ما تبقى من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام الدولي منذ ثلاثة أرباع القرن تقريباً – التي كانت فريدة من نوعها – هي الأفكار والحيوية الأمريكية التي أنتجت التطور والاستقرار.. لكن السؤال المطروح في زمن الكورونا الذي حصد مئات الألوف من المصابين والأرواح من مختلف بلدان العالم – التي لا تزال تنتظر اكتشاف اللقاح المضاد – هو: هل سيستمر النظام الدولي الليبرالي الذي رعته الأعراف والقواعد الأمريكية بعد تراجع قوتها ومكانتها؟ وهل ستتقبل الولايات المتحدة تراجع امبراطوريتها؟! وفي إطار الإجابة عن التساؤل يقول السيد هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق: "إن العالم بعد انتشار وباء كورونا لن يكون كما كان قبله"، غير أن عدداً من مراكز البحث العلمي والاستراتيجي في الولايات المتحدة تستنتج بأن الحديث عن زوال النظام الدولي الليبرالي مبالغ فيه إلى حد كبير كونه حقق قدراً كبيراً من الفوائد, ولأن معظم البدائل تنطوي على مخاطر جسيمة "!...
هل يمكن إحياء النظام الدولي؟
يمكن القول أن مساعي التأسيس الرابع للنظام الدولي الليبرالي ستكون صعبة؛ لأن هذا النظام تدرّج عبر ثلاث مراحل, فالمرحلة الأولى ارتبطت بمحاولة الرئيس ويلسون تأسيسه بعد الحرب الكونية الأولى لكنه فشل, أما المرحلة الثانية فكانت محاولة الرئيسين روزفلت وترومان تأسيسه في أثناء وبعد الحرب الكونية الثانية فنجحا.. بينما تنتمي المرحلة الثالثة – أي الراهنة – إلى قيام الرئيسين بوش الأب "الجمهوري "وبيل كلينتون "الديمقراطي "بإعادة تأسيسه في حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.. ومن المؤكد أن الإدارة الأمريكية التي ستأتي بعد إدارة الرئيس ترامب ستتراجع للخلف؛ لأن الأخيرة قوّضت أسس النظام الدولي الليبرالي الذي لن يعود إلى الحياة, وكذلك الجهود لإعادة إنعاشه ستكون بلا جدوى..!
ومن علامات تدهور النظام الدولي الراهن صعود أحزاب اليمين الشعبوي العنصري في الولايات المتحدة وبلدان أوربا, وعدم قدرة منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي على التعامل مع التحديات الراهنة الأكثر إلحاحاً, بما في ذلك الديون والحواجز غير الجمركية, فضلاً عن تصاعد مشاعر الاستياء من استغلال الولايات المتحدة للدولار في فرض العقوبات, وكذلك تراجع دور مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة, بإيجاد حلول للصراعات حول العالم, وفشل الأمم المتحدة بمواجهة التحديات المرتبطة بالعولمة, وحماية الملكية الفكرية, علاوة على أن الاتحاد الأوربي الذي يشكّل أكثر المؤسسات الإقليمية نجاحاً واستقراراً في السابق, يكافح اليوم لصيانة مكوناته بعد الخروج البريطاني, وضرورة التوصل للقواسم المشتركة بين دوله حول قضيتي الهجرة والسيادة الوطنية. بالنظر إلى تلك المتغيرات، ربما تصبح مهمة المحافظة على النظام الدولي الحالي مهمة صعبة, كما أن أي جهد في هذا السياق سيكون غير كافٍ أيضاً لظهور تحديات جديدة, ولذلك فإن الولايات المتحدة تحاول التكيف مع هذا المصير, وتركيز جهودها على إدارة عملية التدهور, وأن لا تكون انتقائية في التزاماتها..!
ومن أجل إدارة عملية التدهور تسعى لتقوية عناصر معينة من النظام القديم, واستكمالها بالتدابير التي تستجيب لديناميات تغيّر مركز القوة الدولية, والمشكلات العالمية الراهنة, وعلى رأسها القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي, وعدم التخلي عن محاولة إدماج الصين وروسيا الاتحادية في المؤسسات الإقليمية والعالمية للنظام, وكذلك التعاون مع القوى الخيّرة في النظام الدولي لمعالجة مشكلات العولمة, خاصة تغيّر المناخ, والتجارة, والتهديدات السيبرانية, والذكاء الصناعي. ويتطلب ذلك جملة من الإجراءات على صعيد الداخل الأمريكي, وإعادة إصلاح البنية التحتية، وبضمنها النظام الصحي والتعليمي, وزيادة الاستثمار في شبكة الأمان الاجتماعي, واعتماد نظام هجرة إنساني يسمح بالاندماج وتوفير فرص عمل والعيش بأمان.. لن تستطيع الولايات المتحدة تعزيز النظام الدولي في الخارج بفاعلية إذا كانت منقسمة في الداخل, وغارقة بمشكلاتها الاجتماعية والمعيشية !..
لا طموح للصين بالهيمنة!
تذهب بعض التحليلات والأدبيات الغربية للتحدث عن مساعي الصين لتعزيز قوتها الشاملة لتحل محل الولايات المتحدة كقوة مهيمنة على النظام الدولي؛ الأمر الذي دعا وزير الخارجية الصيني لدحض تلك الآراء والأفكار بقوله: "لن تكرر الصين.. لن تكرر أبداً ممارسات الدول الكبرى القديمة التي تسعى للهيمنة", وبالتالي جاء إصرار الرئيس الصيني في أيلول 2019 عندما قال: "الصين تفتقر للجين الذي يدفع القوى العظمى المختلفة نحو السعي للهيمنة..!".
لم يكف المسؤولون الصينيون عن الترويج لتلك الرسالة منذ بدء نهوض دولتهم وصعودها المدهش, وبالتالي يسعون جاهدين من أجل طمأنة الدول الأخرى, لا سيما الولايات المتحدة وروسيا, إلى نوايا سياسة بلادهم الحميدة, فـ " بكين" لا تريد أن تحل محل "واشنطن" على قمة النظام الدولي, وليس من مصلحتها إقامة شبكة من التحالفات الدولية, أو تشتت وجودها العسكري في أماكن بعيدة, أو إرسال جنودها بعيداً عن حدود وطنهم, وكذلك لا تريد قيادة المؤسسات الدولية التي ستقيّد سلوكها, أو نشر نظام حكمها خارج حدود بلادها.. لكنها ترى في منطقة المحيطين الهندي والهادي مجالها الحيوي, وتطالب الولايات المتحدة بالخروج من تلك المنطقة, حتى تصبح المهيمن العسكري والسياسي والاقتصادي الذي لا ينازعه أحد.
لقد نجحت الصين بعدم الدخول في مواجهة غير مرغوب فيها مع الولايات المتحدة, من خلال الإحجام عن تحديها مباشرة, أو تكرار نموذجها لبناء النظام الدولي, أو مضاهاة نشاطها العسكري عالمياً, كذلك التركيز على الدبلوماسية الهادئة, وإصدار التصريحات والوعود المنسّقة بعناية, والتأثير على حلفاء الولايات المتحدة الآسيويين, وتطالب الصين الولايات المتحدة لكي تبقى "دولة عظمى"، وأن تعزز حضورها دون التقليل من مشاركتها في النظام الدولي الليبرالي, ومضاعفة التزاماتها تجاه الشعوب الفقيرة والقضايا العادلة, وأن تجعل قيادتها مفيدة للجميع بدلاً من اعتناق استراتيجية قائمة على مبدأ "أمريكا أولاً. "!..
الطريق سالك للقطبية الثنائية
الهيمنة الأمريكية المؤقتة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة في طريقها للاختفاء, وإن الطريق أصبح ممهداً أمام عودة عصر القطبية الثنائية.. لكن الانتقال من عصر الأحادية الأمريكية إلى عصر الثنائية القطبية سيشهد اضطرابات ومد وجزر, وربما يكون عنيفاً, حيث سيضع الصعود الصيني الدولة على مسار تصادمي مع الولايات المتحدة حول العديد من المصالح المتضاربة. ففي الوقت الذي تقلل فيه واشنطن ببطء من انخراطها الدبلوماسي والعسكري في الخارج، لم يبلور القادة الصينيون خططاً لكيفية استخدام قوتهم لملء الفراغ في القيادة الدولية وتشكيل الروافع المساعدة.
إن عالم الثنائية القطبية القادم سيكون حقبة "السلام القلق" بين القوتين العظميين, لأن كلاً منهما تتوخى الحذر إزاء إدارة التوترات قبل تورطها في صراع مباشر, وبدلاً من السعي للهيمنة المطلقة من خلال تحالفات متعارضة, ستخوض القوتان منافسات في المجالات التكنولوجية والسيبرانية والاقتصادية.. ويصبح تنامي النفوذ الصيني على الساحة الدولية مرتبط بصورة رئيسية بتخلي الولايات المتحدة عن قيادتها الدولية في عهد الرئيس دونالد ترامب, كذلك بالصعود الاقتصادي للدولة ذاتها, على الرغم من أنه لا يزال غير واضح إذا كانت سياسات الرئيس ترامب التي تقوّض القوة والقيادة الأمريكية للنظام الدولي مجرد نوع من انحراف قصير الأمد عن القواعد التقليدية المؤسسة للسياسة الخارجية الأمريكية, أم أنه توجّه جديد للولايات المتحدة, والذي يمكن أن يدوم بعد انتهاء ولايته؛ فالتداعيات العالمية لسياسة الرئيس الأمريكي هي التي دفعت بعض الدول نحو الصين, ويمكن الاستدلال على ذلك بتحوّل العلاقات الصينية – اليابانية من العداء الخفي إلى التعاون خلال زيارة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي إلى بكين في تشرين أول 2018, حيث وقّعت الدولتان أكثر من "50" اتفاقية تعاون اقتصادي وتكنولوجي.
خلافاً للنظام الدولي الذي كان سائداً خلال حقبة الحرب الباردة، فإن النظام الثنائي القطبية بين الولايات المتحدة والصين سيتشكّل على قاعدة تحالفات حول قضايا محددة أكثر من التكتل على أسس أيديولوجية واضحة, فالقوتين لا ترغبان في بناء أو استمرار شبكة كثيفة ومتنوعة من التحالفات, حيث لا تزال الصين تتجنب تشكيل تحالفات واضحة, بينما تشكو الولايات المتحدة من الحلفاء المنتفعين الذين "يركبون بالمجان" حسب تعبير الرئيس ترامب. لن تكون الثنائية القطبية الأمريكية – الصينية صراعاً وجودياً مدفوعاً بالأيديولوجيا, وإنما منافسة على الأسواق والمزايا التكنولوجية التي ستتجلى بشكل نزاعات حول الأعراف والقواعد التي تحكم التجارة والاستثمار والملكية الفكرية.. وبدلاً من التكتلات العسكرية والاقتصادية المعروفة, ستتبنى معظم الدول سياسة خارجية تقوم على الاصطفاف مع الولايات المتحدة في بعض القضايا ومع الصين في أخرى!...