Menu

الانتخابات الإسرائيلية ثالث مرة... أسباب وتداعيات وسيناريوهات

شاكر شبات

خاص بوابة الهدف

دخلت دولة الاحتلال والنظام السياسي الإسرائيلي في أزمة سياسية، مع حذري الشخصي من استخدام هذا المصطلح، لاعتقادي أنه وصف مبالغ فيه إذ ما زالت البنية المؤسسية الداخلية لدولة الاحتلال قوية ومتماسكة، وما زالت الأطراف المتصارعة في إطار العملية الديمقراطية  قادرة على إدارة خلافاتها كما فعلت على مدى السبعين سنة الماضية.

فالأزمة الحقيقية تتمثل في استمرار حالة الاستعصاء والفشل في تشكيل حكومة تحظى بتصويت أغلبية أعضاء الكنيست النصف زائد واحد، وهو الفشل الثاني خلال بضعة أشهر، مما دفع بالدولة الذهاب إلى انتخابات عامة ثالثة في بداية مارس ٢٠٢٠م خلال أقل من عام.

أسباب الأزمة:

أولًا: أسباب تقنية

- يعود جانب أساسي من هذه الأزمة إلى مشكلة تقنية مرتبطة بقانون الانتخابات الذي ينظم الانتخابات التشريعية في اسرائيل على أساس التمثيل النسبي الكامل، والذي ينص علي اعتبار "إسرائيل" دائرة انتخابية واحدة، هذا النظام وإن كان من الناحية التقنيه أحد أسباب الأزمة الحالية لكنه في جوانب أخري له تجليات إيجابية، فهو يعتبر من القوانين الأكثر تطورًا في العالم في الممارسة الديمقراطية، حيث إنه يعطي الفرصة لكل مكونات المجتمع "الإثنية والقومية والقوي الحزبية" أن تتمثل تمثيلاً دقيقًا، ويضعف تغول وهيمنة الأحزاب الكبرى على الحياة السياسية، حيث لا يسمح هذا القانون "التمثيل النسبي الكامل" بإمكانية حصول أي حزب على الأغلبية المطلقة، ويجعل الأحزاب الكبيرة مضطرة للتحالف مع الأحزاب الصغري، حيث تستطيع هذه الأحزاب ابتزاز الأحزاب الكبرى لصالح القطاعات التي تمثلها، وغالبًا ما تتمكن من فرض بعض شروطها سواء المالية أو الخدماتية.

كما كان متوقعًا لم تفرز نتائج الانتخابات المعادة الثانية التي جرت في ١٧ سبتمبر تغيير جذري وحاسم، يمكّن أحد الأحزاب الكبرى من تشكيل الحكومة، فالنتائج لم تختلف كثيرًا عن نتائج انتخابات الكنيست السابقة التي عقدت في 9 إبريل 2019، فلقد أصبح لحزب الليكود 32 مقعدًا مقارنة بـ 35 مقعدًا، وأصبح لحزب أزرق أبيض 33 مقعدًا مقارنة بـ 35 مقعدًا، ووفق ما أفرزته نتائج الإعادة الثانية، أصبح لحزب أزرق أبيض بقيادة بيني غانتس الحق من الناحية القانونية الشكلية كونه أكبر الأحزاب تشكيل الحكومة، غير أن الكتلة التي يعتمد عليها في التصويت لتمرير الحكومة لا تتجاوز النصف زائد واحد، كتلة الوسط واليسار لا تتجاوز ال 44 مقعدًا "أزرق أبيض 33، وائتلاف العمل-جيشر 6، والمعسكر الديمقراطي 5".

أما الليكود بقيادة نتنياهو والكتلة اليمينية التي تدعمه التي حصلت على مقاعد برلمانية مجموعها 55 مقعدًا "الليكود 32، شاس 9، يهدوت هتوراة 7، يمينًا 7" ، لذلك ووفقًا للأعراف والقانون، ولأن نتنياهو رئيس الحزب الأكثر بتوصية  ٥٥ عضو كنسيت لرئيس الدولة، حظي بتكليف الرئيس لإجراء مفاوضات مع الأحزاب ضمن فترة زمنية مقيدة ومحددة بنص القانون، انتهت المدة الزمنية دون أن يتمكن نتنياهو من تشكيل الحكومة رغم كل المحاولات والمناورات والإغراءات.

ثانيًا: أسباب شخصية

نتنياهو مع مرور الزمن ومع الكثير من الإنجازات بات مقتنعًا بأنه في شخصه تختصر "الدولة، الاقتصاد، الأمن، الحكومة، الاستقرار السياسي، الزعيم القوي، الملك، القانون، الجيش" . نتنياهو يعني كل شييء، بدونه الدولة ضعيفة ومأزومة، بدونه فراغ سياسي وتراجع أمني، انهيار اقتصادي لا جيش قوي ولا مجتمع موحد، بدونه يعني أزمات وضعف. نتنياهو هذا أدرك بعد إعادة الانتخابات ان الواقع أقوى من كل الأوهام؛ واقع فشله في تشكيل ائتلاف حكومي جديد، واقع قد يضع حدًا لحياته السياسية، واقع انتقل فيه من شخص مشتبه به إلي شخص يواجه ثلاث لوائح اتهام في قضايا فساد وخيانة الأمانة، وبالتالي فإن نهايته السياسية عبارة عن سقوط مدوٍ لزعيم سياسي عمل كل ما بوسعه لعدم خلق زعيم آخر سواء في حزبه أو أحزاب أخرى، زعيم سياسي نجح في خلق واقع القائد الوحيد الذي يلتف من حوله مجموعات من سياسيين وأحزاب لا يمكنها اللعب خارج ملعبه وإشرافه. لهذه الأسباب الشخصية حاول نتنياهو عدم إتاحة الفرصة لحزب أزرق-أبيض وزعيمه بيني غانتس لتشكيل الحكومة، مارس كل آلاعيب والضغوط، حارب على كل الجبهات، ورفض الرضوخ للضغوط من كل الاتجاهات من مؤيديه ومن خصومه، لم يخضع لشروط ليبرمان، ولم يقبل بمقترحات حزب أزرق أبيض، وزع الاتهامات على هذا وذلك؛ اتهم الإعلام والشرطة والكتَّاب والمثقفين، واتهم ليبرمان بميول يسارية وهو يعلم أنه يتموقع على يمينه، قال إن غانتس وحزبه يريد أن يتحالف مع أعداء إسرائيل داعمي الإرهابيين "القائمة العربية". كل هذه العوامل التي تحول دون قدرته علي تشكيل الحكومة دفعته إلى الإعلان عن تأزم المشهد السياسي والحزبي في جزئية تشكيل ائتلاف حكومي، وأن بدونه لن تتشكل أي حكومة، وبالتالي دعا إلى تشريع قانون حل الكنيست وإجراء انتخابات جديدة في شهر مارس ٢٠٢٠م.

ثالثًا: أسباب أيدلوجية

ملفات العلاقات الداخلية بين مكونات المجتمع الإسرائيلي والأحزاب السياسية والإثنيات والقوميات والطبقات، المتدينين والعلمانيين الشرقيين والغربيين والملفات السياسية والأمنية، كانت على الدوام الملفات الأكثر سخونة، واهتمام في النقاش الرسمي والشعبي في كل الحملات الانتخابات الإسرائيلية السابقة. أما في هذه الانتخابات تكاد هذه الملفات أن تختفي من ساحة النقاش والجدل  باستثناء استخدامها في إطار المزايدات وتوجيه الاتهامات، حيث أن برامج الأحزاب وشعاراتها الانتخابية لم تتضمن أي برامج أو خطط سياسية تحاكي وضع تصورات أو مقترحات حلول للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فعلى ما يبدو طغيان التركيز على الأشخاص، بات العامل الأكثر تأثيرًا في اتجاهات التصويت لدى الأغلبية من الجمهور حتى أن هناك من وصف الحملات الانتخابية برمتها بأنها مرتكزة على شعار "مع بيبي أو ضد بيبي".

في خضم هذا المشهد الانتخابي المشبع بالشخصنة والمشاكل التقنية "قانون الانتخابات"، قفز أحد ملفات الصراع الأيديولوجي في المجتمع الإسرائيلي إلي الواجهة؛ ملف العلاقة بين المتدينين والعلمانيين، وبات هذا الملف وملحقاته محور النقاش والجدل حتى تحول في تقديري ليكون أحد أهم معيقات تشكيل الحكومة، فلقد استطاع ليبرمان الذي تصدر قيادة التيار العلماني الليبرالي اليميني أن يجعل من هذا الملف، "العلاقة بين المتدينين والعلمانيين" الموضوع الأهم على طاولة النقاش والجدل في اسرائيل، فلم يتنازل عن مطالبة التي تتعلق بضرورة أن يقدم المتدينين تنازلات خاصة في تمرير قانون تجنيد طلاب المدارس الدينية، وحاول أن يمارس ضغوط على نتنياهو عندما رهن موافقته علي انضمامه لحكومة يمين بقيادة نتنياهو بتحقيق إنجازات للتيارات العلمانية الليبرالية على حساب المتدينين وتمرير قانون تجنيد المتدينين، واعتبر أن القضايا الأخرى السياسية والأمنية لا ترقى لأهمية تحديد العلاقة، بين المتدينين ومؤسسات الدولة، لذلك لم ينجح نتنياهو في ضم ليبرمان إلى تكتله اليميني، على الرغم من تموقع ليبرمان في يمين الخارطة الحزبية فهو زعيم حزب من  القوميين الليبراليين المتطرفين، لم يتوقف الفشل على نتنياهو في ضم ليبرمان لحكومته. فلقد لاحق هذا الفشل أيضًا بيني غانتس، كذلك الذي لم ينجح هو الآخر في ضم  ليبرمان إلى تكتله، لكن هذه المرة ليس على ملف العلاقة بين المتدينين والعلمانيين، بل الخلاف علي البرنامج السياسي والعلاقة مع الفلسطينيين في ٤٨ ممثلين بالقائمة العربية المشتركة، فعلى الرغم من حصول تقدم كبير في المفاوضات بين الحزبين، إلا إنهما فشلا في تشكيل حكومة بدون نتنياهو والليكود،  إذ إن تجاوز حاجز الـ 61 صوتًا كان بحاجة إلى شبكة أمان تقدمها القائمة العربية المشتركة، وهو ما يصعب على ليبرمان اليميني المتطرف قبوله، الذي يعتبر القائمة العربية "طابورًا خامسًا" أو جهة معادية.

لوائح الاتهام وتأثيرها على الناخب:

بعد انتهاء التحقيقات التي استمرت سنوات في التهم الموجهة لنتنياهو وبعد دراسة النيابة العامة للتهم والتحقيقات، أعلن المستشار القضائيّ للحكومة "مندلبلينت" قراره تقديم ثلاث لوائح اتهام ضدّ نتنياهو بتهم الرشوة والنصب وخيانة الأمانة في الملفات 1000 و2000 و4000. قرار المستشار القانوني حول نتنياهو من مشتبَه به إلى متهم، ستبت به المحكمة بإدانته ومن ثم السجن أو البراءة. رد نتنياهو على الاتهام بغضب واعتبر ذلك مؤامرة ومحاولة انقلاب، متهمًا  المستشار القضائي والجهاز القضائي بالتنسيق مع أعلام اليسار، ومحققي الشرطه بأنهم زيفوا التحقيقات ولفقوا له التهم، وطالب بالتحقيق مع المحققين، وبإنشاء لجنة خارجية مستقلة للنظر في الاتهامات. وفي الوقت نفسه قرّر نتنياهو الاستمرار في ممارسة عمله رئيسًا للوزراء، إذ أن القانون لا يلزمه بالاستقالة إلا إذا صدر من قبل المحكمه المختصة حكم نهائي غير قابل للاستئناف بإدانته، وهو ما قد يأخذ وقتًا طويلًا يصل لسنوات.

استمرار نتنياهو وعدم تقديم استقالته يعني أنه يريد أن يستغل منصبه وكذلك الوقت لعقد صفقات من أي نوع يضمن عدم ذهابه في نهاية المطاف للسجن، ومن هذه المحاولات تقديمه طلب منح الحصانه من قبل اللجنة المختصة في الكنيست السابقة لضمانه للأغلبية، لأن الكنيست الحالية لم تنعقد ولم تشكل لجانها، إلا أن المستشار القانوني الكنيست طعن في تفويض اللجنة السابقة وطالب بعقد جلسة للكنيست الحاليه لتفرز لجنه جديدة تنظر في طلب نتنياهو للحصانة، مما أثار قرار المستشار زوبعة في دوائر حزب الليكود ومؤيدي نتنياهو الذين شككوا في قرار المستشار ة، حيلة نتنياهو لم تنجح وعليه سيسحب طلب الحصانه لأنه لا يملك أغلبية في أي لجنه برلمانيه في الكنيست الحالية.

معركة نتنياهو في مواجهة لوائح الاتهام لا تتوقف، يبحث تحت كل حجر عن فرصة عن مخرج وبعد أن تأكد بأن معركته ضد الجهاز القضائي والشرطة والإعلام لتصب في صالحه، ذهب لساحة حرب أخري ساحة الجمهور، استنفر مؤيديه للتظاهر ضد المستشار القانوني والنائب العام، مظاهرات وصفت بأنها عنيفة رفعت شعارات تهدد بالمس بحياة النائب العام والمستشار القضائي. المظاهرات والشعارات الشعبوية لم تساهم في ترميم صورة نتنياهو الأخذة بالاهتزاز, حيث نشرت استطلاعات رأى تقول أن 56% من الجمهور الإسرائيلي يطالب نتنياهو أن يستقيل من منصبه بعد توجيه الاتهامات.

لوائح الاتهام منحت منافسي نتنياهو في الليكود فرصة للانقضاض عليه وإزاحته عن المشهد، فهاجمه جدعون ساعر داعيًا إياه إلى الاستقالة، واضطُر نتنياهو في 24 من الشهر الجاري إلى الموافقة على إجراء انتخابات داخلية لحزب الليكود خلال ستة أسابيع، غير أن ساعر لا يشكّل منافساً قويّاً، وما زالت حظوظ نتنياهو في الاستمرار في قيادة الليكود كبيرة.

السيناريوهات المحتملة:

١- استطلاعات الرأي التي تلت تقديم لوائح اتهام لنتنياهو وظهور الخلافات في صفوف الليكود والتي تجلت في منافسة جدعون شاعر لنتنياهو على رئاسة الحزب. تشير الاستطلاعات أن هناك تحسن ملحوظ في فرص أزرق أبيض بزيادة عدد مقاعده ليحصل على أكثر من ٣٥ مقعدًا، وبالمقابل تشير استطلاعات الرأي إلى تراجع فرص الليكود ليحصل على نحو 30 مقعدًا. الاستطلاعات لم تعطِ أي كتلة تجاوز نسبة النصف زائد واحد، مِما يفتح المجال لاستمرار الأزمة السياسية بعد الانتخابات الثالثة، وهذا قد يدفع الأحزاب السياسية في نهاية المطاف إلى الاستسلام والدخول في توافقات تؤدي إلى تشكيل حكومة.

٢ - الاحتمال الثاني فهو الذهاب إلى انتخابات رابعة إن لم يتم التوافق علي تشكيل حكومة.

٣ - يلوح في الأفق احتمال ثالث مرتبط بتغيير مزاج وموقف الناخب الإسرائيلي باتجاه إزاحة نتنياهو وتراجع حظوظ الليكود أكثر إذا لم ينجح نتنياهو في تبرئة نفسه خلال المئة يوم المحددة، ومِن ثَمَّ تتعاظم حظوظ أزرق أبيض في تشكيل الحكومة.

٤ - ليس من المستبعد احتمال رابع أن ينجح نتنياهو، إما بتبرئة نفسه، أو محاولة تحقيق "منجزات" على الساحة الإسرائيلية تدفع باتجاه إعادة انتخابه، وهنا يبرز احتمال سعيه لتحقيق "بطولات" من خلال شن عدوان واسع على قطاع غزة أو الجبهة الشمالية، أو تنفيذ اغتيالات نوعية لقيادات المقاومة.

٥ - أما الاحتمال الخامس فهو أن تعترف الأحزاب بفشل منظومتها السياسية وقانون الانتخابات القائم على أساس التمثيل النسبي الكامل، وتتداعى إلى تغيير شروط العملية الانتخابية، تتجاوز معضلات التعطيل الناشئة عنه، كالانتخاب المباشر لرئيس الوزراء، أو إعطاء مزايا خاصّة للحزب الفائز، وغيرها.