Menu

يوم الأسير الفلسطيني: بين وحشية السجن وخطر "كورونا"

عبد الناصر فروانة

نُشر هذا المقال في العدد 13 من مجلة الهدف الرقمية

إن مقاومة الاحتلال شرفٌ تعتز به الشعوب، وتتباهى به الأمم، فما من شعبٍ قاوم المُحتل إلّا وانتصر. فالحق الذي لا يستند إلى قوة تحميه، فهو باطل في عُرف السياسة والقانون. لقد أيقن الشعب الفلسطيني هذه الحقيقة منذ زمن بعيد، ومارس مقاومته المشروعة، كحق وواجب، وقدم على مدار سني الاحتلال أرقام خيالية من الأسرى والمعتقلين، حيث أن الاعتقالات الإسرائيلية لم تقتصر على المقاومين الفلسطينيين فقط، وإنما شملت الكل الفلسطيني؛ إذ يمكن القول: أنه لم تَعد هناك عائلة فلسطينية، إلا وقد ذاق أحد أفرادها مرارة السجن، بل هنالك عدداً كبيراً من الأُسر الفلسطينية التي تعرضت بكامل أفرادها للاعتقال، واجتمعت سوية خلف القضبان. وما من فلسطيني مرّ بتجربة الاعتقال، صغيراً أو كبيراً، إلا وتعرّض إلى واحد من أحد أشكال التعذيب الجسدي أو النفسي. ويُقدر عدد أولئك الذين اعتقلهم الاحتلال الإسرائيلي من الفلسطينيين بأكثر من (1.000.000) فلسطيني، منهم (17.000) من النساء، وأكثر من (50.000) من الأطفال، هذا هو الإحصاء العام، وعلى الرّغم من أهميّته، إلا أنّ ما يجب معرفته وإدراكه أن خلف هذه الأرقام كثيراً من الحكايات والقصص.

لقد شكلّت قضية الأسرى والمعتقلين عنواناً بارزاً ومعلماً أساسياً من معالم القضية الفلسطينية، باعتبار قطاع الأسرى واحداً من أهم قطاعات الحركة الوطنية الفلسطينية، وجزءاً أساسياً من نضال حركة التحرير الوطني الفلسطيني؛ لذا فقد أصبح للأسير الفلسطيني منزلة كبيرة وقيمة عظيمة في وجدان شعبه وكل أحرار العالم، لما يمثله من قيمة معنوية ونضالية. وفي العام 1974 وخلال دورته العادية، أقر المجلس الوطني الفلسطيني- باعتباره السلطة العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية- يوم السابع عشر من نيسان/أبريل، يوماً لنصرة الأسرى والمعتقلين وتأكيداً على حقهم بالعيش بحرية وسلام بين أهلهم وأبناء شعبهم، ووفاءً لمعاناتهم وتضحياتهم، وتكريماً لدماء من سقط منهم شهداء خلف القضبان. وللتوضيح، فإنه لم يثبت حتى كتابة هذه السطور، أن اختيار هذا اليوم، واقراره، كان له علاقة بأي حدث تاريخي، وكما هو سائد لدى اعتقاد الكثيرين. وقد أقرت القمة العربية التي عُقدت في دمشق بتاريخ آذار/مارس عام 2008، اعتماد السابع عشر من نيسان من كل عام يوماً عربياً يتم إحيائه في الدول العربية تضامناً مع الأسرى  الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

ومنذ إقراره، والشعب الفلسطيني يحييه سنوياً، في فلسطين والشتات، بأشكال ووسائل عديدة، فيما لجأ هذا العام وفي هذه الظروف الاستثنائية وزمن "كورونا"، إلى التظاهرات والمؤتمرات الإكترونية والحملات الإعلامية ووسائل السوشيال ميديا، نصرة لهم، وتذكيراً بمعاناتهم، ودعماً لحريتهم، وتأكيداً على حضورهم الدائم ومركزية قضيتهم لدى الشعب الفلسطيني، ويشاركهم في ذلك كثير من الأشقاء العرب والأصدقاء والأحرار في عواصم ومدن عربية وعالمية كثيرة، ليغدو يوماً وطنياً وعربياً وعالمياً، تعزيزاً لمكانتهم القانونية ومشروعية كفاحهم، وعدالة قضيتهم التي حفرت عميقاً في وجدان ووعي الشعب الفلسطيني، وفي الذاكرة الجمعية لدى الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والحزبية وتوجهاتهم الفكرية والأيدلوجية.

تحل ذكرى "يوم الأسير الفلسطيني" وما يزال قرابة (5000) أسير يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بينهم (180) طفلاً، و(41) أسيرة، و(430) معتقلاً إدارياً، دون تهمة أو محاكمة، و(6) نواب، و(13) صحافياً، ومئات من الأكاديميين والكفاءات العلمية والرياضيين والقيادات السياسية والمجتمعة، وعشرات كبار السن وأكبرهم سناً الأسير "فؤاد الشوبكي"، الذي يبلغ من العمر (81 عاما).

وتشير المعطيات الإحصائية إلى وجود قرابة (700) أسير يعانون من أمراض مختلفة، منهم (300) أسير يعانون من أمراض مزمنة وخطيرة، كالسرطان والقلب والفشل الكلوي والشلل، وهؤلاء بحاجة إلى رعاية طبية مناسبة وتدخل علاجي عاجل لإنقاذ حياتهم، كما وتشير إلى أن نحو (541) أسيراً يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد "مدى الحياة" مرة واحدة أو عدة مرات.

وتمضى السنون وتنقضي الشهور والأيام، وتتراوح الأعداد بين جيل وجيل، وتتغير الوجوه وتتبدل الأسماء، ويقضي الأسرى أعمار وراء القضبان، وفي حضرة يوم الأسير الفلسطيني هذا العام، نقرأ أسماء نقشت عميقاً في أذهاننا وعقولنا لنحو (51) أسيراً مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين سنة على التوالي. ونتألم أكثر حينما نجد من بينهم (14) أسيراً وقد هَرِموا بعد أن أمضوا ثلاثين سنة وأكثر – وما زالوا- في سجون الاحتلال. فتأتي أمام ناظرنا صوراً لقامات شامخة وراء الشمس، فنرى كريم وماهر يونس ومحمد الطوس ووليد دقة ورشدي وابراهيم أبو مخ وأحمد أبو جابر وسمير أبو نعمة ورائد السعدي وغيرهم. هذا بالإضافة إلى عشرات آخرين ممن تحرروا في صفقة وفاء الأحرار (شاليط)، وقد أعاد الاحتلال اعتقالهم، ولعل أبرزهم "نائل البرغوثي"، الذي أمضى ما مجموعه (40) سنة على فترتين. أرقام صادمة تُثير فينا كثير من الألم والوجع.

وفي حضرة الوفاء، نستحضر أرواح (222) أسيراً سقطوا شهداء بعد الاعتقال منذ العام 1967، بسبب الإهمال الطبي والتعذيب المميت والقتل العمد؛ فيحضرنا قاسم أبو عكر، وعبد القادر أبو الفحم، وخليل أبو خديجة، وعمر عوض الله، واسحق مراغة، وعمر القاسم، وإبراهيم الراعي، وأسعد الشوا، ومصطفى العكاوي، وخالد الشيخ علي، وعبد الصمد حريزات.. والقافلة تطول.. ونأمل أن يكون آخرهم الأسير سامي أبو دياك الذي استشهد بتاريخ 26تشرين ثاني/نوفمبر من العام المنصرم داخل السجون الإسرائيلية نتيجة الإهمال الطبي. هذا بالإضافة إلى مئات آخرين –لم يتم احصاءهم- توفوا بعد خروجهم من السجن متأثرين بأمراض ورثوها من السجون فترة اعتقالهم، وآخرين كُثر كان السجن قد تسبب لهم بإعاقات مستدامة، جسدية وعقلية أو حسية (بصرية وسمعية).

وتحل مناسبة "يوم الأسير" هذا العام في ظروف استثنائية، حيث وحشية السجن وخطر السجان و"كورونا"، في ظل تردي الأوضاع الصحية وتصاعد عمليات القمع والتنكيل من قبل السجان، والتخوف المشروع من خطر الإصابة بفيروس "كورونا"، والذي تفشى في المنطقة وتخطى جدران السجون وداهم الأقسام فأصاب عدداً من السجانين والسجانات والمحققين، دون أن تتّخذ إدارة السّجون أيّ إجراءات لحماية الأسرى وضمان سلامتهم، ولم تقدّم لهم أدوات الوقاية والتّعقيم والتّنظيف، ودون تغيير يُذكر على كمية ونوعية الغذاء المقدم للأسرى، أو توفير احتياجات المرضى، بما يساعدهم في تقوية المناعة ومواجهة "الوباء". كما ولم تُتخذ أي خطوة للأمام لمعالجة الاكتظاظ وتقليل الاحتكاك والمخالطة وضمان التباعد الاجتماعي، مما فاقم من معاناتهم ورفع درجة الخشية والقلق لديهم وعليهم في ظلّ استمرار الاستهتار الإسرائيليّ بحياتهم وصحّتهم، وتوقف زيارات الأهل والمحامين وانعدام آليات التواصل البديلة بين الأسرى وعوائلهم، مما شكّل عبئاً إضافياً على الطرفين.

ولم تكتفِ إدارة السجون الإسرائيلية بعدم تقديم ما هو ضروري وإنساني في مثل هذه الظروف الخطرة، وإنما لجأت هذه الإدارة إلى مصادرة عشرات أصناف المواد الغذائية وأدوات النظافة والتعقيم من مقصف السجن، والتي كان يشتريها الأسرى على حسابهم الخاص، مما يؤكد على أنها تتعمد إيذاء الأسرى وغير مكترثة بما يصيبهم من ضرر، وما قد يولده من "كارثة" إذا حلّ فايروس "كورونا" بينهم.

إن الإعلان عن عدم وجود إصابات مؤكدة بين صفوف الأسرى، لا يعني أنهم يتمتعون بالحصانة من الإصابة؛ فالروايات التي تردنا كلها تأتينا من إدارة السجون الإسرائيلية التي نشكك بمصداقيتها ولا نثق بحديثها، ولدينا الكثير من التجارب التي تؤكد على أنها أخفت من قبل الملفات الطبية للعديد من الأسرى، وكثيراً ما تكتمت ولم تفصح عن طبيعة الأمراض التي عانى منها بعض المرضى الأسرى. فهذا وغيره، يستدعي منا جميعاً الارتقاء بمستوى أدائنا، وبذل كثير من الجهد الإضافي، واللجوء إلى استخدام كافة الآليات الدولية وتوظيفها بما يكفل تفعيل أدوات المُساءلة والمحاسبة من جانب، ويضمن إنقاذ الأسرى من وحشية السجن وخطر "كورونا" من جانب آخر.

وفي السياق ذاته، فإننا نطالب المجتمع الدولي بمؤسساته المختلفة، وخاصة اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الصحة العالمية، إلى تحمل مسؤولياتهم والتحرك العاجل لإرسال وفد طبي دولي محايد لزيارة السجون الإسرائيلية، وتوفير سبل وأدوات الحماية للأسرى، وكذلك الضغط على الاحتلال من أجل الافراج الفوري عن الأسرى المرضى وكبار السن والأطفال والسيدات، باعتبارهم الفئات الأكثر عرضة للإصابة بخطر "كورونا"، وإنقاذ حياتهم قبل فوات الأوان.

وبرغم الألم وشدة الوجع، يبقى الأمل؛ أمل أن نرى كل هؤلاء الأسرى والمعتقلين وقد كُسر قيدهم وتحقق حُلمهم بالعودة أحراراً غلى بيوتهم، وقضاء ما تبقى لهم من العمر بين أحبتهم وأبناء شعبهم في رحاب الحرية.