Menu

حوارالشاعر المصري محمود قرني لـ الهدف: قصيدتي ضد الساسة ورجال الدين وكهنة رأس المال

حسين البدري

الشاعر محمود قرني

خاص بوابة الهدف

التراث العربي يقف رأسا برأس إلى جوار أكبر التراثات الإنسانية.. ولدينا شعراء أكثر أهمية من نظرائهم في العالم
تبدد المشروع القومي هوى بالشعر إلى مخابئ الذوات المغلقة.. ونعيش كابوسية الانهيار الكبير والأنظمة المعادية لشعوبها
هزيمة 1967 أنعشت أنظمة الحكم الأبوية والطوطمية المتخلفة.. وأعادت إنتاج التصورات الاستشراقية عن رجعية الفكر الإسلامي والعربي
النص الفلسطيني سياج للهوية المهددة من قوة استئصالية.. وقضية الشاعر في استعادة الأرض غير منقوصة أكبر من مواقفه العقائدية والأيديولوجية
الماركسية حالة رسولية لن تُهزم.. ووجود كهنة للشيوعية وضعية غير قابلة للاستمرار
شعر "ابن المجاور" عن احتلال الصليبيين للقدس أكبر من إسرائيل بعشرة قرون.. وغياب المناعة التاريخية للصهيونية سبب عدائيتها المقززة مع الكتل الحضارية القديمة
إسرائيل القوة الوحيدة الباقية من تاريخ الهمجية.. ودعم الغرب للصهيونية يعضد الصراع الحضاري على أسس عقائدية
الروائيون الجدد احتلوا موقع الشعراء.. وخدموا السلطة بتخفيض تشيوء العمال للسيطرة على الاضطرابات
جماعات الشعر الحديث في مصر ولبنان والعراق ثارت على متن راكد وتورطت في معاداة تراثها.. والشعراء ساهموا في تعزيز اغتراب قصيدتهم
قصيدتي تعبر عن الجماعة البشرية الناطقة بلغتها.. والشاعر مجبر على اقتراح جمالي يجيب على أسئلة زمنه
الفاسدون حولوا الثقافة المصرية إلى جماعات للمصالح والبلطجة والشللية.. وشعراء الردة عن الأفكار التقدمية نماذج صفيقة للرجيعة

يكتسب الحوار مع الشاعر المصري الكبير محمود قرني أهمية خاصة، في زمن تتراجع الشعرية العربية، فيما يُشرق هو بقصيدته الفاتنة في فضاء يبدو معاديا للإبداع والتجديد، صاحب مشروع بارز من ضمن أهم الأصوات في مصر المعاصرة، محيلا قارئه إلى بشار بن برد والمتنبي وامرؤ القيس والطغرائي وغيرهم من كبار شعراء العربية، وفي الوقت نفسه، بوشكين ومالارميه وجون كيتس، في انفتاح عميق الأثر على النص الإنساني بالكامل.

Scan10.jpg

صاحب "لعنات مشرقية" موسوعي الثقافة في التراثين العربي والعالمي، يبدو مثل ناسك فرعوني نحيل الجسد، تحمل قسمات وجهه السمراء تاريخ طويل من مطاردة الشعر الجديد ومقارعة الاستبداد، وعدم التساهل مع تردي الثقافة الرسمية ومفارقة، لدرجة العداء، الخطابية والغنائية التي طبعت تجارب الكثير من الشعراء، لذا تكفي مطالعة ديوان واحد لـ محمود قرني، لكي تتيقن أن الشعر العربي، مهما عانى، بخير.
"الهدف" حاورت الشاعر المصري البارز في القاهرة، وختم حديثه الحافل بالإحالات المعرفية شرقا وغربا، بتساؤل عميق المغزى عن ما يفعله المثقف، لا سيما الخائن لقضيته، أمام ضلالات إسرائيل؟ منافحا عن الفكر اليساري ببسالة المؤمنين الأوائل بالرسالات الكبرى، وعن التراث العربي كابن بار بأسلافه القدامى العملاقة، فإلى نص الحوار.

- بعد عشرة دواوين وكتابين نظريين ومسيرة شعرية لافتة.. كيف يقيم محمود قرني مشروعه في سياق القصيدة العربية؟
ربما كان الأقرب إلى الملاءمة تجاه سؤال كهذا أن يتحدث الشاعر عن طموحه فيما لم يتحقق وهو كثير؛ وليس فيما حققه بالفعل وهو ربما أقل القليل. كثيرون من الشعراء يعتبرون ماضيهم إرثا مشينا أملا في حاضر أكثر نضجا، لكن هذا الحاضر للأسف لا يأتي، لقد رحل كثيرون من كبار شعراء العالم وهم يعتقدون على نحو جازم أنهم لم يقولوا كلمتهم بعد، فالشعر في النهاية فن تاريخي يمثل الذاكرة الأسطورية للشعوب من ثم فإن أمثولاته وحكمته وقدرته على التجدد غير قابلة للنفاد، بهذا المعنى حاولت أن أكون مخلصا لمشاعري ومعتقداتي، وحاولت التعلم طالما وسعني ذلك. 
الشعر طبعا، ومهما قلنا، سيظل صاحب وظيفة أخلاقية بمعنى ما، ومع ذلك فهو فعل احتجاجي كما يقول ماركيوز؛ حيث يرى أن معارضة الشعر للاضطهاد هى مقياس التفرقة بين الفن الصحيح والفن الزائف، فتاريخ البشرية هو تاريخ الاضطهاد والعسف لذلك يجب على الشعر أن يكون قوسا لكسر هذا الاغتراب. وقد حاولت في كل ما كتبت تقريبا أن تكون قصيدتي فكرة ضد النظام، أقصد النظام بمعناه القسري، الذي بنى هيراركية تاريخية سلبت البشر حقهم في العدل والحرية وخلق سادة على جثث الحمقى ممن صدقوا الساسة ورجال الدين وكهنة رأس المال.

Scan9 (1).jpg

- يرى البعض أن قصيدة النثر صنعت حاجزا بين الشعر والقارئ العربي، بالإضافة إلى أنها مازلت تواجه بالرفض من شعراء كبار.. كيف ترد؟
لا أفهم كيف لنص تميزه اللغة التدوالية والوقائعية ويعاني من بساطته ويخلق، في الوقت نفسه، حاجزا بينه وبين القارئ العربي، أظن أن المشكلة تتأتى من اغتراب تلك الشعرية إذا ما وضعناها أمام تقاليد الشعرية العربية في المدونة الكلاسيكية، فثمة مسافة كبيرة تفصل بين جماليات الحديث والقديم، وهو أمر يحتاج الكثير من الدربة لكي يدخل المدونة الشعرية العربية، وقد ساهم الشعراء أنفسهم في تعزيز هذا الاغتراب عبر المجانية والاستخفاف ومحدودية المعرفة بتاريخ الشعر، فقصيدة النثر لا يجب أن تكون مطية لمن فشل في أن يكون شاعرا بالأساس، أو مطية لكل من فشل في تعلم قواعد العروض الشعري، ففكرة الحرية فيها لا تعني حرية التراكم الكمي الذي لا يغني  ولا يثمن.
قصيدة النثر صعبة للغاية؛ لأنها تواجه امتحانا صعبا إذا ما وضعناها أمام التراث الشعري العربي بكل فخامته وهيبته، شعرنا القديم شعر عظيم وقد ترك لنا شعراء أكثر أهمية من شعراء عالميين نصدح بأسمائهم ليل نهار، ومن ثم فلن يتنازل قارئ الشعر عن تلك الجماليات لقاء بعض الأوراق التي تكتظ بالخواطر لدى عشرات الشعراء الذين نطالعهم، لذلك فإن شاعر تلك القصيدة مجبر على أن يكون صاحب اقتراح جمالي يستطيع الإجابة على أسئلة زمنه، وعلى سبيل المثال إذا تحدثنا عن غياب عنصر الغنائية عن قصيدة النثر، وهو عنصر مهم جدا في الشعرية لابد أن نبرر للقارئ لماذا أخذت قصيدة النثر مسافة من الغنائية؟ سنجد أن هذا النص في منابته الأصلية صعد مؤازرا للطبقة العاملة التي تقلل من شأن البنية الغنائية للبرجوازية، وكان هذا سببا كافيا للسخرية من فكرة الإنشاد والاستلاب التي كانت تختلسها الشعريات القديمة والتي لم تختلف في أحيان كثيرة عن عظات الأحد ولا عن إنشاد الموالد. 
الشعر مع قصيدة النثر يخاطر بمستقبله لذلك عليه إخضاع اللغة لمتطلباته الجديدة ومن ثم كان على مفهوم الشعر نفسه لدى هؤلاء الشعراء أن يتغير، أعرف أن اكتشاف قصيدة النثر أمر صعب حين يكون على الشاعر أن يقتنصها من تلك الاعتيادية والألفة، فأي قوة على الشاعر أن يمتلكها كي ينجح في فعل ذلك؟ لذلك ربما يصدق هنا قول سوزان برنار: إن قصيدة النثر تبدو قصيدة ضد نفسها؛ لأنها تبدو تعريفا مستحيلا للشعر إذا ما وضعناها أمام فن النظم صاحب التقاليد الباذخة.

Scan8.jpg

- كيف ترى مراحل التطور والتجديد في قصيدة النثر العربية ومساهمة جيلكم -جيل الثمانينيات- في ذلك؟
 أستطيع القول أنني ظللت أسيرا للشعرية العربية التقليدية لوقت ليس قصيرا، شأن معظم أبناء الجيل الذي أنتمي إليه، كانت علاقتي بالتراث العربي جيدة بدرجة مقبولة، لذلك كنت أتحسس الخطى عندما ضاقت بي الشعرية التقليدية، وبعد أن أنجزت ديواني الأول "خيول على قطيفة البيت" وهو من شعر التفعيلة، شعرت باختناق من هذا الشكل، لكن كثيرا مما كان موجودا في تراث قصيدة النثر لم يكن يمثل إجابة شافية على هذا القلق، وأظن أن شعرية قصيدة النثر اختلفت بشكل كبير لدى الأجيال الجديدة، بداية من جيل الثمانينيات، لأنها في رأيي لم تكن تحولات مفتعلة، ولم تقصد بحال الكيد للمتن، بل كانت استجابة لتحولات فكرية وسياسية عميقة في العالم، فكما شهد القرن الثامن عشر تحولا في المفاهيم الجامدة حول فكرة الشكل، فإن القرن العشرين شهد تحولا أكبر على مستوى الشكل والمضمون معا، فالفوضى والاستئثار والسلطوية التي أدير بها العالم بعد سقوط القطبية لم تجعل لفكرة الفن البديهي بمحسناته المباشرة مكانا يذكر، وبات كأنه سخرية من قارئ لا يكاد يفهم شيئا من مغنيين يرتدون ثياب الشعراء، هذه الأزمة جعلت من الفن منطقة خلق إرادي وواع، لأن الشاعر كان مطالبا بدخول مناطق محرمة ومجهولة، ولعلك ستجد أصداء ذلك لدى الشعراء المؤثرين في قصيدة النثر. لقد وصف شعراء كبار بالهذيان والجنون والغرابة؛ مثل بيرتران ومالارميه ورامبو، رغم أنهم لم يكونوا إلا جوَّابي آفاق لم يسبقهم إليها أحد. 
لذلك كان الشعر محتاجا إلى أن يسترد المعنى الشعري على حساب الإصاتة والجلجلة، ولكي يحدث ذلك كان على الشعر أن يقترب أكثر من النثر حتى لو احتفظ ببعض غنائيته، وقد كان لفيكتور هوجو مقولة مأثورة: "لقد ألقيت بالشعر السامي إلى كلاب النثر السوداء". لقد دخل جيلي إلى حقول قصيدة النثر تحت تأثيرات من هذا النوع، كل حسب قناعاته وخبراته، وقد أسفر المشهد عن أسماء شديدة الأهمية والتأثير منها؛ إبراهيم داوود، فتحي عبد الله، علي منصور، فاطمة قنديل، غادة نبيل، علاء خالد وآخرون ربما لا تسعفني الذاكرة بالتوقف عند منجزهم.

- تذخر قصائدك بإحالات إلى التراث العربي وتبدو مهتما في دواوينك الأخيرة بمحاكمة الاستعمار الكولونيالي.. هل ترى أن الثقافة العربية استطاعت أن تتخلص من سلطة الثقافة الأوروبية وتنتج خطابا عربيا حداثيا يفهم الواقع؟
 التراث العربي يقف رأسا برأس إلى جوار أكبر التراثات الإنسانية، وشعراؤه لا يقلون أهمية، بأي حال، عن كبار الشعراء في تاريخ الشعر العالمي، ولا أبالغ إذا قلت إن بعضهم يتجاوز شعراء ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، وفي كثير من الحالات أجدني مدفوعا للتعبير عن تلك العلاقة بشكل غير مقصود، لكنه يستهدف، بشكل ما، أن تكون القصيدة تعبيرا فطريا عن الجماعة البشرية التي تنطق بلغتها، أعني أن الثقافة الروحية هنا والمرتبطة بالمكان غالبا، تلعب دورا مؤثرا في هذا السياق. 
الشعراء الذين تقبلوا فكرة تخفيض حضور الرموز المحلية في نصوصهم، باعتقاد أن النص كلما فعل ذلك اقترب من العالمية، يبدون وكأنهم خلعوا سراويلهم في ميادين تكتظ بالبشر بينما يعتقدون أنهم يفعلون ذلك في خلوات مغلقة، ولا أظن موقفي من الكولونيالية بعيد عن هذا التصور، فقد تعرضت الثقافة العربية لخطر سيطرة النمط الذي تفرضه الثقافة المهيمنة، وهي ثقافة الغالب ما يضطر المغلوبين إلى التكيف معها، ولا أشك في أن نتائج العولمة هى نفسها نتائج الاستعمار.

Scan6.jpg

ـ  كيف أثرت هزيمة المشروع النهضوي العربي على تراجع الشعر خاصة أن الشعر كان من أهم الروافع المعرفية لفكرة القومية في الستينيات؟
تجليات الخصوصية الثقافية للقومية العربية كانت أول القيم التي تبددت مع تبدد المشروع القومي، وليس الشعر وحده. الشعر لم يفشل بالطبع، لكنه ذهب إلى مخابئ الفردية والذوات المغلقة. 
كانت الهزيمة قاسية وكانت ردة بعض الشعراء مخيفة، لاسيما من تحدثوا تحت شعارات تقدمية وهم نماذج صفيقة للرجعية، لقد كانت النهضة العربية حلما اجتمعت حوله إرادات شتى مستهدفة تجديد مناعتها الحضارية، لكن الفشل أنعش أحلام أنظمة الحكم الطوطمية المتخلفة والرجعية، فظلت تمثيلا لأحط أشكال العبودية وأكثرها قسوة، ومن ثم بقيت بين أعلى تمثيلات الهزيمة، فالدولة التي حلم بها زكي الأرسوزي وجمال عبد الناصر وميشيل عفلق فقدت بريقها وجاذبيتها لدى قطاعات عريضة من الحالمين بها، بعد تصدع المشروع القومي الذي ارتبط بمشروع التحديث عبر أكثر نماذجه طليعية، ومنذ صيف السابع والستين تعززت لدى عامة العرب قبل خاصتهم فكرة وصول الصراع إلى منتهاه، حيث انتصار ما بعد الكولونيالية في صيغتها الجديدة، ومن ثم كان لابد من إعادة إنتاج الحلفاء القدامى من قادة الرجعية العربية، لكي يتقدموا سطح المشهد لإعادة الحيوية إلى فضائه الموحش، وهكذا حلّ نموذج الدولة الرجعية الذي سرعان ما أعاد إنتاج الأبوية والطوطمية، لتتعزز في النهاية تلك التصورات الاستشراقية القديمة حول دوجمائية ورجعية الفكر الإسلامي عامة والعربي على نحو خاص.
وقد عمدت الأنظمة فاقدة الشعبية، بطبيعة تكويناتها المعادية لشعوبها، إلى تعزيز بقائها عبر تكريس أدوات التجهيل بالمزيد من تقديس الماضي ومن ثم إضفاء المزيد من الرواقية على الناطقين به، عبر تعزيز مكانتهم ووجاهتهم الاجتماعية، ولا أظن أن الشعر كان منفصلا عن مشهد الانهيار الكبير الذي لازلنا نعايش كابوسيته.

- لماذا يشعر القارئ العربي أحيانا أن بعض شعراء قصيدة النثر العربية هم ظلال لـكبار شعراء الغرب؟
 كلامك صحيح؛ فهناك تجارب كبيرة في قصيدة النثر وقعت تحت وطأة المؤثرات الغربية التي هى مصدر النص نفسه، وأعتقد أن كثيرين من شعراء الأجيال الجديدة تأثروا بتلك التجارب كما تأثروا أيضا بالنص المترجم، لكن ثمة شعراء حاولوا أن يستنبتوا قصيدة النثر في التربة العربية، لكن تلك المحاولات تحتاج إلى نقدية نشطة وفاعلة قادرة على التقييم. 
وقد ورثنا جميعا تراثا مهما وثقيلا في الوقت نفسه من جماعات تاريخية سبقتنا إلى تلك المغامرة، سواء كانت جماعة "الفن والحرية" المصرية التي صدر بيانها "الفن المنحط" عام 1938، جماعة شعر في لبنان، وكركوك في العراق، ورغم أهمية ما قدمته لنا تلك الجماعات إلا أنها جميعا كانت على عداء ما مع تراثها لدرجة دفعت محمد الماغوط "أحد أعضاء جماعة شعر" إلى أن يصف أعضاءها بقوله: "إذا ما نطقت باسم المتنبي في وجه أحدهم سقط مغشيا عليه"! كما وصفت مجلة فرنسية، في قول هازل، بيان "الفن المنحط" لجماعة الفن والحرية بأنه "انتفاضة الشرق دفاعا عن قيم الغرب"، وهو قول لا يمكن تقدير مساحة الجد فيه من الهزل. البيان لا شك كان انتصارا لقيم التجديد في الفن والأدب ضد النظم "الأوتوقراطية" التي تعزز المخاوف حول الهويات الوطنية، وقد بدا ذلك في التضامن مع طليعة الفن الغربي "إيلوار، كاندينسكي، ماكس أرنست، بول كلي وغيرهم" ضد الفاشية الأوروبية، لاسيما في ألمانيا وإيطاليا، ولعل المواجهة التي خاضها الشاعر جورج حنين أحد أبرز أعضاء الجماعة مع مؤسس المستقبلية الإيطالية "فيليبو مارينيتي" بعد تحالف جماعته مع "موسيليني" تعد واحدة من أعلى تعبيرات رفض "حنين" وجماعته لتحالفات الحرب وصراعات الكولونيالية ونزعات رأس المال في السيطرة على المزيد من المستعمرات وتشريد المزيد من البشر. 
وفي كل الأحوال فقد مثلت تلك الجماعات أكبر ثورة ممكنة على متن راكد تم الاجتراء عليه فيما بعد من الأجيال اللاحقة.

الشاعر محمود قرني.jpg

- هل كانت الرواية بديلا للشعر بسبب حاجة الجماهير واختيارها أم أن السبب كان تغير أنماط الإنتاج والاستهلاك؟
لا أخفي عليك أن كثيرين من شعراء العالم تعاملوا مع الشعر في العقود الأخيرة باعتباره خسر معركته أمام الرواية، الشعر طبعا أعطية الرعوية والفطرة الأولى فيما الرواية أعطية العصر الصناعي، وبالتالي بدت الأكثر ملاءمة. الساردون الجدد احتلوا موقع الشعراء، فهم قادرون على التسرية عن ساكنى المخيمات والملاجيء وقتلى الحرب وملايين العمال أمام الماكينات، الساردون الجدد قادرون على صناعة المشاهد الساحرة وتخفيض حالة التشيوء التي تبدو لدى الساسة مقدمة لاضطرابات عظمى لابد من السيطرة على اعتمالها مبكرا وقبل الأوان، ربما لذلك بدا الساردون الجدد الأقدر على تبادل المواقع مع السلطة والقيام ببعض مهامها، أما الشاعر فساخط عظيم على كل هذا، والمجتمع نفسه ينظر بسخط شديد إلى كل خلق جديد ومختلف، لكن السارد كما أنه أكثر واقعية هو أيضا الأكثر رومانسية لأنه كما يقول ياكبسون: ذلك الرجل الذي يقسم أن الوجود ليس به نساء دميمات. 
لقد سب المتنبي الزمن لأنه جعل منه شاعرا، وكان شديد الضجر بتلك المهمة، ربما لذلك كان واحدا من بين أقل الشعراء العرب إنتاجا، وليس غريبا أن يعيد تساؤله أبو الفوارس التميمي عندما يقول: "إلامَ يراك المجد في زي شاعر / وقد نحلَتْ شوقا فروع المنابر".

من اليسار الروائي عزت القمحاوي، الشاعر محمود قرني، الشاعر أمجد ناصر، الشاعر فتحي عبدالله.jpg

ـ لماذا استقلت من "بيت الشعر المصري"؟ وكيف تقيم أداء المؤسسة الثقافية الرسمية بشكل عام؟
عندما قبلت عضوية أول مجلس أمناء لبيت الشعر المصري كان ذلك على إثر النجاح الساحق الذي حققه الملتقى الأول لقصيدة النثر في مطلع العام 2009، والذي انعقد في نقابة الصحفيين برعاية الأستاذ علاء ثابت رئيس تحرير جريدة الأهرام حاليا، ورئيس اللجنة الثقافية بالنقابة وقتذاك. 
الملتقى كان صناعة أبرز شعراء الجيل، وأذكر منهم الشعراء والشاعرات فتحي عبد الله، إبراهيم داوود، غادة نبيل، ولينا الطيبي وآخرون وأخريات ربما لا تسعفني الذاكرة بسرد أسمائهم. ربما استهدف الاختيار أشياء أخرى غير الشعر، لكنني قبلت العضوية في النهاية لصالح الشعر، والحقيقة أنني قضيت وقتا طيبا على مدار سبعة أشهر تقريبا قبل استقالتي، الأجواء بطبيعة الحال لم تكن في صالح الشعر الجديد، لكنني استطعت انتزاع بعض المكاسب المقبولة، وجرى فرض قصيدة النثر فرضا، بل كرست لها ندوة مستقلة. 
غير أن سبب الاستقالة المباشر ارتبط بلحظة حاسمة كان يجب فيها على مجلس الأمناء أن يختار، طبقا للائحة، مرشحيه لجوائز الدولة ومع بداية الاجتماع المقرر لذلك فوجئت بالشاعر الراحل فاروق شوشة يطرح أسماء أعضاء اللجنة أنفسهم للترشح: الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي لجائزة مبارك وقتها "النيل حاليا"، الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة للجائزة التقديرية، والشاعر محمد سليمان لجائزة التفوق. أبديت تحفظا مباشرا أقلق الجميع وأثار غضبهم، وكان التحفظ لا يتعلق بقيمة مَن طرحت أسمائهم، فقد أشرت إلى استحقاق كل منهم لما هو أكبر من الجائزة، لكن ليس من الملائم أن يكون مجلس الأمناء خصما وحكما في الوقت نفسه، وعندما اشتط غضب بعض الأعضاء اقترحت استقالة من يرغب في الترشح من عضوية المجلس حتى نرفع الحرج عن بقية الأعضاء وعن مجلس الأمناء كله. انتهى الاجتماع الغاضب بعد دقائق ولم يعلن اتخاذ أية قرار، لكن ما حدث بعد أيام هو ترشيح ذات الأسماء كيفا اتفق أصحاب المصلحة، فما كان مني إلا أن استقلت غير نادم.
أما المؤسسة الثقافية فهى لا تستحق مجرد الذكر؛ الثقافة المصرية، بفضل الفاسدين من قصار القامة والقيمة ممن يشغلون أبرز مواقعها، استطاعوا أن يختصروا مفهوم الثقافة من كونه أعلى تعبيرات العقل المصري الذي أسس عصر النهضة إلى كونه واحدا من تعبيرات جماعات المصالح والشلل والبلطجية. والمثقف الحقيقي عاكف على مشروعه في بيته أما هذا الزبد فسوف يذهب مع قاذورات النهر.

- ديوانك الأخير "ترنيمة إلى أسماء بنت عيسى الدمشقي" مهدى إلى الشاعر الفلسطيني خيري منصور والأردني عاشق فلسطين أمجد ناصر.. كيف تقيم مساهمة الشعر في مسيرة الثورة الفلسطينية بوجود أسماء مثل معين بسيسو وسميح القاسم ومحمود درويش وغيرهم؟
يقول موشي ديان: "إن قصيدة يكتبها شاعر مقاوم تعادل عنده عشرين فدائيا"، ولا يستطيع المرء أن يتبين موقعا للخوف في قلب جنرال كهذا من قصيدة شعرية؛ إلا إذا كان يتعامل مع الشعر باعتباره قيمة تعبوية حسب المصطلح العسكري، وربما هذا ما أدى بالدولة العبرية، في النهاية، إلى أن تعتقل تقريبا كل شعراء فلسطين؛ فقد مُنع محمود درويش من قول الشعر وهو في المدرسة الابتدائية، كما مُنع عبد الرحيم محمود بذات الطريقة وسُجن أكثر من خمس مرات متتالية، وقد حدث الأمر نفسه وإن بصور مختلفة مع توفيق زياد، سميح القاسم، وفدوي وإبراهيم طوقان، وربما كانت أعلى تعبيرات هذا العسف تظل مجسدة  في اغتيال الصهيونية ل غسان كنفاني ، الذي عوقب قلمه الأعزل بعربة مفخخة. 

غلاف ترنيمة (4).jpg

ما لا يدركه الجنرال ديان أن النص المقاوم لم يكن سلاحا فحسب، بل هو سياج حول الهوية المجرحة المهددة بالزوال في مواجهة قوة استئصالية كان قَسَمُهَا ولازال مقتطع من نص المزمور 137 / 5 / 6: "إن نسيتك يا أورشليم فلتنسني يميني". 
الشاعر المقاوم ليس شرطا أن يكون حكيما في السياسة، يكفيه أن انتماءاته ليست حزبية، وحسبما يقول ستيفن سبندر: يظل الشاعر منتميا فقط لحزب الحياة. من هنا تظل قضية الشاعر أكبر من مواقفه العقائدية أو الأيديولوجية التي حصره فيها النقد وحاول الجمهور استدراجه إليها لتزكية نزعات تقلص من قيمة قضيته المركزية، التي هى قضية استعادة الأرض غير منقوصة.
- انضممت إلى تنظيمات وحلقات شيوعية ثم ابتعدت.. لماذا؟ وهل تعتقد أن الإيديولوجية الماركسية هُزمت بشكل كامل؟
الماركسية لا يمكن أن تهزم، قد تكون انهارت سياساتها نتيجة أخطاء الممارسة الدوجمائية وغياب التطور، فضلا عن الحرب البشعة التي تعرضت لها من الرأسمالية. فالماركسية واحدة من أكثر الأفكار الأخلاقية بريقا، هى حالة رسولية شديدة الطوباوية، ستجد دائما مناصرين يرتقون بها مرتقى عقائديا. 
الماركسية أنشودة إنسانية من أجل العدالة الأرضية المفقودة، شأنها في ذلك شأن الأديان الكبرى التي جاءت لتحرر الإنسان من نير الظلم، لكنها وقعت في فخاخ الفقهاء والكهنة، ومشكلة الماركسية في كهنتها أيضا، لكن هذه الوضعية غير قابلة للاستمرار لأنها ضد طبيعة الأشياء، وقد عايشت بشكل شخصي العمل السياسي مع جماعات الاشتراكيين الثوريين، وبكل أسف كانت الخلافات العقائدية جزءا أساسيا من هزيمة تلك التيارات الصغيرة، وكانت تحالفاتهم السياسية مسرفة في سوء التقدير، لدرجة تدفعهم على سبيل المثال للتحالف مع إرهاب الإخوان المسلمين، فقط لأنهم ضد السلطة القائمة. هذا التحالف كان يمكن فهمه قبل ثورة يناير 2011 لكن بعد أن كشف هذا الفصيل الرجعي عن ممارسات تمييزية وإقصائية ودموية كان لابد من إعادة النظر في تلك التحالفات، والنتيجة طبعا تراها في حجم حضور هذا التيار في الواقع.
ما فعلته لم يكن أكثر من تعبير شعري عن تلك الأزمة، وهو مسلك شعراء كثيرين عملوا بالسياسة، واذكر هنا مثالا، أنه في العام 1942 استقال الشاعر والناقد الإنجليزي ستيفن سبندر من الحزب الشيوعي البريطاني، وأصدر عقب استقالته كتابا مهما "الحياة والشعر"، كشف فيه عدوا قديما جديدا للشعر ألا وهو السياسة، ويروي أنه عندما استوقفه قيادي على باب الحزب ليسأله عن سبب استقالته رد عليه بمثل شعبي بريطاني يقول "خُلق السبت للإنسان، ولم يخلق الإنسان للسبت"، وكان يعني "خلق النظام السياسي ليخدم الإنسان ولم يخلق الإنسان ليخدم النظام السياسي".
كان الموقف في جملته راجعا لذلك الامتهان الذي تعامل به ساسة صغار وكبار مع سبندر كشاعر، حيث اعتبروه مجرد واحد من جنود الشيوعية الستالينية، وكان سخف ما يراه يدفعه للتساؤل: لماذا تجري الأمور على هذا النحو بينما يمكنها أن تجري على نحو آخر؟ إن أصل الأشياء ألا تتعارض الأنظمة الاجتماعية مع الأسئلة التي يوجهها الشاعر للحياة، ويبدو أن هذا هو التصور الوحيد الممكن لجعل الشاعر حيا وقادرا على تأمل أسئلة الموت والميلاد والوجود جملة. من هنا يرى سبندر أن الشعرية لا يمكنها أن تكون حزبية اللهم إلا بمعنى أن تتحول الحياة نفسها إلى حزب!

- من وجهة نظرك كيف يواجه الفلسطينيون والعرب "صفقة القرن"؟ ومع تسارع وتيرة التطبيع ومساعى تصفية القضية.. ما هو دور المثقف العربي في هذه الحالة؟
صفقة القرن ماتت قبل أن تولد، وردود الفعل التي صدرت عن بعض الحكام العرب بجعل الباب مواربا أمام إعادة الطرح على الرأي العام  لم تلق قبولا في الشارع العربي، لذلك لم يتجاسر أحدهم على الإعلان صراحة عن قبول الصفقة ولا حتى النفخ فيها إعلاميا، فهى في حقيقتها تمثيل لأعلى صفاقات القرن وليس صفقاته. 
مشكلة القوة الأوروأمريكية إدراكها أن إسرائيل ستظل تعبيرا مبتسرا ضمن بيت من الشعر كتبه "ابن المجاور" عن ضياع القدس على أيدي الصليبيين، حيث يقول متحسرا: "أُسَعِّرُ نار وجْدِكِ كلما خبت بادَّكارِ يبعث الحسرات". مفارقة التاريخ أن هذا البيت أكبر من دولة إسرائيل بأكثر من عشرة قرون، من هنا أتصور أن غياب المناعة التاريخية عن البنى الاجتماعية لذلك الكيان الاستئصالي يأتي على رأس الأسباب التي تدفعه للتعامل بعدائية مقززة مع  الكتل الحضارية القديمة في العالم، وهى كُتَل كانت وستظل تمثل إشكالية كبرى أمام تلك الكتل المستحدثة التي تمتلك المال والقوة، لكن ليس بإمكانها أن تشتري لنفسها تاريخا. وإذا كانت القيمة الحضارية للتاريخ الإنساني، تعني تشكل منظومة من القيم المعرفية التي تعمل ضد الهمجية، فإن إسرائيل تبدو تقريبا القوة الوحيدة الباقية من تاريخ الهمجية، لذلك لا يمكن قراءة مواقف القوى الكبرى في العالم من قضية فلسطين برمتها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلا باعتبارها حديقة خلفية لفرض مشاريع الاستشراق الجديد الذي يستكمل أجندته بتعضيد الصراع الحضاري على تلك الأسس العقائدية التي انحطت وسائلها بشكل لم يشهد له التاريخ مثالا. فما الذي سيفعله المثقف، لاسيما إذا كان خائنا لقضيته، أمام كل هذه الضلالات؟!