Menu

قراءة في دور دول الخليج العربي في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي

م. تيسير محيسن

نُشر هذا المقال في العدد 17 من مجلة الهدف الرقمية

 

كنت أهم بكتابة مقال لمجلة الهدف، حول لقاء الرجوب -عاروري واحتمالات المصالحة في ضوئه؛ وإذا بالأخبار تتحدث عن "مصالحة" من نوع آخر، اتفاق سلام بين دولة الإمارات ودولة الاحتلال برعاية أمريكية. ونظرًا لأهمية الموضوع قررت أن أكتب فيه وعنه مؤجلا الحديث عن "مصالحتنا" فهي مؤجلة إلى أجل غير مسمى، وقد فشل طرفاها في عقد مجرد مهرجان مشترك في غزة.

 

بداية لا بد من تناول العلاقات الفلسطينية-الخليجية كخلفية عامة لشرح الموقف الإماراتي، أسبابه وتبعاته وما يمكن أن يتلوه من مواقف وأحداث. تاريخيًا، اقتصر الدور الخليجي عمومًا في الصراع على تقديم الدعم المالي والتأثير السياسي (الضغط على الفلسطينيين، تقديم مبادرات، التوسط لدى الولايات المتحدة، رعاية لقاءات وندوات إقليمية، علنية وسرية، في إطار التسوية).

 

قبل تأسيس مجلس التعاون الخليجي (1981) شكلت دول الخليج منظومة فرعية متجانسة كثيرًا، إذ تجمعها سمات مشتركة؛ منها الاستناد إلى نمط من العقود الاجتماعية بين أسر حاكمة "نظم وراثية" ورعايا ينقسمون إلى مواطنين أصليين يشكلون نسبة قليلة من مجموع السكان ومغتربين من العمالة الوافدة من جنسيات مختلفة. استمدت الأنظمة الخليجية شرعيتها من الموروث التاريخي للأسر الحاكمة، والولاء القبلي التاريخي، والعقيدة الإسلامية المحافظة والسلفية، بينما لم يكن تحرير فلسطين وتحقيق الوحدة العربية من بين عناصر هذه الشرعية.

 

شكل الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990 لحظة فاصلة في التاريخ الحديث لدول الخليج، بالإضافة إلى التزامن مع نهاية الحرب الباردة، وظهور العولمة، كان لموقف م.ت.ف المؤيد للغزو أثره البالغ على مجمل العلاقات الفلسطينية الخليجية.

 

يعتبر الدعم المالي أحد أهم وسائل الخليج في التأثير على الموقف الفلسطيني، وغالبًا ما كان يرتبط هذا الدعم بأحداث سياسية. لا شك أن التمويل الخليجي عبر في لحظة ما عن نزعة خيرية وإنسانية وحتى قومية ودينية متعاطفة مع الفلسطينيين، لكن في جانب كبير منه كان ذي طبيعة سياسية من ناحيتين: (1) التزام حكومي بناء على قرارات القمم العربية ومؤتمرات إعادة الإعمار. (2) وحين بات "مؤسسة" استخدم لتمرير أجندات سياسية والتأثير في الشأن الفلسطيني ("البترودولار" أو "دبلوماسية الشيك"). يقدر البعض أن الإمارات تحتل المرتبة الرابعة بين أكثر 10 دول دعمت السلطة الفلسطينية منذ نشأتها (حوالي 2 مليار دولار).

دخلت دول الخليج بعد "استقلالها" تحت عباءة الولايات المتحدة وباتت جزءًا من سياستها في المنطقة التي احتكمت دومًا إلى 4 اهتمامات: احتواء نفوذ القوى المنافسة الأخرى والحيلولة دون توسعه (السوفييتي ثم الروسي والصيني والإيراني)، الحفاظ على وصول الغرب إلى مصادر الطاقة (النفط وحاليًا الغاز الطبيعي)، الحد من التطلعات القومية والتحررية لشعوب المنطقة والحفاظ على الأنظمة المعتدلة، الالتزام الشديد وطويل الأمد تجاه أمن إسرائيل وبقاءها ورفاهها. وعليه، نعتقد أن الدور الخليجي في الصراع العربي-الإسرائيلي يتعين بهذه الاعتبارات، ولم يكن له أن يشذ عنها.

يمكن في هذا السياق فهم مبادرة الأمير فهد (1981) والمبادرة العربية للسلام (2002) والمال السياسي الممنوح للفلسطينيين، الموقف من الانتفاضات العربية ودعم الأنظمة البائدة أو تشجيع الثورات المضادة أو تمكين فصائل الاسلام السياسي من الوصول إلى الحكم وقطع الطريق على القوى الشعبية، بما في ذلك تشجيع الحروب الأهلية أو التدخل العسكري السافر وتمويلهما.

بالرغم من إقرار مجلس التعاون بالعلاقة بين "استقرار دوله" والحل العادل للقضية الفلسطينية، إلا أنه يصعب القول أن سياسات دوله وسلوكها السياسي تجاه القضية استندت إلى هذه الحقيقة. اتسمت نظرة جيل "الآباء المؤسسين" في دول الخليج بإعلان "العداء" نحو إسرائيل (مع تفاوت بين هذه الدول، واستثناءات كثيرة منها التعاون السري السعودي-الإسرائيلي إبان أزمة اليمن). استمر موقف العداء الرسمي بعد تشكل مجلس التعاون وحتى تسعينيات القرن الفائت إلى أن بدأ الموقف يتآكل مع وفاة الآباء المؤسسين وبروز جيل قيادي جديد وتداعيات أزمة الخليج وبدء مسيرة "السلام" في الشرق الأوسط.

بين عامي 1995 و2006، حدثت تغييرات مهمة في هياكل القيادة الخليجية باستثناء سلطنة عمان (وتأخر السعودية حتى 2015)، حيث نجحت مجموعة من القادة الذين بدأوا في إجراء إصلاحات سياسية حذرة وبدرجة أكبر توسعوا في برامج التحرير الاقتصادي. حصلت درجة مماثلة من الاعتدال في السياسة الإقليمية والخارجية أيضًا وتضمنت جهودًا لاستكشاف معالم الحوار المحتمل مع إسرائيل والخطوط العريضة لحل القضية الفلسطينية (المبادرة العربية للسلام).

حدثت طفرة في الاستعداد العربي للاعتراف الرسمي والجماعي بوجود إسرائيل، وتوسعت علاقات التعاون "التقني" في مجالات متعددة ومع أكثر من بلد خليجي. شهدت هذه الفترة (التسعينيات والسنوات الأولى من الألفية) زيارات إلى عواصم خليجية، لقاءات سرية، ظهور علاقات تجارية، تعاون "تقني" في مجالات إدارة موارد المياه، التجارة غير المباشرة وعبر بلدان ثالثة، التعاون الأمني والاستخباراتي، وغير ذلك، هذا التحول تجاه إسرائيل بدا واضحًا أكثر على مستوى "صنع القرار" منه على مستوى الرأي العام، الذي ظل أكثر تحسسًا تجاه الوضع الفلسطيني.

خلال هذه الفترة، اتسمت العلاقات مع إسرائيل بالمستوى المنخفض؛ بدأت تتطور وتتخلق روابط سياسية وتجارية بعد توقيع اتفاقية أوسلو 1993. شهدت السنوات التالية تعاونًا تكنولوجيًا في مجالات الطاقة والمياه وأيضًا في مجالات الدفاع والأمن والاستخبارات في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وعلى وجه الدقة تأسيسًا على إطلاق مبادرة السلام العربية 2002: من الواضح أن الهدف الخفي من هذه المبادرة يتكون من شقين؛ التهيئة التراكمية لعلاقات متطورة بين دول الخليج وإسرائيل، والثاني "نفض اليد" من المسألة الفلسطينية والتخلص من الالتزام الخليجي تجاهها ومن الاشتراطية التي تربط العلاقات بحل القضية الفلسطينية حلًا عادلًا ودائمًا! والثابت أن المبادرة، شأنها في ذلك شأن مبادرة فهد 1981، كانت توطئة لمرحلة جديدة؛ تصفية الوجود الفلسطيني في لبنان في الأولى، والفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة في الثانية (تصفية القضية ذاتها).

بعد توقيع اتفاقية أوسلو، رفع مجلس التعاون الخليجي الحظر عن بعض الشركات المدرجة ضمن "القائمة السوداء"، وظهرت الاتصالات بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة في أوائل 2000، وخاصة في دبي، بما في ذلك مشروع مشترك بين شركة دبي للموانئ العالمية مع أكبر شركة شحن بحري في إسرائيل، وهي شركة "تسيم" للملاحة.

أحد أبرز نتائج حرب الكل ضد الكل التي اندلعت في أعقاب الانتفاضات العربية: إعادة تشكل خطوط الصدع الجيوسياسية في المنطقة. لم تعد القضية الفلسطينية تحظى بالاهتمام الكافي مثلما كانت دومًا، بالرغم من أنها ظلت على نحو من الأنحاء قادرة على حشد التعاطف ومشاعر التأييد، وللأسف ساعد الانقسام الفلسطيني على ذلك والاندراج ضمن عمليات التمحور السياسي والطائفي.    

تحت ذريعة التكامل الإقليمي ومواجهة إيران وتبادل المنافع التجارية ومحاربة "الإرهاب" الإسلامي الراديكالي، روج اليمين الإسرائيلي بقيادة نتنياهو لواقع جديد: علاقات جيدة مع أبناء إسماعيل، دون أن يغادر مستوطن واحد في الضفة الغربية، ودون أن يحل القضية الفلسطينية حتى بموجب المبادرة العربية.

تطورت العلاقات السرّية بين إسرائيل وبعض من الدول الخليجية بعيدًا عن الأضواء (وبعضها اعتمد على عرابين فلسطينيين)، بينما تحرص إسرائيل على الإعلان، تفضل الدول الخليجية الكتمان، في الآونة الأخيرة لم يعد الأمر سرًا (وتجاوز الاتفاق الثلاثي كل هذه الاعتبارات فكان الإعلان عنه وقحًا وصادمًا ومستفزًا). يرى البعض أن التقارب بين إسرائيل ودول الخليج يعود إلى سببين: (1) الجغرافيا السياسية المتشكلة في أعقاب الانتفاضات العربية 2011، حيث تحتل فيها إيران مكانًا مؤثرًا يشكل تهديدًا مزدوجًا لكل من إسرائيل وبلدان الخليج كما يزعم قادة الطرفين، ما يتطلب من وجهة نظرهم تطوير روابط أمنية تصل إلى تحالف واسع (2). تغير هيكل القيادة في الخليج وميلها نحو الاصلاح الاقتصادي والانفتاح السياسي وحاجاتها للخبرات الإسرائيلية في هذا المضمار، فيما يعرف باسم "التكامل الإقليمي" الذي استمد مضامينه من مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي.

هذا ويروج سياسيون خليجيون وأحيانًا مثقفون، فكرة مضللة مفادها أن للخليج ودوله وشعوبه في هذه الأوقات الحرجة دوافع حقيقية للتطبيع وإقامة علاقات مع دولة الاحتلال؛ سعيًا وراء مصالح وطنية وأمنية وتكنولوجية ملحة، وأن اندماج إسرائيل في المنطقة سيكون له آثار جانبية مفيدة، حتّى على الفلسطينيين أنفسهم.

في الواقع، سرعان ما سوف يكتشف المطبعون، أفرادًا ودولًا، أن الوضع الحالي لن يدوم، وأن القضية الفلسطينية التي يحاولون تهميشها، سيعود لها الاهتمام حكمًا وحتمًا بفعل نضالات الشعب الفلسطيني ورفضه وتمسكه بحقوقه، وأيضًا فإن التخلي عن القضية والهرولة نحو التطبيع، قد يثيران غضب القوى الليبرالية والقومية والإسلاموية واليسارية داخل البلدان المطبعة نفسها.