سَأتناوَل هُنا سريعًا حال العُمال الفلسطينيين في ظلّ وباء جائحة الكورونا، من أبناء الضفة الغربية المحتلة تحديدًا، ودور الإستعمار في تصدير المرض على المناطق المحتلة عام 67، وقبلَ الولوج في بعض المَشاهد المُرعبَة والتي تَعرَّض لها هؤلاء العُمال من قبل قوى الأمن الصَهيونية والمؤسّسة السياسيّة الاستعماريّة وكذلك من قبلِ أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينيّة حالَ عودتهم أو إعادتهم الى مناطق سُكناهم هُناكَ خَلفَ الجِدار أقتَبس فقرة قصيرة فيها تعبير تشابُهي للحالَة التي نحياها كَشعب فلسطيني تحتَ الاستعمار،على لسان المُفكر والمناضل "فرانز فانون"، إذ يقول في كتابهِ "معذبو الأرض" ما يلي:
"إنّ مدينَة المُستَعمِر (بِكَسر الميم) مدينة صلبة مبنية بالحجر والحديد، مدينة أنوارها ساطعة، وشوارعها معبدة بالأسفلت، وصناديق القمامة فيها ما تنفك تبلع نفايات ما عرفها الآخرون، ولا رأوها يومًا، ولا حلموا بها. والمُستعمِر لا تُرى قدماه عاريتين قط، اللهم إلا على شواطئ البحر، ولكن الآخرين لا يمكن أن يقتربوا منها اقترابًا كافيًا، قدمان تحميهما أحذية متينة مع أنّ شوارع مدينتهم نظيفة، ملساء، لا ثقوب فيها ولا حصى"..
منذ بداية الأزمة، لَم يخفي بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء كيان الاحتلال، قلقه على الاقتصاد وهو رجل معروف بمواقفه "النيوليبرالية المتطرفة" في الإقتصاد، وكانَت القرارات منذُ بدايتها لا تَسعى إلى إغلاق المرافق الاقتصادية وقد تكون حتى اللحظة الخلافات عالقة بالموضوع الاقتصادي، ولا شك أنّ كل المليارات التي أعلن عنها لتعويض القطاعات المختلفة لن تكون كافية لسد العجز الذي ستدخل به هذه القطاعات من العُمال والفقراء والمصالح التجارية الصغيرة والكبيرة منها ولكن أقطاب رأس المال المالي سيكون من نصيبهم الربح الأكبر في حالة لجوء الدولة لهم وهذا ما سيحصل وهم بالمناسبة بمعظمهم من مؤيدي نتنياهو.
وفي ذروة هذا الحرص على الاقتصاد والخوف من الكورونا لم يتم منع العمال الفلسطينيين من الدخول إلى المناطق المحتلة عام 48 للعمل هناك في كل مجالات الاقتصاد من ورش البناء والمطاعم والمقاهي، وعندما أعلنت السلطة الفلسطينيّة عن حجر كل قادم من مناطق الداخل لمدة 14 يومًا سمحت حكومة نتنياهو للآلاف من العُمال الفلسطينيين من الضفة الغربية بالمبيت في أماكن عملهم سعيًا منها لمنع توقف العمل خاصة في قطاع البناء، هذه الحكومة وأجهزتها الأمنية تلاحق بالعادة هؤلاء العمال وتضيّق عليهم عدا عن كونها أصلًا هي سبب شقاءهم بفعل استعمارها لوطنهم.
مالك غالب، عامل فلسطيني كانَ يعمل في ورشة في مُستعمرة "تل أبيب"، هناكَ شعرَ بالمرض فرفضَ أحد من مُشغليه أن ينقلهُ للفحص والعلاج وعندما توجّهَ بقواه الذاتية إلى أحد المراكز الطبية (سوراسكي) في المدينة لم يتم تقديم العلاج له وتم إستدعاء الشرطة وهذه بدورها إقتادتهُ إلى حاجز "بيت سيرا" العسكري وألقت بهِ هناك على قارعَة الطريق، فالاشتباه بإصابة العامل الفلسطيني بالكورونا باتَ خطرًا "أمنيًا" على "العرق الأبيض" المُستعمِر وَوجب تفكيكِه عبر إلقاءهِ خلفَ الجِدار إلى حضن "الوطن" المخصي بفعلِ الكمبرادور الحاكم في بعض من منطقة ما خلف الجدار، لَم يَستطع "مالك غالب" أن يقف على قدميه واضطرَ للزحف حتى ابتعد عن الحاجز العسكري الصهيوني، رئيس وزراء السلطة الأستاذ محمد اشتية أدانَ هذا التصرف الصهيوني، فكيفَ تصرَّفَ الطاقم الطبي الفلسطيني الذي أتى لنقلهِ، رفضوا أن يحملونهُ إلى سيارة الاسعاف وطلبوا منه أن يصعد إلى السيارة بنفسهِ، كانَ المشهد صاعق كيفَ يرفض الطاقم الفلسطيني أن يقدم المساعدة للعامل الفلسطيني رغم أنهم يرتدون اللباس الواقي والأقنعة ومعهم كل وسائل الوقاية، فعلاً إنّ تصرّف العساكر الصهاينة غير إنساني وغير أخلاقي، وكذلك تصرّف الطاقم الفلسطيني لا يختلف عنه سوءًا.
وَيستمر المشهد المسيء للعمال الفلسطينيين العائدين قسرًا إلى مناطق سكناهم في الضفة الغربية، ومن المهم هنا الإشارة إلى أنّ إعادة هؤلاء العمال سيعني بتوقف العمل في ورشات البناء في أكثر من سبعين ألف وحدة سكن صهيونية عدا عن المصانع الكبيرة، ففي منطقة "بركان" لوحدها يعمل أربعة آلاف عامل فلسطيني مما يعني أربعة آلاف عائلة وقد يكون أكثر من مائة ألف فرد فلسطيني مرتبط بهؤلاء العمال فقط.
في خطوة مشبوه قامَت أجهزة الأمن الصهيونيّة بفتح البوابات في الجدار الفاصل بينَ مناطق الاحتلالين 48/67، في خطوة تعني تدفق آلاف العمال إلى قراهم ومدنهم دون فحص أو متابعة أو مراقبة، هي خطوة بلا شك لا تختلف عن إلقاء العامل "مالك غالب" على قارعة الطريق ما وراء الحاجز العسكري، والهدف من دون شك إنهاك شعبنا الفلسطيني في تلك المناطق بالوباء في ظل غياب الامكانيات اللوجستية الصحية والطبية وإنشغال العالم بمكافحة الفيروس كلٌ في حاله، تمامًا كما الحال مع القدس حيثُ يعتقل الشباب المقدسي المُبادر لتعقيم الأماكن العامة في أحياء المدينة الفلسطينية، تمامًا كما الحصار الخانق على قطاع غزّة يعني تراجع امكانيات الوقاية أو العلاج، تمامًا كما حال مُخيّمات الشتات التي ترزح تحت وطأة التهجير والحصار والقهر ومنع العمل والحركة، تمامًا كما هو حاصل مع فلسطينيي الداخل "المواطنين" في دولة الاستعمار حيثُ يتم تجاهل هؤلاء السكان بدون مراكز وقاية أو فحوصات أو حجر كما هو الحال مع "ذات" المواطن الأبيض المُستَعمِر، إنّه ذات الإستعمار.
من المشاهد التي انتشرت مؤخّرا هي رش العمال العائدين، بالمبيدات والمعقمات ببث حي ومباشر وأمام أعين الناس، ليس من شك بأنَّ الوقاية ضروريّة والاحتياط واجب ولكن من الممكن أن يكون بطريقة فيها احترام للعامل/الانسان لا أن يتم بث الصور ببث مباشر، فهؤلاء العمال يتعرضون للتميز والاضطهاد من قبل مُشغليهم في المُستعمرة الكبرى ويتم اهانتهم في المكان الذي من المفترض أن يكونَ آمنًا لهم.
"إن مدينَة المستعمَر، (بفتح الميم)، مدينة جائعة، جائعة إلى الخبز، وإلى اللحم، وإلى الأحذية، وإلى الفحم، وإلى النور، مدينَة المُستَعمَر مدينة جاثية، مدينة راكعَة، مدينة متدحرجة في الوحل". (فرانز فانون)