Menu

بالكتابة عن الاعتقال الإداري: عبد الرازق فرّاج يغني تجربة الحركة الأسيرة الفلسطينية

د. ماهر الشريف

نقلا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية

"الاعتقال الإداري في فلسطين كجزء من المنظومة الاستعمارية. الجهاز القضائي في خدمة الأمن العام"، هو عنوان الكتاب الصادر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية من إعداد الكاتب والصحافي الأسير عبد الرازق فرّاج، الذي أمضى، على دفعات، سبعة عشر عاماً في سجون الاحتلال الإسرائيلي، كان في الجزء الأكبر منها رهن الاعتقال الإداري، وتعرّض أكثر من مرة للتعذيب في أقبية التحقيق على أيدي ضباط "الشاباك"، كان آخرها في تشرين الأول/أكتوبر 2019، إذ كان قد اعتقل في أيلول/سبتمبر من العام نفسه بعد أن سلم المسودة الأولى لهذه الدراسة واستكملها من داخل سجنه، وما زال في انتظار المحاكمة.

يتألف الكتاب من مدخل وخمسة فصول وخلاصة، وهو يتناول، بالاستناد إلى التجربة الملموسة لمعدّه، سياسة الاعتقال الإداري وكيفية استخدامها من جانب الاحتلال الإسرائيلي أداة للقمع والتعذيب، الجسدي والنفسي، ضد الأسرى الفلسطينيين وأسرهم، والسياق التاريخي لاستخدام هذه السياسة منذ بداية الاحتلال، والدور الشكلي لمحاكم الاعتقال الإداري. كما يتطرق إلى أشكال مواجهة الفلسطينيين لهذا الاعتقال على مدار السنين، وإلى الإشكاليات المتعلقة بمقاطعة محاكم الاحتلال.

تعذيب نفسي متواصل للأسرى ولأسرهم

يشير عبد الرازق فرّاج إلى أن الاستعمار الصهوني يواصل، منذ نكبة 1948، سياسة الاعتقال الإداري ضد المواطنين الفلسطينيين، بالاستناد إلى قوانين الطوارئ البريطانية لسنة 1945، معتبراً أن الطارئ أصبح مجرد اسم ولم يعد طارئاً، بل تحوّل مع الاستعمار الصهيوني لفلسطين إلى ممارسة قمعية دائمة وراسخة، وبات جزءاً من ممارسات الاحتلال وما يمثله من منظومة استعمارية.

وتؤكد الإحصاءات الفلسطينية أن السلطة الاستعمارية أصدرت منذ سنة 1967 أكثر من 52000 قرار اعتقال إداري، ما بين قرار جديد وتجديد للاعتقال. وبناءّ على هذه القرارات، يحتجز المعتقلون الإداريون فترات طويلة تمتد إلى عدة أعوام ولمرات عديدة متكررة من دون لوائح اتهام، أو "محاكمات عادلة"، استناداً إلى شبهات يتضمنها ما يُسمى ملفاً سرياً هو في الواقع من صنع أجهزة أمن الاحتلال وتلفيقها. وما أن يقترب المعتقل الإداري من إنهاء ثقل القرار الأول بالاعتقال التعسفي، الذي يترواح ما بين ثلاثة وستة أشهر، والمعاناة جراءه، حتى تنتظره مع ذويه معاناة أخرى جراء قرار ثانٍ وثالث ورابع...إلخ، في تعبير عن التعذيب النفسي المتواصل.

ويتوقف عبد الرازق فرّاج عند هذا التعذيب النفسي الناجم عن الاعتقال الإداري، الذي لا يقتصر على المعتقلين فحسب، بل يشمل أفراد أسرهم أيضاً؛ ففي كل موعد "افتراضي" للإفراج ينتظر المعتقل وذووه فرحاً لا يتحقق، إذ تسرقه جرة قلم من قائد "المنطقة الوسطى" في جيش الاحتلال الذي يوقع قرار تجديد الاعتقال بناء على توصية من جهاز الأمن العام بالذريعة ذاتها "كون المعتقل يشكّل خطراً على أمن المنطقة والجمهور". ويورد الكاتب أمثلة عن مظاهر هذا التعذيب النفسي، إذ كتبت سهى البرغوثي في آب/أغسطس 1996 واصفة أثر تجديد اعتقال زوجها أحمد قطامش في ابنتهما حنين البالغة من العمر آنذاك سبعة أعوام ما يلي: "كما 380 عائلة أخرى، نضطر أنا وطفلتي كل ستة أشهر إلى كبح قلقنا وأملنا وتوقعاتنا بأن الاعتقال الإداري هذه المرة لن يتجدد، وأن أحمد سيتحرر من الاعتقال. الاعتقال الإداري يضاعف الألم لدى المعتقل وأسرته لأنه يضيف إلى الأذى والغضب الناجمين عن غياب الزوج والأب الغموض المتعلق بمتى ستتوحد العائلة مجدداً. هذا التجديد المستمر للاعتقال الإداري يترك أثراً نفسياً شديداً في العائلة وفي المعتقلين، وخصوصاً في الأطفال". أما باسل، ابن عبد الرازق فرّاج، فقد كتب في مقالة في حزيران/يونيو 2014 التالي: "لقد عانى والدي من الاعتقال الإداري لسنوات طويلة، فقد أمضى ما يقارب ثماني سنوات من مجموع سنوات اعتقاله الأربع عشرة تحت رحمة هذه السياسة التعسفية. خلال هذه السنوات الطويلة، حُرم أبي وحُرمنا نحن من لحظات كان من الممكن أن تجمعنا. هي سنوات طويلة وجّه أبي خلالها أنظاره إلى حائط السجن، وما قد يكمن وراءه، ووجّهنا نحن أنظارنا إلى عدد قليل من الصور، آملين أن تعيد إلى الذاكرة لحظات كانت قد جمعتنا يوماً... اليوم، ما زالت أنظارنا تتجه إلى تلك الصور التي، ربما، قد ازدادت صورة أو اثنتين في العام الماضي. ونحن على يقين تام من أن انظار والدي وأفكاره، وهو متواجد حالياً في مستشفى "مئير" في كفر سابا، ما زالت تتجه نحونا ونحو صورة وطن حر رسمه وأتقن رسمه في مخيلته".

الاعتقال الإداري أداة سيطرة ممنهجة

يشكّل الاعتقال الإداري أداة رئيسية بيد الاحتلال الإسرائيلي للسيطرة على الفلسطينيين من خلال إخضاع المعتقلين وأسرهم وكي وعيهم، كما أنه شكل من أشكال العقاب الجماعي والانتقام. فخلافاً لمزاعم الاحتلال الإسرائيلي بأن الاعتقال الإداري هو "إجراء استثنائي"، يلجأ الاحتلال إلى هذا الإجراء كإجراء عقابي على نطاق واسع بما يشير إلى أنه اعتقال سياسي مبني على آراء المعتقل السياسية. وهو ما أكدته منظمة العفو الدولية التي ارتأت أن الاعتقال الإداري "ظل يستخدم بانتظام من جانب السلطات الإسرائيلية كشكل من أشكال الاعتقال السياسي، وبما يُمكن السلطات من احتجاز السجناء السياسيين بصورة تعسفية، بمن فيهم سجناء الرأي، كما أن هذه السياسة تستخدم لمعاقبتهم على وجهات نظرهم وانتماءات سياسية يُشتبه في أنهم يتبنونها، رغم أنهم لم يرتكبوا أي جرم". ويستشهد عبد الرازق فرّاج، في هذا السياق، بقضية القائد المقدسي الراحل فيصل الحسيني، الذي جاء في قرار القاضي في جلسة الاستئناف أمام المحكمة العيا ضد اعتقاله إدارياً بتاريخ 6 كانون الأول/ديسمبر 1987، أن "حقيقة كون نشاطات المستأنف ذات طبيعة سياسية لا تغيّر من خصائصها المدمرة"، الأمر الذي يؤكد أن الهدف الرئيسي للجوء إلى الاعتقال الإداري هو محاولة إخضاع النشطاء السياسيين ليكفوا عن معارضتهم المشروعة للاحتلال. ومنذ أن جرت انتخابات المجلس التشريعي سنة 2006، تكرر اعتقال العشرات من أعضاء هذا المجلس إدارياً بذريعة أنهم يشكّلون خطراً على أمن المنطقة والجمهور.

ولا يواجه المعتقلون الإداريون إمكانية تجديد اعتقالهم بصورة غير محددة، بل يواجهون كذلك إمكانية إبعادهم القسري خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة أو داخلها. ويورد عبد الرازق فرّاج في هذا الصدد مثال هناء شلبي التي تمّ ترحيلها، وهي معتقلة إدارية من قرية برقين في الضفة الغربية المحتلة، إلى غزة لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، في 1 أبريل/نيسان 2012، أي عقب ثلاثة أيام من صفقة أنهت إضراباً عن الطعام استمر 43 يوماً، فيما بدا تدبيراً أقرب ما يكون إلى الترحيل القسري، بحسب تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية. كما يورد، بالاستناد إلى المصدر نفسه، مثال صالح العاروري الذي أفرجت عنه سلطات الاحتلال في 16 آذار/مارس 2010 بعد نحو ثلاثة أعوام في الاعتقال الإداري، "وكان سابقاً قد قضى أكثر من ست سنوات قيد الاعتقال الإداري. وقضت المحكمة العليا الإسرائيلية، في مارس/آذار 2010، بعدم مواصلة اعتقاله الإداري، وبدلاً من ذلك، وافقت على اقتراح السلطات الإسرائيلية بإبعاده خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة مدة ثلاث سنوات".

وفضلاَ عن الإبعاد القسري، تلجأ سلطات الاحتلال إلى فرض عقوبة الإقامة الجبرية في منطقة السكن المحددة، وهو إجراء لجأت إليه بصورة خاصة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات. فما أن ينهي الفلسطيني فترة الاعتقال الإداري حتى تُفرض عليه إقامة جبرية يعاد بعدها إلى الاعتقال الإداري، بهدف التعذيب النفسي المتواصل. وهو ما حصل مع خالد دلايشة الذي اعتقل إدارياً مدة أربعة أعوام ونصف العام، من آذار/مارس 1889 حتى أيلول/سبتمبر 1993، ولدى الإفراج عنه صدر بحقه قرار إداري بالإقامة الجبرية في مدينة سكناه البيرة مدة ستة أشهر. وفور انتهاء قرار تقييد حركته وتحديداً في نيسان/أبريل 1994 صدر ضده قرار اعتقال إداري لمدة ستة أشهر، وظل يتجدد لمدة أربعة اعوام.

كما قد تلجأ سلطات الاحتلال في حالات عديدة إلى تجديد اعتقال المعتقلين إدارياً قبل الموعد الافتراضي للإفراج عنهم، أو بعد فترة وجيزة من مغادرتهم السجن، وهو ما حصل مع المعتقل الإدراي رائد حنني، من بيت فوريك قضاء نابلس، الذي أفرج عنه بتاريخ 26 حزيران/يونيو 2002 بعد اعتقال إداري دام عاماً واحداً؛ فقد أمضى يومين في مدينة الخليل بسبب الحصار ومنع التجول آنذاك، ليحتجز بعد ذلك على أحد الحواجز العسكرية غير البعيد عن قريته، ويعاد مباشرة إلى الاعتقال الإداري مجدداً.

ضباط جهاز الأمن العام يتحوّلون إلى قضاة

  • أن يتخذ ضباط الأمن العام "الشاباك" قرارات الاعتقال الإداري، ويصادق عليها ما يسمى قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال، تتحوّل إلى قرارات نافذة بعد إقرارها من جانب قاض عسكري في محكمة مغلقة تسمى "مراجعة قضائية"، أو بتعبير المعتقلين "محكمة تثبيت اعتقال"، التي يتوجب عليها أن تعقد خلال ثمانية أيام من صدرو قرار الاعتقال الإداري أو تجديده، وبعد ذلك يُمنح المعتقل الحق في استئناف قرار هذه المحكمة أمام قاض عسكري في محكمة مختلفة تسمى "محكمة الاستئناف"، كما يُمنح الحق في الاستئناف أمام المحكمة العليا الإسرائيلية في حال رُفض استئنافه في المحكمة الأولى. بيد أن حق الاستئناف مكفول أيضاً للنيابة العسكرية كممثلة للشاباك، والتي في إمكانها استئناف قرارات القاضي العسكري في محكمة "المراجعة القضائية" إذا لم ترقَ لها أمام محكمة الاستئناف أو أمام المحكمة العليا.

ويؤكد عبد الرازق فرّاج أن من يقوم بالدور الرئيسي في جلسات محاكم المراجعة القضائية والاستئناف هو ممثل النيابة العسكرية باعتباره ممثلاً في الواقع لجهاز الشاباك، الذي يتسلح بـ "الملف السري" ضد المعتقل، وهو ملف يُحظر على المعتقلين ومحاميهم الاطلاع عليه. أما القاضي العسكري في المحاكم الخاصة بالاعتقال الإداري فهو يقوم بدور شكلي، ويبقى رهينة لإرادة جهاز الشاباك، بحيث أن رجال هذا الجهاز هم المدعون العامون وهم القضاة، أو بتعبير الصحافية الإسرائيلية عميرة هس: "رجال الشاباك يحكمون بدون محاكمة". أما المحاكم الخاصة بالاعتقال الإداري، فهي ليست سوى محاولة لتجميل وتسويق ممارسة بشعة هي في صلب المنظومة الاستعمارية، بالإضافة إلى كونها تتناقض مع أبسط معايير حقوق الإنسان. فجوهر سياسة الاعتقال الإداري قائم –كما يضيف- على شبهات وتقديرات من جانب جهاز الشاباك غير مدعمة بأدلة أو بينات أو اتهامات مثبتة ضد المعتقل.

وبالنسبة إلى دور المحكمة العليا في هذا الشأن، تقول منظمة العفو الدولية إنها تقبل "في نهاية المطاف الحجج التي يتذرع بها النائب العام وما يُعرض عليها من أدلة سرية (وهنا أيضاً في جلسة مغلقة منفصلة دون حضور المعتقل ومحاميه أو محاميها) من قبل الشاباك وترّد الطعن". ويشير عبد الرازق فرّاج، بالاستناد إلى تقرير صادر عن هذه المنظمة، إلى أنه ليس هناك سوى قضية مدونة واحدة أمرت فيها المحكمة العليا بالإفراج عن معتقل إداري من الأراضي الفلسطينية المحتلة كان محتجزاً بمقتضى أمر عسكري.

وتكشف المحامية تمار بيلغ، التي ترافعت خلال العقود الثلاثة الماضية عن مئات المعتقلين الإداريين أمام المحاكم، النقاب في كتاباتها عن محاولة استخدام سياسة الاعتقال الإداري كوسيلة لتجنيد المتعاونين مع الاحتلال من خلال عرض عدد من الإغراءات، منها المال وتقليص فترة الاعتقال ومنح تصاريح للدخول إلى الداخل الفلسطيني.

مواجهات وأمعاء خاوية ومقاطعة للمحاكم

يشير عبد الرازق فرّاج إلى أن بدايات مواجهة سياسة الاعتقال الإداري كانت مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى في اواخر سنة 1987. إلا أن المواجهة لم تكن شاملة أو ممنهجة آنذاك، وإنما كانت أقرب إلى احتجاجات متقطعة، مثل الاحتجاجات على شروط الاعتقال القاسية جداً، والمواجهات المتنوعة مع السجانين، ولا سيما في معتقلات الظاهرية ومجدو وأنصار 2 في غزة، والنقب الصحراوي "أنصار 3". وفي هذا المعتقل الأخير، تكرر اندلاع مواجهات مباشرة بين المعتقلين والسجانين خلال آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر وتشرين الثاني/نوفمبر 1988 وكانون الأول /ديسمبر 1989 استشهد خلالها الشابان أسعد الشوا من غزة وبسام السمودي من قرية اليامون قضاء جنين وأصيب آخرون. كما أُعلنت إضرابات عن الطعام خلال شهري شباط/فبراير وآذار/مارس احتجاجاً على أوضاع المعتقل الصعبة.

وخلال التسعينيات، شهدت مواجهة المعتقلين الإداريين لسياسة اعتقالهم تغيّراً نوعياً، وذلك عندما أقدموا، يوم 4 آب/أغسطس 1996، لأول مرة على مقاطعة محاكم الاستئناف العسكرية مقاطعة شاملة، ثم لجأوا خلال شباط/فبراير وآذار/مارس 1997 إلى حرق "أسرة خشبية" وعدة خيام في تعبير عن غضبهم واحتجاجهم على مواصلة تجديد اعتقالهم. وخلال هذه الفترة، اطلقت مجموعة من النشطاء اليساريين الإسرائيليين المعارضين لسياسة الاعتقال الإداري مبادرة باسم "الأبواب المفتوحة" تضامناً مع المعتقلين الفلسطينيين، شملت عدداً من الأنشطة التضامنية تضمنت إرسال رسائل إلى حكومة الاحتلال وجهازها القضائي، وإلى مؤسسات دولية بالإضافة إلى مؤازة أسر المعتقلين أنفسهم.

وفي كانون الأول/ديسمبر 2011، دشن خضر عدنان من بلدة عرابة قضاء جنين الذي اعتقل إدارياً في ذلك الشهر مرحلة جديدة في نضال الفلسطينيين ضد الاعتقال الإداري، عندما أعلن إضراباً مفتوحاً عن الطعام استمر 65 يوماً، قبل أن تقرر المحكمة العليا الإقراج عنه في نيسان/أبريل 2012 بناء على اتفاق بين النيابة العسكرية ومحاميه. وشكلّ نيسان/أبريل 2014، علامة فارقة في النضال الفلسطيني ضد الاعتقال الإداري؛ فلأول مرة يخوض المعتقلون الإداريون إضراباً جماعياً عنوانه الضغط على المستعمر لإلغاء سياسة الاعتقال الإعتقال الإداري، أو على الأقل تقييدها، إذ شارك 100 معتقل في إضراب مفتوح عن الطعام استمر 63 يوماً. ومع أن ذلك الإضراب لم يحقق مطالب المعتقلين، إلا أن الإضراب عن الطعام الذي لجأ إليه عشرات المعتقلين الإدرايين منذ سنة 2012 ما زال خياراً رئيسياً في مواجهة الاعتقال الإداري، ويندرج في إطار المواجهة الأشمل مع المشروع الاستعماري في فلسطين.

الجهاز القضائي: "نافذة فرج" أم جزء من المنظومة الاستعمارية؟

في رده عن هذا السؤال في الفصل الخامس والأخير من كتابه، ينطلق عبد الرازق فرّاج من أن النقاش بشأن دور السلطة القضائية في السياق الاستعماري لم يحظَ بالاهتمام المطلوب على مستوى المعالجات النظرية في الحالة الفلسطينية، وبقيت المصادر في هذا المجال ثانوية، ملاحظاً أنه لا يبدو أن هناك اتفاقاً على اعتبار السلطة القضائية جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الاستعمارية الصهيونية في فلسطين.

وإذ يعتبر هو شخصياً أن المحاكم العسكرية، وكل المنظومة القضائية للمستعمِر، لا يمكن أن تكون منفصلة عن المنظومتين التنفيذية والتشريعية في أي حال من الأحوال، بل وظيفتها تتمثل في تعزيز صورة هذا المستعمِر وتبرير شرعيته في المحافل الدولية، ويدعو إلى فتح نقاش فلسطيني معمق وواسع لبلورة موقف موحد من مجمل الجهاز القضائي للسلطة الاستعمارية، فهو يؤكد تحبيذه وقف التعامل مع هذه المحاكم، مبرزاً، في هذا السياق، موقف أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي أعلن منذ اللحظة الأولى لاعتقاله سنة 2006 مقاطعته المحكمة العسكرية التي كانت تنظر في قضيته، ورأى فيها أحد أدوات الاحتلال العسكري. وبعد أن يشير عبد الرازق فرّاج إلى أن أقصى ما اتفق عليه المعتقلون الإداريون في هذا المجال منذ سنة 1996 وحتى سنة 2018 هو مقاطعة مجزوءة ومحددة زمنياً لهذه المحاكم، يؤكد أن المواجهات الفردية لسياسة الاعتقال الإداري، أو المقاطعة المحددة زمنياً التي لا تشمل كل المعتقلين الإداريين، لا يمكنها أن تقوّض هذه السياسة، داعياً إلى اعتماد مواجهة جماعية منظمة، تستند إلى رؤية استراتيجية ترى في هذا النوع من الاعتقال التعسفي جزءاً أساسياً من المنظومة الاستعمارية الصهيونية.

وينهي عبد الرازق فرّاج كتابه هذا، الذي يشكّل إضافة غنية إلى تجربة الحركة الأسيرة الفلسطينية، بالتالي: "لقد دأب المستعمرون على إطلاق اسم "جز العشب" على حملات الاعتقال التي تشمل الاعتقالات الإدارية، والتي ينفذها جيشهم ومخابراتهم بما يعكس مضمونها الاستعماري. وهنا يمكنني تكرار ما قاله عالم الاجتماع السويسري جان زيغلر مقتبساً الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في ختام النشيد العام: "يستطيع أعداؤنا أن يقطعوا كل الورود، لكنهم أبداً لن يكونوا سادة الربيع".