Menu

هل هي بداية نهاية حكم النهضة في تونس؟

النفطي حولة

جاءنا الشيخ الماكر والمتنكّر في زيّ سياسي مدني من جحره في لندن، أمّه الحنونة التي أرضعتهم حليبها من أوسخ "بزّة"، وعلّمتهم كيف يتسللون إلى الأوطان، وكيف يحافظون على الغنيمة والمجد والسلطان، بعدما درّستهم صناعة السياسة والتمكين لهم من خلال سلطة بريمر في البرلمان. وكان التكبير، وكان التهليل مع قدوم صلاة الصبح وسماع الآذان. وجاء مريديه من كل حدب وصوب، ومن كل مكان. وكان نشيد الصبيان والولدان، وعلت أصوات الجموع وحناجرهم تهتف بقصيدة البدر والذكر والتبيين والبيان :

طَـــــلَــــــــــعَ البَــــدْرُ عَـــلَيـْنَا مِــــــــنْ ثَــــــــــــــــــنــِيَّات الوَدَاعْ      
وَجَــــــــــــــبَ الشُّــــــــــكْـــــرُ عَــــلَــــــيْـــــــنَا مَا دَعَــــا لله دَاعْ

أَيُّــــــــــــهَا المَـــبْعُوثُ فينَا جِــــــــئْـــــــــــــــتَ بالأمْـــــرِ المُطَاعْ  
جِــــئْــــتَ شَرَّفْتَ المَـــدِيــــنَــــة مَرْحَـــباً يَــــا خَـــــــــــيــْرَ دَاعْ

و كان الشيخ المبعوث يترصّد الخطى حثيثًا لإعادة بناء وتأسيس عشّ الإخوان في الحين و اللحظة والآن، وهكذا في غفلة من الثوريين والثوار من أطراف القوميين واليسار. وبعيدًا عن الدير والديار، وأوجاع التونسيين الأحرار، ذهب للخارج  يطلب المعونة والمدد، وسعى سعيه و ناور و حاور ومن ثم اجتهد. وما أن جاءت انتخابات المجلس التأسيسي ومسار الانتقال الديمقراطي، حتى  كانت النهضة في أحسن جهوزيتها، وما زاد في  جمهورها الواعد، تلك الصيحات التي تردّدت في المساجد، وفي الساحات، والراديوهات، والمعابد، وعلى كل الألسن، وفي كل القنوات، ولدى كل القواعد. تلك التي قالوا فيها أنهم ضحايا الاستبداد، وشهداء الحرية في السجون والمعتقلات والمنفى والمحتشدات.

 وكانت الجولة الأولى من الانتخابات،  وكان معها المال السياسي، والتربع على المنابر الّإعلامية لنيل السلطة والكراسي. ومن ثم دخل الإخوان الحكم وهم يحسبون أنهم سيسحرون أعين الناس، وأنهم سيحسنون صنعًا في الخليقة، ظنًا منهم أنهم أقرب للدين و أقربهم  لنصرة للمستضعفين، فظنهم الشعب أنهم ملائكة الرحمان، بل ظن الناس أنهم سيأتون بما لم يأتِ به لا الأولين ولا الآخرين في كل عصر وزمان. 

 وما أن تربّع الجماعة على الحكم، حتى تسلّلوا إلى كل مفاصل الدولة، فحسبوا الدولة غنيمة وفرصة ووليمة، وسرعان ما ظهر ولاؤهم وإيمانهم بالجماعة والمرشد، على حساب الإيمان بالوطن والمواثيق والعهد، وسارعوا للتطبيع مع  الخواجة من الفرنسيس و الأنجليز والأمريكان، بل سرعان ما ذهب شيخهم العجوز الموقّر، مباشرة بعد الفوز الكاسح في انتخابات المجلس التأسيسي يطوف حاجًا إلى البيت الأبيض، ويعتمر بمعهد الإيباك الصهيوني في خشوع كالمطبّع. ومن هنا كان انخراطهم الواعي منذ الوهلة الأولى في المؤامرة التي حاكتها الإمبريالية الأمريكية والعدو الصهيوني وأوروبا الكولونيالية على سوريا، بتواطئ مع الإمبراطورية الوهابية لآل سعود، ومن إمبراطورية الإخوان في قطر ، وتحالف مع السلطان العثماني الصغير الحالم باستعادة السلطان والمجد العثماني القديم. وبدأ مشروع التسفير على عجل وسط برك دماء الإرهاب والاغتيالات السياسية التي ذهب ضحيتها الشهيدان القائدان بلعيد والبراهمي.

لكن، وعلى الرغم من الخلاف التكتيكي بين كل من القطري والتركي من جهة، والسعودي والإماراتي من جهة أخرى تحت إشراف الأمريكي والصهيوني على تدمير سوريا كمقدمة  لتفكيك الدول والجيوش، وفقًا لسايكس بيكو جديدة، وأمام صمود الجيش العربي السوري والصبر الاستراتيجي لقيادته، وثباتها على التحالف المبدئي مع الروسي والإيراني، بدأت المعادلة تتغير إقليميًا ودوليًا شيئًا فشيئًا لصالح محور المقاومة. ومن مصر أرض الكنانة ستبدأ رحلة مشروع  الأخونة المدعومة بالعثمنة الأردوغانية الجديدة تنكسر وتتحطّم على صخرة المقاومة الشعبية.

وما أن يأتي يوم ثلاثين من يونيو  2013 حتى يطاح بمشروع التمكين الإخواني في مصر، ما سينعكس إيجابا على تونس، ولا سيّما بعد اغتيال الشهيد محمد البراهمي، بل سيمتد انعكاس ذلك على المشهد الليبي، حيث ستتحوّل ليبيا إلى بؤرة لصراع المحاور الإقليمية والدولية، وهكذا، سيستمرّ مشروع التمكين الإخواني في الانكماش والانكفاء على نفسه، في ظل ترتيبات دولية. لعل أبرزها سيكون إعادة طرح ملف حركة الإخوان المسلمين كحركة إرهابية، في سياق تبادل الأدوار بين الأمريكي والسعودي وحتى البريطاني فيما بعد.

وما سيزيد الطين بلّة، هو تلكم التعقيدات التي ستدخلها القوى الإخوانية ومجاميعها الميليشوية وعصاباتها الإرهابية المسلحة في طرابلس الغرب، وخاصة بعد دخول اللواء خليفة حفتر بصفته قائدًا للجيش الوطني الليبي، على خط الأزمة الليبية وتبنيه لحركة الكرامة التي أعلن عنها في عام 2014. تلك الحركة التي ظهرت على إثر انقلاب الإخوان المسلمين على الانتخابات التشريعية في عام 2014، وستكون من نتائجها، لجوء أصحاب الشرعية الانتخابية إلى حكومة طبرق، بينما ستظل البقية في العاصمة طرابلس؛ سواء منهم حكومة الإنقاذ الوطني لخليفة الغويل المدعوم من تحالف كبير يضم كتائب إسلامية تتصارع مع قوات "الجيش الوطني" بزعامة خليفة حفتر، أو ما يسمى بحكومة الوفاق الوطني بزعامة السراج التي جاءت نتيجة مخاض اتفاق الصخيرات بالمغرب. وستؤدي تداعيات الصراع الدولي والإقليمي إلى محور يقوده اللواء خليفة حفتر الذي سيعمل على تطهير الشرق الليبي من مجاميع الإرهاب سواء تلك التابعة لتنظيم القاعدة لعبد الحكيم بلحاج وأنصاره، أو تلك التابعة لشبكات الإخوان كفجر وغيرها، وإلى محور آخر يقف وراءه السراج مستندًا على شرعية دولية فقد الكثير من شرعيتها، ولا سيّما بعد استقالة العديد من قياداتها. وكلما سيقترب الجيش الوطني الليبي بزعامة خليفة حفتر من حسم المعركة في العاصمة طرابلس الغرب، كلما سيحتد صراع المحاور الإقليمي والدولي، وكلما سيزداد الاصطفاف وضوحًا.

من هنا كان التدخل التركي مرة أخرى بعد "ثورة الناتو" التي قادها هنري برنار ليفي في الشأن الليبي معتمدًا في نفس الوقت على حلفائه العقائديين في كل من تونس وليبيا، الذين حمل بهم تسونامي "الربيع العربي". ذلك "الربيع" الذي جاء بالإسلام السياسي "المعتدل" والمعتلّ أي المعدل جينيًا في واشنطن، على كلمات هيلاري كلينتون والمايسترو الأمريكي. وفي سياق ذبذبات ذلك الربيع الذي نزفت فيه الدماء العربية كثيرًا، سوف لن تكون الصدف هي التي تجمع بين حكومة السراج الذراع السياسي للمليشيات الإرهابية وأردوغان مهندس التآمر على سوريا. تلك اللقاءات التي ستفصح لا محالة عن عقد الاتفاق الأمني العسكري الاقتصادي، وستؤكد بما لا يدع مجالًا للشك نية السلطان العثماني في  سرقة الغاز الليبي كما سرق من قبل النفط السوري. كما أنها سوف لن تكون الصدف وراء زيارة أردوغان إلى تونس بعد أيام قليلة من إبرام تلك الاتفاقية مع السراج، بل سيكون استدعاء السراج على عجل إلى تونس مرة أخرى في حضرة الرئيس قيس سعيد عملًا مدروسًا في ذات السياق، الذي تآمر فيه العثماني الصغير على سوريا. وليس بعيدًا عن ذلك، الزج بتونس الحكام الجدد في محور تركيا وقطر، خصوصًا إذا علمنا ما صرّح به صاحب الباب العالي أمام الملأ و في البرلمان، حيث صرّح على الفور معلنًا أنه قد اتفق مع الجانب التونسي على دعم الشرعية الدولية المصطفة مع سراج الإخوان، وهو ما سيعجل بدخول  الروس والجزائريين كلاعبين أساسيين في المشهد الليبي.

وبالعودة إلى شيخنا المرشد الراشد، الذي كان يقود من غرفته بقصر باردو آخر معاركه السياسية في ظرف إقليمي ودولي يزداد فيه الخناق على حركة الإخوان شرقًا وغربًا؛ سواء تعلّق ذلك بمعركة تشكيل حكومته باعتبار حزبه الفائز بالأغلبية النسبية، أو ما تعلّق بلعبة المحاور في الملف الليبي. وأمام الفشل الذريع، والمدوّي، الذي منيت به حركة النهضة في تشكيل حكومة الحبيب الجملي، وأمام فشل دبلوماسية الإخوان التي سماها شيخنا الوقور "الدبلوماسية الشعبية" في الملف الليبي، وخاصة على إثر زيارة غير معلنة في هذا الجو الإقليمي والدولي المتوتر والمشحون لرئيس الغرفة التشريعية بتونس لخليفته العثماني، في زيارة أكّد الجانب التركي على أنها رسمية. تلك الزيارة التي زادت من عزلة النهضة في الشارع السياسي، بل وعمّقت تآكلها الداخلي واصطفافاتها البينية، ما سيخيّم بظلاله على التنظيم وأدائه الذي بدأ يتعثر من حين لآخر، ولا أدل ّعلى ذلك من تراجع كتلتها البرلمانية، ولعلّ استقالة أعضاء قياديين من أمثال زياد بومخلاء عضو مجلس الشورى، الذي يأتي بعد ساعات قليلة من استقالة نجل القيادي البارز في حركة النهضة، وقبلهما استقالة زياد العذاري القيادي البارز في الحركة والوزير السابق والأمين العام للحركة، لخير دليل على التخبط الذي تعيشه الحركة الأبرز في البلاد. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الدعوة إلى إسقاط راشد الغنوشي من رئاسة البرلمان، على خلفية زيارته الأخيرة إلى تركيا، باعتبار ذلك يمس من الأمن القومي التونسي، فإن كل ذلك سيؤدي لا محالة إلى تقهقر حركة النهضة التي باتت تترنح قبل السقوط النهائي. فهل هي فعلًا بداية النهاية لحكم النهضة بتونس؟