Menu

حسابات أنقرة وموسكو المعقدة فى إدلب

محمد السعيد إدريس

نقلا عن جريدة الأهرام

من الصعب تصور أن تصريحات سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسى أمام مؤتمر ميونيخ للأمن الدولى السبت الفائت (15/2/2020) بخصوص توقعاته عن "الانتصار السورى الحتمى فى معركة إدلب" السورية جاءت من فراغ، فهى حتماً تعكس موقفاً إستراتيجياً روسياً إزاء كل من الحليف السورى والشريك التركى المتصارعين الآن فى جبهة إدلب، يعبر عن حسم موسكو لموقفها إزاء هذا الصراع لصالح الحليف السورى بكل ما يعنيه ذلك من حسم تردد روسى إزاء تركيا كانت ومازالت تحكمه مصالح روسيا مع تركيا. تصريحات لافروف هذه وأمام مؤتمر ميونيخ فى وجود معظم قيادات العالم لا تقدم فقط مجرد قراءة مستقبلية للصراع بين دمشق وأنقرة على الأراضى السورية ولكنه يقدم قراءة مكثفة للموقف الروسى رداً على ثلاثة تطورات مهمة فرضت نفسها خلال الأسبوعين الأخيرين على جبهة الصراع الدائر فى محافظة إدلب بين الجيش السورى فى مواجهة التنظيمات الإرهابية خاصة "هيئة تحرير الشام" (النصرة سابقاً) ومجمل أطياف المعارضة السورية المدعومة من تركيا التى تجمعت كلها من كافة جبهات القتال السابقة ضد الجيش السورى التى سبق أن خسرتها واضطرت إلى الاستقرار فى إدلب على أمل أن تفرض شروطها على سوريا وهى حتماً شروط تهدد وحدة الوطن السورى وتحمل مؤشرات فرض مخطط إعادة التقسيم بين منطقة للإرهابيين فى غرب الفرات المدعومين من تركيا تعمل كصمام أمان للأمن القومى التركى وأخرى لأكراد سوريا المدعومين من واشنطن فى شمال شرق الفرات تعمل كفاصل بين العراق من ناحية وسوريا من ناحية أخرى خدمة لمصالح أمريكية- إسرائيلية هدفها الإستراتيجى قطع الطريق أمام ما تعتبره مشروعاً إيرانياً هدفه إقامة خط طريق برى يمتد من إيران إلى كل من سوريا ولبنان عبر الأراضى العراقية لتيسير انتقال كل أشكال الدعم الإيرانى لمشروع مقاومة ضد إسرائيل.
أول هذه التطورات ما تعتبره موسكو تعمداً تركياً بإفشال مشروع أو مبادرة وساطة روسية بين كل من سوريا وتركيا تقود إلى قمة بين الرئيسين السورى بشار الأسد والتركى رجب طيب أردوغان تكون الأولى من نوعها، منذ تفجر الأزمة فى سوريا، لتحديد معالم تسوية سياسية جديدة يمكن من خلالها الحفاظ على المصالح العليا للبلدين وتنهى ما بينهما من خلافات، وبالذات تأمين وحدة الأراضى السورية، أى الانسحاب التركى من سوريا وإيجاد علاج جذرى لمعضلة الميليشيات الإرهابية وفصائل المعارضة جنباً إلى جنب مع تأمين متطلبات الأمن القومى التركى وإنهاء أى تهديد لمنظمات كردية – سورية تراها أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستانى التركى المعارض ومصدراً دائماً لتهديد الأمن التركى.
معالم هذه المبادرة كانت محور مناقشة اللقاء الفريد الذى رتبته روسيا بين الرجلين اللذين يقفان على رأسي جهازى الأمن فى كل من سوريا وتركيا اللواء على المملوك مسئول المجلس الأمنى السورى الأعلى ونظيره التركى حقان فيدان وكانت تدور حول إحياء جديد لما يمكن اعتباره "اتفاق أضنه-2"، أى استكمالاً "لاتفاق أضنه -1" الذى تم بين سوريا وتركيا عام 1998. ثم جرت فى أنقرة جولة محادثات أخرى أكثر تفصيلاً حول هذا الموضوع بين وفد روسى عالى المستوى يضم خبراء عسكريين ودبلوماسيين روسيين برئاسة سيرجى فيرشينين نائب وزير الخارجية الروسى وإلكسندر لافرنتييف المبعوث الخاص للرئيس الروسى إلى سوريا وبين مفاوضين أتراك.
الواضح أن روسيا كانت تعوِّل كثيراً على إنجاح هذه المبادرة التى كانت تراها مخرجاً ناجحاً للأزمة السورية يحافظ على مصالح روسيا مع كل من سوريا وتركيا، والخروج من الإطار الضيق أو التكتيكى لاتفاق سوتشى لعام 2018 بين الرئيسين الروسى والتركى الذى جَّمد خططاً للجيش السورى لتحرير محافظة إدلب باعتبارها المعقل الأخير لما تعتبره سوريا إرهاباً ممولاً ومدعوماً من الخارج مقابل أن تتعهد تركيا بنزع الأسلحة الثقيلة للمنظمات الإرهابية وخاصة "هيئة تحرير الشام" وأن تؤمِّن أنقرة حلاً مقبولاً لمعضلة مستقبل تلك الميليشيات، وبسبب هذا التعهد التركى حصلت تركيا على موافقة سورية- روسية بإقامة 12 نقطة مراقبة فى ما اعتبر "منطقة لخفض التصعيد فى إدلب".
فشل تركيا فى القيام بهذه المهمة كان أحد الحوافز الروسية للتقدم بتلك المبادرة ومن ثم جاء تعمد تركيا إفشالها ليضع القيادة الروسية أمام الخيارات الصعبة التى حسمت انحيازها للموقف السورى.
التطور الثانى الذى دعم هذا التوجه، أى دعم روسيا لحل عسكرى يفرض على تركيا القبول بحل سياسى كان نجاح القوات السورية فى تحرير واستعادة عشرات القرى والبلدات علاوة على ثلاث مدن رئيسية واقعة فى ريف إدلب هى: خان شيخون ومعرَّة النعمان وسراقب، إضافة إلى فتح الطريقين اللذين يربطان حلب ودمشق، وحلب واللاذقية لأول مرة منذ عام 2012 . هذه النجاحات العسكرية التى حققها الجيش السورى حفزت روسيا لتقديم مزيد من الدعم للجيش السورى لاستكمال مهمته فى تحرير إدلب .
أما التطور الثالث الذى عزز من هذا الخيار الروسى فكان التصعيد التركى العسكرى المتمثل فى الدفع بأعداد كبيرة من الدبابات والعربات المدرعة والمدافع ومضادات جوية إلى جبهة إدلب وتسليم أعداد كبيرة منها إلى "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة). هذا التطور اعتبرته موسكو تهديداً مباشراً لقواتها الموجودة فى سوريا خاصة بعد إطلاق بعض الخلايا التابعة لهيئة تحرير الشام طائرتين مسيرتين باتجاه قاعدة حميميم الروسية الجوية جرى إسقاطهما يوم الثلاثاء الفائت.
هذه التطورات حسمت موقف روسيا فى ظل قناعة مفادها أن تركيا، بعد أن أفشلت اتفاق سوتشى وعجزت على مدى عامين عن تنفيذ بنوده وخاصة إنهاء وجود التنظيمات الإرهابية فى إدلب، تسعى الآن لفرض "هدنة" أو "وقف لإطلاق النار" يستهدف إجبار القوات السورية على الانسحاب من كل الأراضى التى استعادتها أو حررتها من سيطرة التنظيمات الإرهابية إضافة إلى السعى للحصول على ضمانات باستمرار الوجود العسكرى التركى فى مناطق واسعة من شمال غرب سوريا خاصة فى عفرين وجرابلس والباب.
وإذا كانت روسيا قد حسمت موقفها بالانحياز إلى الموقف السورى باستعادة كل الأراضى السورية فإن هذا قد لا يعنى أن روسيا باتت مقتنعة بالتورط فى مواجهة عسكرية مباشرة إلى جانب الجيش السورى ضد تركيا إذا ما تطورت الأحداث إلى مواجهة عسكرية مباشرة سورية- تركية فى ظل تهديدات الرئيس التركى لسوريا بانسحاب قواتها من المواقع التى سيطرت عليها بحلول نهاية شهر فبراير الجارى "وإلا ستتولى أنقرة الأمر بنفسها"، بدليل أن روسيا لم تغلق أبواب التفاهم مع أنقرة تماماً أنها (روسيا) من المقرر أن تكون قد استقبلت أمس الاثنين (17/2/2020) وفداً تركياً للتباحث حول الأوضاع فى إدلب وفقاً لتصريحات وزير الخارجية التركى مولود تشاويش أوغلو على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن السبت الفائت. فالواضح أن روسيا لا تريد إغلاق الأبواب كاملة أمام الحل الدبلوماسى الذى يؤدى فى النهاية إلى إنجاح مبادرتها التى تريدها، أى التوصل إلى صيغة أكثر تطوراً من اتفاق أضنة، وهى تدرك أن تركيا المتورطة فى أكثر من جبهة خاصة فى ليبيا وفى حوض المتوسط لن تتورط فى حرب خارج أراضيها ضد سوريا بدليل أن التهديدات العسكرية التى جاءت على لسان الرئيس التركى أعطت مهلة أكثر من أسبوعين للقيام برد عسكرى ضد الجيش السورى وهى مهلة تكشف عدم جدية الرغبة التركية فى مثل هذا العمل العسكرى غير مأمون العواقب، فى الوقت الذى لا تريد فيه تركيا أن تخسر روسيا وخصوصاً وأنها ليست مطمئنة للتعويل كثيراً على دعم أمريكى ثبت بالدليل القاطع أنه أكثر انحيازاً إلى من تعتبرهم أنقرة "متمردين أكراد سوريين يهددون الأمن التركى".
حسابات تركيا معقدة سواء على جبهة العمل العسكرى أو العمل الدبلوماسى وكذلك حسابات روسيا التى لا تريد أن تخسر جهوداً مضنية ومشواراً طويلاً قطعته مع تركيا ضمن إطار التنافس الروسى- الأمريكى فى الشرق الأوسط ولذلك قد تلجأ موسكو إلى ضبط اندفاعة تقدم الجيش السورى للدخول إلى إدلب انتظاراً لتسوية قد تراها ممكنة مع تركيا فى الأسابيع المقبلة ولكن ضمن القناعة الروسية بأن سوريا باتت أقرب إلى استعادة سيطرتها على كل أراضيها.