لا نحتاج إلى عناء كبير لنكتشف أن واقع الحال الفلسطيني اليوم فيه قدر كبير الضياع وفقدان المسؤولية الوطنية, وضآلة الحس الوطني لدى القيادات الفلسطينية في مواجهة العواصف والتحديات الكبيرة للمشروع الوطني الفلسطيني, فالعجز/الفشل الفلسطيني في مواجهة التحديات قد أضحى أكثر من أي وقت مضى ملموساً وحاضراً لدى الرأي العالم الفلسطيني ويعبّر عنه يومياً سياسياً, واجتماعياً, واقتصادياً, وإعلامياً وثقافياً, وعبر أدوات التواصل الاجتماعي, كونه عجزاً وفشلاً تجلّى في كل مناحي الحياة الفلسطينية.
إن مظاهر العجز والفشل يمكن تكثيفها في استمرار الاحتلال الصهيوني لكافة مدن الضفّة الغربية وحصار غزّة الذي يشكّل احتلالاً من نوع آخر غير مباشر, هذا الاحتلال وحضوره اليومي أمام المواطن الفلسطيني يجيب على كل محاولات التضليل أو التجميل لواقع الحال. وقد يحلو للبعض أن يقول أننا اليوم أمام منعطف سياسي ووطني من أخطر المنعطفات التي واجهها شعبنا الفلسطيني على مدار كفاحه الطويل ضد الغزوة الصهيونية, ارتباطاً بمشروع صفقة القرن, غير أن هذا الاستنتاج هو استنتاج مكرور مع كل مرحلة من مراحل ومحطات الأزمة الفلسطينية. فالإدراك الفلسطيني للمخاطر التي يواجهها شعبنا, هو إدراك لمرحلة دون غيرها من المراحل السابقة, أي أنه إدراك لخطورة اللحظة الراهنة فحسب...! وليس إدراك لاستراتيجيات العدو الصهيوني والإمبريالية الأمريكية لوأد القضية الفلسطينية عبر التجربة كلّها, وليس إدراكاً لتلك السيناريوهات المتعددّة والمتلاحقة والمتجددة لتقويض المشروع الوطني الفلسطيني عبر العديد من المحطات السياسية, والتسويات, والاتفاقات, والمشاريع الوهمية لتسوية ما أسموه بالصراع (العربي – الاسرائيلي), وهنا يصح القول أن إدراكنا للواقع الفلسطيني المأزوم هو إدراك ناقص ومتأخر ولا يعي عناصر التحديات, وجبهة الأعداء, والاستراتيجيات الثابتة والمتحركة في ذات الوقت ضد الشعب الفلسطيني وقضيته, كما أنه لا يعي عناصر القوة الفلسطينية التي يمكن أن تفتح أفقاً لتجاوز الأزمات وتحقيق إنجازات وطنية متراكمة, إن كل انعطافة سابقة كانت تمثّل مدماكاً لمنعطف راهن أكثر خطورة من قبله وأكثر سوءاً على مسيرة النضال الوطني الفلسطيني, ويصح القول أيضاً "ما دام الإدراك الفلسطيني بهذا المستوى من القصور, فإن الوعي الفلسطيني لم يكتمل في رؤيته لطبيعة الصراع الضاري منذ قرن من الزمان". ومن هنا فإن البعض حين يتحدّث عن صفقة القرن كمنعطف خطير يواجه الشعب الفلسطيني وأنه يستهدف تصفية القضية الفلسطينية, كأنّه اكتشف المستحيل في لحظة سياسية راهنة, أدرك خطورتها.. بيد أن الواقع ليس هكذا عبر القطع مع الماضي والوقائع التاريخية, فالثابت أن كل المنعطفات السياسية والأمنية التي واجهها شعبنا سابقاً كانت بمجملها تستهدف تصفية القضية الفلسطينية من ألفها إلى يائها, عبر روزنامة سياسية زمانية في إطار استراتيجية محكمة لا تفقد جوهرها كل التكتيكات والمناورات وزرع الأوهام.
فلا يصح اليوم القول أن صفقة القرن هي الأخطر في سلسلة المخاطر التي واجهها شبعنا الفلسطيني فحسب، فما قبلها من محطات سياسية ومشاريع شبيهة وأكثر خطورة, قد أسسّت لهذه الصفقة, وأعطتها فرصة الظهور والإعلان عنها على أرض الواقع, فالصفقة ليست مقطوعة الجذور عن المشاريع السابقة وكأنها نبت شيطاني نزلت فجأة على الواقع الفلسطيني, وهي ليست إنتاج/إبداع نتنياهو وترامب, إنما هي محصّلة موضوعية لاتفاقات وتسويات ومشاريع ومهادنات ومراهنات وتنازلات وتقاعسات قيادية. وبالملموس هي محصّلة موضوعية لكارثة أوسلو, وكافة الاتفاقات التي تمت على ضفاف أوسلو, وهي اتفاقات وتفاهمات كثيرة, وعليه فإن أي قراءة لصفقة القرن بكل تفاصيلها دون العودة إلى قراءة هادئة ومتأنية لاتفاق أوسلو مع كافة عناوينه وملاحقه وجزيئياته وخرائطه ومحدداته...إلخ...لا يمكن أن تكون قراءة جادة وموضوعية ومسؤولة, بقدر ما هي قراءة مجزوءة ومتقطّعة ودون رد الصفقة إلى مرجعياتها السابقة من مشاريع وخطط وبرامج وبيئة عربية وفلسطينية عاجزة... ولا نعرف ما هي الرسالة التي أراد صانعوا الصفقة أن يرسلوها إلى الفلسطيني حين دبجوا الصفقة بـ (181) صفحة, في محاولة للتأكيد بأن مصير الصفقة هو مصير قرار (181) أي تقطيع الأرض الفلسطينية لأجل تسهيل بلعها...!!
إننا اليوم أمام مشهد كارثي مكتمل الفصول من حيث الإعداد, ولكنها فصول غير مكتملة المشاهدة, ولا زال الفصل الأخير يعدّ له ارتباطاً بمدى نجاح الفصول التي تسبق ضمن المشهد العام من المؤامرة, إن ربط فصول المؤامرة مع بعضها يقتضي إلى اكتشاف الحقيقة المطلقة, من هذا المشهد التراجيدي للمؤامرة, وهي أن القضية الفلسطينية يجري العمل على إماتتها بقوى معادية واعية تعمل بدأب, مستثمرة زمان ومكان الفلسطينيين, وبرودة الإقليم العربي وغياب الوعي الفلسطيني لدى القيادة الفلسطينية المتنفذة.
وهنا تتبدّى أسئلة عديدة في ضوء الواقع المأزوم... هل مواجهة صفقة القرن تكون برفضها وحسب...؟ أم وعي الصفقة وما قبلها... ووعي مآلاتها...؟ ووعي تشكّلها وتأسسها في الزمن الغابر, يمثّل جانباً من المواجهة معها...؟ هل يكتفى برفضها حتى تسقط تلقائياً...وتفشل جبهة الأعداء...؟ أم أن إسقاطها يحتاج إلى ما هو أكبر من الرفض اللفظي...؟ سيما وأن السلطة الفلسطينية أعلنت رسمياً رفضها للصفقة بصوتٍ عالٍ إعلامياً...لكنها على أرض الواقع لم تفعل شيئ, سوى إطلاق مظاهرة شعبية داعمة للسيد الرئيس ومواقفه..! ولم يطلق العنان للشعب الفلسطيني بأن يعبّر عن إرادته عبر فعالياته المتنوعة السياسية والكفاحية والسلمية.
إن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى غطاء سياسي من القيادة الفلسطينية كي يعبّر عن زخم دوره وطاقته المتجدّدة, لا إلى خطاب وحراك قيادي سياسي يوظّف رفض الصفقة للتأكيد على صحّة اتفاق أوسلو, والالتزام به, وأنه البديل الموضوعي عن الصفقة, وأن تقديم التنازلات المجانية مجدداً, وتقديم التطمينات للكيان والمجتمع الدولي على حساب الحق الفلسطيني, والذهاب إلى ما يسمى برلمان السلام الاسرائيلي بوفد فلسطيني...هي عناوين المواجهة مع الصفقة...!!
إن منطق "الحياة مفاوضات" و"كسب" "الشرعية الدولية" على أهميتها, ومنطق "أننا طلاب سلام" و"منطق المقاومة الشعبية والسلمية" ومنطق "اختراق المجتمع الاسرائيلي" ومنطق " تقديم التطمينات"، قد أثبتت الأيام والسنون فشلها في إنجاز أي تقدّم على صعيد بناء الدولة الفلسطينية, وهو منطق مكرور ومجرّب على مدار 27 عاماً, ولا يجدي اليوم في مواجهة صفقة القرن... أو مواجهة استراتيجية التدمير للقضية الفلسطينية في ظل بيئة عربية مؤاتية وبيئة دولية مساندة أو مخادعة...فلا المجتمع الاسرائيلي قد تغير, ولا سياسات سلطة الكيان على مختلف أحزابها قد تغيرت, وكل المؤشرات تثبت أن المجتمع ينحو نحو اليمين والعنصرية بأحزابه وقواه, ولا الإدارة الأمريكية استجابت مرة واحدة للتنازلات الفلسطينية, ولا المجتمع الدولي قد أجبر العدو الصهيوني على تنفيذ قرار واحد من قرارات الأمم المتحدة منذ قرن من الزمان...!!
حـــدود المسؤوليـــات...
وبعد...هل يكتفى بالتشخيص والتحليل لمخاطر الصفقة وإطلاق المواقف اللفظية والصوت العالي في مواجهة ما يسمى بالمنعطف الخطير...؟ أم إننا معنيون اليوم أكثر مما مضى, كشعب صاحب أعظم المآثر والتضحيات وكقوى سياسية / فصائلية وطنية ومستقلين, وكنخب مفكرين ومثقفين, بالتعبير والانخراط الفعلي في مواجهة مشروع الصفقة, والمرجعية السياسية للصفقة "أوسلو" ومن أنتج أوسلو لا يزال يراوح في مكان وزمان وألاعيب أوسلو...؟
إن المواجهة الفعلية تبدأ من محاسبة الذات, ومن ثم إحيائها وتفعيل دورها, ومن تحديد قصورها, وفجورها حين أقدمت على فعل الزنا في الوطن...! الذي أنجب المخلوقات/المشاريع اللاوطنية والمشوهة... علينا أن نشطب من تاريخنا تلك الصفحة السوداء التي فاقت مساحتها عن ربع قرن من الزمن, ولا يتم ذلك إلا بتحديد الأطراف المسؤولة عن كتابة هذه الصفحة السوداء, وما آلت إليه الأمور وصولاً للصفقة, ولا معنى لتعويم المسؤولية, أو إخراج البعض من المسؤولية, فالغيورين اليوم على الحق الفلسطيني, عليهم ملامسة الواقع والمسؤولية, وتحديدها بقدرٍ عالٍ من الوضوح والشجاعة, وهذا أمر يستوجب انقلاباً في الوعي والرؤية والمفاهيم والممارسة, لجهة خلق رأي عام فلسطيني مغاير عن ثقافة أوسلو, والعمل على تشكيل مزاج فلسطيني مختلف, يكون الأمل فيه أقرب إلى الحقيقة, وطارداً لكل أشكال اليأس والقنوط والإحباط.
إن النقد الشعبي والثوري والسياسي, يجب أن يتمظهر على كل المستويات, على قاعدة نقد الخطاب الرسمي الفلسطيني, ونقد الفعل التنازلي أمام الأزمات, وعلى قاعدة تحديد المسؤوليات وتخومها, ومن ثم المحاكمة السياسية لكل طرف ساهم في خلق هذه الأزمة المستعصية, أو تقاعس أو تخاذل أو عجز عن مواجهتها في ذات اللحظة لولادته. ويجب أن يأخذ النقد الثوري الشعبي والسياسي أشكالاً مختلفة ضمن محاولات جادة لمأسسة النقد, عبر محاولة إعادة كتابة التجربة الفلسطينية برؤية موضوعية ومخالفة لرؤية الفريق المهيمن الذي هيمن على القرار والساحة الفلسطينية منذ عشرات السنين. وفي هذا المجال تقتضي المسؤولية أن تلعب مراكز الدراسات دوراً ريادياً في تفعيل وتشجيع النقد الثوري البنّاء للوصول إلى الرأي العالم الفلسطيني والعربي, والضغط على أصحاب القرار, وما يسمى بالمطبخ الفلسطيني الذي وضع كل المؤسسات الفلسطينية جانباً وأحالها إلى ديكور ليس إلا.
في ضوء ما سبق تتبدّى أهمية تبادل حدود المسؤولية للفصائل الفلسطينية ومختلف الكيانات السياسية الفلسطينية بعد ما آلت إليه الأمور... وتالياً ما العمل إزاء هذا الواقع المأزوم...؟ ما هي طبيعة التكتيك والاستراتيجيا للمواجهة...؟ وما هي الخطوات العملية التي تمثّل أولويات المواجهة...؟