Menu

حوار نظري لانتفاضات شعبية – ميدانية!

محمد صوان

من الجزائر إلى العراق مروراً ب السودان ولبنان.. لم يعد هناك دولة عربية واحدة مستقرة وسط هذا الصخب الجماهيري الذي اتسع بسرعة قياسية، مما يؤكد على أن أزمة النظم العربية الرسمية هي نتاج إخفاقها وعدم استجابتها لاحتياجات شعوبها السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية, ولم تعد تنفع سياسية القبضة الأمنية الحديدية بتقديم حلول ناجعة لبناء عقد اجتماعي عادل يضمن للمواطنين حقهم في الحياة الحرة الكريمة, ولم تعد صالحة المقولات الجاهزة التي توجه أصابع الاتهام " للإمبريالية " وتحمّلها مسؤولية دعم أحزاب وأنظمة قمعية فشلت في تجاوز الإرث الاستعماري, وفي إدارة التنوع الإثني والمذهبي, وحل مسألة الهوية الوطنية على أسس سليمة تقطع الطريق على كل أشكال التدخل الخارجي.

غني عن التذكير أن الدولة المركزية تحتل مكانة متقدمة لحماية المجتمع ودرء مخاطر الصراع الفئوي والطائفي والمذهبي اللامبدئي.. وبقدر ما تنجح الدولة العصرية في استبدال القمع بالحوار, والتعاطي مع أبناء الشعب كمواطنين, وليس كرعايا ملحقين بزعمائهم المذهبيين والطائفيين, وتقدم نموذجاً لدولة حديثة تحترم إرادة شعبها من خلال التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع, وقانون انتخاب عصري يحوّل الانسان من مواطن سلبي يسعى إلى إسقاط النظام في الشارع إلى مواطن قادر على حماية وطنه ومجتمعه من التشنجات الأيديولوجية والمذهبية والطائفية.

لقد بات مفهوم المواطنة, وحرية الوطن والمواطن لدى جيل الشباب المنتفض سمة بارزة من تاريخ المنطقة بكاملها, حيث يتم التشديد على ضرورة مكافحة الفساد ومعاقبة الفاسدين واسترداد المال المنهوب عبر تطبيق حكم القانون، كما ارتفعت هتافات وشعارات تطالب بالشفافية, والمساءلة, والحكم الرشيد, والديمقراطية الحقيقية, والدولة المدنية, والتنمية البشرية والاقتصادية المستدامة, ومارست الجماهير المنتفضة وعياً غير مسبوق في مجال الدعوة إلى التغيير السلمي, ورفض اللجوء إلى السلاح والعنف.. وتجاوز الشباب المنتفض مفهوم الصراع الأيديولوجي والطائفي الدموي الذي أثبت عقمه بعد قيام أنظمة تسلطية على خلفية إثنية وعرقية أو مذهبية نسفت ركائز الوحدة الوطنية, ونصّبت نفسها وصيّاً على الشعب تحت ستار الدفاع عنه .. وكل ذلك يطرح ملاحظات منهجية أبرزها:

1. رغم التباين بين أوضاع الشعوب العربية المنتفضة في أكثر من دولة عربية, تبدو ثقافة "الدولة المدنية والمواطنة والتغيير السلمي والتطور الديمقراطي"، بمثابة الخيط الجامع بين قوى اجتماعية وسياسية متباعدة، وأحزاب ترهلت وسط صراعات أيديولوجية عقيمة استمرت لعقود طويلة, فبات المجتمع المدني الحر والواعي صمام الأمان لتعزيز الثقة مجدداً بين الدولة والمجتمع على قاعدة سياسية عقلانية تضمن كرامة المواطن وحقه في الحرية والديمقراطية والعدالة والعيش الكريم من جهة, وتحصين أمن المواطن واستقراره وسيادته واستقلاله من جهة أخرى , لذلك يتردد مفهوم ثقافة المواطنة العابرة للطوائف اليوم في كل أرجاء المنطقة العربية كشعار عقلاني قادر على مواجهة كل أشكال التفكك الداخلي والتطرف المذهبي, ومشاريع التجزئة والتفتيت الإقليمية, ويعِدْ بغد ٍعربي أفضل.

2. لا يزال الحوار ساخناً حول طبيعة تلك الانتفاضات ومآلها, وما إذا كانت سلمية أو عنفية؟! وهل يمكن تصنيفها كثورات سياسية أم انتفاضات شعبية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية تهدف لإصلاح النظام من داخله من أجل تطوره وتغييره؟! وهل توصيفها أيضاً كقوة ناعمة ذات قدرة هائلة على التغيير واقعياً وصحيحاً؟!

3. لا تندرج الانتفاضات الشعبية العربية الراهنة ضمن النماذج التقليدية للثورات التي شهدتها كثير من دول العالم شرقاً وغرباً, تحت راية البورجوازية في مواجهة الأنظمة الإقطاعية, أو في مواجهة البورجوازية وفق صيغتها العربية التابعة للغرب الرأسمالي الكولونيالي .. باستثناء شعار واحد تكرر في جميع تلك الانتفاضات هو: "الشعب يريد إسقاط الطغمة السياسية الفاسدة".. تبدو النماذج التي تقدمها انتفاضات " الجزائر, السودان, لبنان, والعراق " متباعدة من حيث الأسباب المباشرة, ونوعية القيادة الشبابية, والأهداف المتوخاة منها, وطبيعة النظام السياسي الذي تريد بناءه!.

4. لم يتبنَ شباب الانتفاضات الشعبية الراهنة الشعار التقليدي المعروف: "العنف قابلة التاريخ"، بل تبنوا أسلوباً سلمياً غير مألوف في تاريخ حركات التحرر الوطني والتي وصلت جميعها عن طريق العنف المسلح ضد النظام القديم في زمن الاستعمار الأجنبي المباشر، بينما شباب الانتفاضات الجديدة استبعدوا أسلوب العنف من جهة, والتحزّب والتنظيم العقائدي من جهة أخرى, وبدا واضحاً أنه لم يتم الإعداد لثورات معروفة القيادة  والبرامج والأهداف مسبقاً, بل كحركة جماهيرية, عابرة للمذاهب والطوائف, وتضم جميع مكونات وشرائح المجتمع شباباً وكهولاً, ذكوراً وإناثاً, فاندفع الجميع متضامنين بهدف إسقاط الطغمة السياسية الفاسدة, وبناء نظام جديد بآلية وفاقية متدرجة, على أن يبقى متنفذّو السلطة ورموزها تحت رقابة شعبية صارمة وقادرة على تحريك الملايين للعودة إلى الشارع من أجل الاستمرار في عملية الإصلاح الشامل وتصويب مسار الانتفاضة والإدارة السياسية.

5. بات واضحاً أن المشكلات الاجتماعية الحادة التي تعيشها غالبية الشعوب العربية تتطلب تغييراً شاملاً في نمط الفكر السياسي والاقتصادي السائد, فهناك اعتراف صريح من جميع القوى والتيارات السياسية سواء اليسارية والقومية أم الليبرالية والإسلامية, بأنها فشلت في تقديم حلول عقلانية لمعالجة التحديات ومواجهة المخاطر التي تهدد الأمن القومي العربي في هذه المرحلة, في حين عجزت تلك القوى والتيارات عن التصالح مع جماهيرها, استطاعت جموع الشابات والشباب غير المتحزبين تجاوز حالة اليأس والإحباط, فأدخلوا المنطقة في مرحلة تاريخية جديدة مفتوحة على جميع الاحتمالات, الإيجابي منها والسلبي!.

6. لقد برز نموذج جديد للتغيير السلمي غير المؤدلج, انطلق من الواقع الراهن الذي يعيش حالة قلق شديد على المستقبل بسبب التناحر الإثني والمذهبي, ومخاطر بلْقنة المنطقة وفرض خرائط جديدة على شعوبها, الأمر الذي يستدعي أقصى درجات الوحدة الوطنية وتماسك الجبهات الداخلية والتنسيق المتبادل بين جميع القوى والتيارات السياسية والفكرية الطامحة إلى التغيير والتطور الديمقراطي, وبالتالي توخي الحذر والحيطة من مخاطر الانقسامات الداخلية والتدخل الخارجي؛ فمستقبل الشعوب العربية بكامل دولها يواجه تحديات كبيرة لا حصر لها في ظل نظام العولمة – الأمركة المتوحشة والتحولات الدولية المتسارعة.

خلاصة القول،  لقد خرجت الجماهير الشعبية إلى الشوارع لأسباب عديدة ومتنوعة لا حصر لها, ولم تكن تستوحي الأطر التنظيمية والنظرية التي ورثتها عن تجارب حركات التحرر الوطني وأحزابها ومؤسساتها السياسية والنقابية والثقافية والتي فشلت باستقطاب الجماهير إلى مظاهرات واحتجاجات تحت راية الأحزاب والمنظمات المترهلة, كونها تحتاج إلى تعديلات وتطويرات جذرية في بنيتها المؤسساتية وممارساتها على الأرض, وتجاوز الجمود الفكري والبرنامجي لدى غالبية متحزبيها, وتمسك قادتها بالمواقع الحزبية والنقابية لعقود طويلة كانت كافية لانفضاض الشباب من حولها!.

لقد نزلت جموع الشابات والشباب إلى الشوارع والميادين والساحات دون دعوة من الزعيم الملهم, أو من الحزب الطليعي, فقدموا نموذجاً ثورياً جديداً يحتاج إلى التمحيص والدراسة واستخلاص الدروس والعبر اللازمة, فلم تعد الجماهير الشعبية بحاجة إلى الزعيم الفذ, أو القائد الملهم, أو الأطر التقليدية التي غالباً ما تكون سرية من حيث التخطيط والتنفيذ والشعارات التي ترفع, والطرق التي تسلك بعيداً عن رقابة السلطة القمعية!.

أصبح التحرك الجماهيري علني في زمن الانتفاضات الشعبية التي يقودها شباب وشابات "الفيس بوك, الهواتف النقالة, أساليب التواصل الاجتماعي المختلفة"؛  فالأهداف والبرامج التي تلامس المصالح اليومية للجمهور هي التي توحده وتستقطب الحشود الغاضبة, وليس شخصية القائد أو الزعيم, علماً بأن الأشكال التقليدية ما زالت موجودة على الأرض, وتعتمدها بصورة واسعة قوى وأحزاب تصنّف نفسها يسارية وقومية وإسلامية وليبرالية.. لكن الانتفاضات الشعبية الحالية فتحت صفحة جديدة في تاريخ التحركات والاحتجاجات الجماهيرية من حيث طريقة التخطيط والتنفيذ والقيادة والتمويل الذاتي وغيرها, فهي لا ترفع صور القيادات ولا تهتف بجمل ثورية فارغة, وإنما تتبنى شعارات بسيطة ذات وقع مباشر على الجماهير المحتشدة من أمثال: "الرغيف مع الكرامة ", " يسقط حكم الأزعر ", " كلُّن يعني كلُّن "، " الشعب يريد إسقاط الطغمة الفاسدة ", " قانون انتخاب عصري " , و " دولة المواطنة والقانون " وغيرها.

هكذا دخلت المقولات النظرية والبرنامجية المركبة في بنية الشعارات البسيطة التي تمحورت حول قضايا الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية, والتغيير السلمي, كذلك التنديد بسياسة القمع ومصادرة الحريات العامة التي تمارسها أنظمة الاستبداد والفساد ضد شعوبها, فاندفعت نحو الشوارع والميادين لتبني مستقبلاً جديداً للشعوب العربية, وسرعان ما تحركت النخب الثقافية على نطاق واسع – ولو متأخرة – لاحتضان الانتفاضات الشعبية والعمل معها لتصويب مسار التغيير السلمي عبر إجراءات ملموسة ومدروسة تفتح الآفاق المسدودة أمام ثقافة الإنقاذ والإصلاح والتغيير الديمقراطي الفعلي.