناء الدولة تحت الاستعمار كان الشعب الفلسطيني يغدو أكثر عزلة عن جوهر النظام السياسي وهياكل الحكم والحوكمة؛ مما أفقده القدرة على إحداث التغيير وأضعف مقاومته للهياكل الاستعمارية والقمعية[5]؛ ومعالجة هذا الإخفاق تتمثل في إعادة الاعتبار لمتطلبات التحرر الوطني، بما يعني تعبئة كامل الإرادة العامة وصهرها في بوتقة واحدة ضمن أداة تنظيمية كفؤة وفاعلة ولها أهداف محددة، تتمثل في المصلحة العليا للشعب الفلسطيني التي تجسدها حسب روسو الإرادة العامة.

المصادر:

  • قيس عبدالكريم وآخرون، سلسلة الطريق إلى الاستقلال"37" ،صفقة القرن في الميزان،(المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات،يناير،2020) الطبعة الأولى.
  • أمارتيا صن، ترجمة شوقي جلال، التنمية حرية،سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مايو،2004
  • مركز الزيتونة للدراسات الاستراتيجية ، التقرير الاستراتيجي 2018-2019.
  • علاء الترتير،(أي معنى للدولة بدون الشعب؟:هاجس الدولة وإنكار الحقوق في فلسطين، مباردة الاصلاح العربي، بوادر،8 يناير ،2020.

 

[1]. أمارتيا صن (مفكر تنموي هندي)، ترجمة شوقي جلال، التنمية حرية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت ، مايو،2004، ص29-31.

[2] مركز الزيتونة للدراسات الاستراتيجية، التقرير الاستراتيجي 2018-2019.

[3]. قيس عبدالكريم وآخرون، سلسلة الطريق إلى الاستقلال"37" ،صفقة القرن في الميزان،(المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات،يناير،2020) الطبعة الأولى، ص162-193

[4] . مركز الزيتونة للدراسات الاستراتيجية ، التقرير الاستراتيجي 2018-2019.

[5] .علاء الترتير،(أي معنى للدولة بدون الشعب؟:هاجس الدولة وإنكار الحقوق في فلسطين، مباردة الاصلاح العربي، بوادر،8 يناير ،2020.