منذُ بداية الأزمة الحالية، تَحدّث البعض، بإستهزاء، عن "التضخيم" الإعلامي والشعبي في ظل أزمة وباء الكورونا لدور الطواقم الطبية والعاملين في المجال الصحي، خاصّة عندما تمّ تنظيم وقفات للتصفيق كَعرفان أو تشجيع لهؤلاء الذين يقفون في مُقدّمة الصفوف في هذه المعركة القاسية.
العاملين في القطاع الصحي وعلى مُختلف مُسمّياتهم هُم رأس الحربة في مواجَهة الوباء على مر العصور، أو على الأقل منذ بداية التوثيق للوباء قبل حوالي أكثر من ألفي عام، وبحسب تقرير نشرتهُ ال"واشنطن بوست" الأمريكية عن أوبئة ضربت البشرية أشارت إلى وباء "الطاعون الأنطوني" والذي تفشى في روما بين الأعوام 165-180 قبل الميلاد، ومن وَثَّق هذا المرض وأعراضهُ كانَ طبيب ويُدعى "غالين"، ورصدت الصحيفة تسعة عشر وباءً آخرها فيروس كورونا المُستجد (كوفيد-19)، والذي باتَ ومنذ بدايتهِ يشكل خطرًا حقيقيًا على البشريّة، وما زال يُشكّل تهديدًا حقيقيًا لحياة الناس، ومواجَهتهِ باتَ أمرًا بُطوليًا لِما يُشكّلهُ من خطر حتى على حياة هؤلاء الجنود، وَمما لا شك فيه بأنّ هؤلاء، من العاملين في قسم الجهاز الصحي من عاملات وعاملي النظافة إلى الممرّضات والممرّضين والطبيبات والأطباء وعاملات وعاملي المُختبرات هم هؤلاء الجنود.
هل حقًا هناك تضخيم بحسبِ ما ذهب إليهِ بعض المُنتقدين بِسخرية وإستهزاء؟؟
وإن كانَ حقًا تضخيم فهل من المفترض أن ننتقد ونهاجم الأطباء أو الظاهرة بحدّ ذاتها؟؟
بلا أدنى شك لكل القطاعات دورًا حيويًا ومهمًا في حياتنا، ولكن حالة الهلع العامة؛ بعيدًا عن المزاح والتهريج حول الفيروس؛ جعلت الناس تشعر وتستشعر الخوف من المخفي القادم، شئنا أم أبينا، الأطباء في هذا المقام وكل العاملين في جهاز الصحة هم في مقدمة مواجهة هذا الوباء، وحتى لا ندخل "الآن" في نقاش دور الإستعمار أو نقاش الطبقية، في حالتنا الخاصّة، يجب أن نكون على يقظة من مواقفنا وعدم إغفال هذا الجانب (الإستعمار والطبقية) من باب الحفاظ على توقّد الفكرة ولكن هذا لا يعني أن نتهكم على من يُعطي الأطباء التحية والأفضلية والتقدير في هذه المعركة، (وهذا باتَ تقليد في كل دول العالم)، برأيي هذا واجب مع التأكيد بأنّ العامل، أي عامل لا يقل أهمية مجتمعيًا عن أي صاحب مهنة وخاصة الأطباء كون مجتمعنا باتَ يتباهى بالأطباء لدرجة التقديس، وهذا جزء من مرض مجتمعي تلعب فيه عدة عوامل، فنحن مجتمع يعيش تحت وطأة الاستعمار، وحتى من يرفض هذا الوصف هو يعاني من تبعاته وفي ذات الوقت نعيش أقسى المراحل الاستهلاكية، نمط حياة استهلاكي باتَ فيه الرأسمال هو السائد والهم الفردي يعلو على الجمعي، هكذا يتم تحويل الصراع من صراع سياسي وطني إلى صراع بقاء فردي بشكل موجَّه، ويغيب برنامج التحرير ليحلّ مكانه مشروع "همّ الناس"، وَهَمّ الناس هو أمر حياتي ضروري ومهم ومشروع ولكن حينَ يأتي بهدف زغزغة مشاعر الناس وتأليبهم على المشروع الأساس ألا وهو مقاومة الإستعمار، حينها نقع في ضرورة التصدي، ورغم كل ذلك لا نستطيع أن نغفل حقيقة أن الأطباء الآن هم من يتقدّمون الصفوف في مواجهة هذا الوباء، وإن كان وباء الصهيونية هو الأخطر، وهو فعلاً كذلك، ولكن لا نلحظ هذا الخوف منه عند العموم؛ للأسباب المذكورة أعلاه، هناك يوجد خوف من الموت وهنا يوجد خوف من الاعتقال أو الخوف من الضرر الشخصي والتنكيل (المهني الوظيفي الحياتي المعيشي)، هذه سمة عامة نشرها بعضهم، كالعادة، كَما في كل حالات الاستعمار، فأعوانه ليسوا فقط الجواسيس الأمنيين بل وأولئك أصحاب نظرية الاستكانة وعدم الخوض في المقاومة والحفاظ على الأمن الشخصي الفردي، هؤلاء ليسوا قلائل وخطرهم كبير كونهم يتصدرون أحيانًا المشهد "المقاوم" لسياسة سلطة الاستعمار وبالتأكيد هم يلعبون لعبة "الديموقراطية" بتراضي وتوافق مع "عدوّهم" الوهمي فهم في حقيقة الإمر زملاء في معركة تثبيت الاستعمار وشرعنته، بدءً من ثورة سبارتاكوس لتحرير العبيد مرورًا بالجزائر وفيتنام وليس إنتهاءً بفلسطين.
وهنا يجب التأكيد على أنّ الطبيب الفلسطيني ومن معه من العاملات والعاملين في القطاع الصحي في المستشفيات الصهيونية هُم ليسوا رُسل "سلام" ولا كتائب ال"التعايش" في دولة الإستعمار، وهُم ليسوا مندوبي الفلسطينيين في الداخل أو "الأقلية الفلسيطنية" بحسب البعض أو مندوبي "عرب إسرائيل" كما يريد لهم البعض، هم في وظيفتهم أولًا ويجب أن لا تنطلي عليهنَّ وعليهم كلام المديح والثناء من قبل بعض الساسة الصهاينة أو صحافتهم العنصرية، فقط هي الحاجة لهم، لجهودهم، في هذه المعركة تجعل عبارات المديح تخرج من بعظهم لِ"غير اليهود"، وهُم الآن يؤدون دورهم الطبيعي في وظيفتهم ومهنتهم الإنسانية، وهي المهنة الأكثر إنسانية عبرَ التاريخ، الماضي والحاضر.
ستنتهي أزمة جائحة الكورونا وتأتينا صناعة الأفلام بالجديد من أفلام المواجهات و"الأكشن" وحروب بيولوجية وأساطير ومعجزات قتالية ووهم الانتصارات، حينها سيجني منها الرأسمال الاحتكاري الخنزيري أرباحًا طائلة جدًا، ويدوس على السجاد الأحمر حفنة من الممثلات والممثلين "أبطال" هوليوود، وسيصبحون من أصحاب الملايين والمليارات ومشاهديهم ومتابعيهم من عموم الناس البسطاء وعموم الشعب، والأبطال الحقيقيين لن يذكرهم أو يتذكرهم أحد، كل هؤلاء العاملين في القطاع الصحي، المقاتلات والمقاتلين الحقيقيين في هذه المعركة.
تغيير التاريخ والواقع وجعل السجاد الأحمر مُلك الشعب وَسحق الفقر لن يُفيدَهُ التهكُم، وَلن يَتَأتَّى ذلك من دون فعل ثَوري حقيقي وقودَهُ حركة ثورية وإلّا فسيكون الحال بعدَ أزمة وباء الكورونا أسوأ من قبلها.