Menu

المشهد العربي وآفاقه

د. موفق محادين

نُشر هذا المقال في العدد 17 من مجلة الهدف الرقمية

لم تكن بيروت ولبنان عمومًا، مجرد خاصرة سياسية حساسة في المحطات الحاسمة من محطات التحولات والصراعات الدولية والإقليمية التي تحيط بالمشهد العربي، بل كانت أيضًا من المؤشرات الأساسية لهذه التحولات وآفاقها، ومن ذلك ثورة 1958 التي رافقت أول مشروع للوحدة في الأزمنة الحديثة ( مصر وسوريا) وولدت في قلب الصراع مع المثلث الإمبريالي – الصهيوني – الرجعي، ثم ما يعرف بالحرب الأهلية 1975 التي ترافقت مع التحضيرات السرية لكامب ديفيد، ثم العدوان الصهيوني 1982 كأداة ضغط لتمرير ما عجزت عنه قمة فاس الأولى ومبادرة الأمير فهد التي أسست لكل المبادرات المماثلة التالية واستهدفت تصفية الأبعاد التاريخية للصراع العربي – الصهيوني، وأخيرًا الجريمة الموصوفة في تفجير مرفأ بيروت، شديدة الصلة بالتأكيد بكل ما سبقها وفي القلب من ذلك الأصابع الصهيونية، فماذا عن ذلك؟

ابتداء فكل ما يعيشه العرب حاليًا، هو من تداعيات ثمن (الفوات الحضاري) بلغة المفكر المغاربي، عبد الله العروي، والناجم عن الركود الاقطاعي العثماني الذي لم يوفر للعرب بعد سقوط الاحتلال التركي، الشروط الموضوعية لإحداث ثورة قومية ديموقراطية على غرار الثورات التي شكلت الدول الحديثة؛ فانتقل العرب بسرعة من الاستعمار العثماني الاقطاعي إلى الاستعمار الأوروبي الرأسمالي وتحولت ولايات الفساد العثمانية الى كيانات فساد جديدة بخرائط وأسماء جديدة على يد سايكس- بيكو. وقد جرى كل ذلك تحت عناوين ملء الفراغ العثماني بالخطاب الاستعماري العنصري (ترويض أو تمدين المتوحشين) وفق خطاب الاستشراق المعروف.

وفي الحقيقة فقد دفع العرب هنا ثمن ارتباطهم بالصورة العثمانية مقارنة بتاريخهم الحضاري السابق للاحتلال العثماني (الاندلس والحضارة العباسية). بالإضافة إلى تمزيق الوحدات الجغرافية - الاجتماعية داخل الأمة (الهلال السوري –العراقي، وادي النيل، شمال افريقيا، مسقط أو عُمان الكبرى التي كانت تضم كل الخليج المناطق القريبة، اسيويا وإفريقيا، الجزيرة العربية واليمن، الصومال الكبرى التي كانت تضم جيبوتي وقسما من كينيا والحبشة). بالاضافة الى ذلك فقد حطم المستعمرون ، كل تجارب الوحدة والتوحيد التي جرت بين مصر وبلاد الشام وخاصة:

1- تجربة محمد علي الذي توهم أن بإمكانه إقامة قوس مصري –شامي موحد بدعم من فرنسا، فما أن وصلت جيوشه إلى بلاد الشام، بل وحاصرت اسطنبول وكادت أن تنجح في استبدال امبراطورية الرجل التركي المريض بإمبراطورية عربية، حتى تدخلت كل الجيوش الأوروبية بعد مؤتمر لندن، وبرهنت أن الغرب لا يريد أن يقيم في الشرق دولًا رأسمالية انتاجية وقومية تشبهه، بل محميات تابعة.

2- تجربة جمال عبد الناصر في القرن العشرين والتي انتهت بالانفصال عام 1961 ثم بعدوان حزيران 1967. ويشار كذلك إلى تجربة الارهاصات البرجوازية في سوريا ومحاولاتها إقامة دولة موحدة في عموم سوريا التاريخية قبل أن يدمرها الفرنسيون المستعمرون.

3- أيضًا، وتحت تأثير التعبئة الرجعية المذهبية ضد الاشتراكية الراديكالية؛ وبسبب هيمنة أيديولوجيا البرجوازية الصغيرة، لم تتوفر ظروف لأحلام سمير أمين والحافظ، في إعادة انتاج عربية لتجارب الصين وفيتنام (جدل الوحدة القومية والتحرير والاشتراكية).

في محطة تالية، هي زمن الاستعمار الامريكي، وما عرف بـملء الفراغ الأوروبي ووراثته، خاض العرب بقيادة عبد الناصر مواجهات باسلة مع أدوات المشروع الأمريكي ممثلة بالأحلاف الاستعمارية، ومنها الأحلاف الإسلامية وحلف بغداد، ودور مندريس التركي والرجعية العربية. وكانت الإدارة الأمريكية تنطلق في كل ذلك من عدة اعتبارات، هي (سلامة) الكيان الصهيوني وأبار النفط وممراته، ومنع موسكو من الاقتراب من المياه الدافئة.

أما المشهد الراهن، بدءًا من الانهيار السوفياتي وحتى اليوم، فقد انقلبت معادلاته الدولية والإقليمية تمامًا، من ملء الفراغ السابق إلى صناعة الفراغ، ومن الخطاب الاستعماري  العنصري (تمدين وترويض المتوحشين) إلى إبادتهم، ومن نظرية لامارك حول تكيف الإنسان مع ظروفه إلى الداروينية الاجتماعية (البقاء للأقوى، والحلقات القوية تقصي الحلقات الضعيفة، دولًا وشعوبًا وأفرادًا).

كما ترافقت التحولات المذكورة مع تحولات عملية وسياسية كبيرة، ممثلة بالأجيال المتسارعة للثورة المعلوماتية، كما بتحول السلطة نفسها، بحسب توفلر، وبالانتقال إلى المجتمع ما بعد الصناعي، بحسب آلان تورين. وفي حين بقيت الأطراف السياسية العربية تراوح مكانها وخطابها الراكد، كانت المتروبولات الإمبريالية وظلالها الإقليمية، وخاصة العدو الصهيوني، وكذلك العثمانية الجديدة تحضر المنطقة إلى دورة الخراب الشاملة لصناعة الفراغ وإخلاء العرب من مسرح التاريخ، فكان اخفاق الدولة ال قطر ية وأفولها وعجزها عن تقديم أية أجوبة للتحديات المتزايدة، البيئة المنتظرة لربيع مبرمج منظم من الفوضى والتفكيك وفتح صندوق (باندورا) مثل عش دبابير متوحشة.

هكذا بدأ القاتل المتسلسل لربيع الفوضى يرتكب جرائمه، الواحدة تلو الأخرى، وبأقنعة مختلفة من مرحلة إلى أخرى:

1- مرحلة تهميش المجتمع السياسي (الدولة) وصولًا إلى الدولة الفاشلة عبر البنك وصندوق النقد الدوليين وعناوينها التبعية والديون وثقافة ومجتمع الاستهلاك، ومن ثم التفسخ المتسارع لأركان الدولة القطرية، ممثلة بالطبقة المتوسطة والقطاع العام.

2- مرحلة تهميش المجتمع المدني ممثلًا بالقوى اليسارية والقومية والوطنية، من جهة وبالنقابات العريقة، من جهة ثانية عبر ما يسمى بقوى الحراك المدني، وجماعات التمويل الأجنبي أمثال الاوتبور وكانفاس وكارينجي ومعهد واشنطن والمجتمع المفتوح ونيد وغيرها.

3- مرحلة القاتل الأصولي التكفيري لاستنزاف ما تبقى من جيوش؛ شكلت الناظم الخارجي البديل لمجاميع ما قبل رأسمالية، دون أن تتطور إلى روافع تاريخية، من أجل بناء دولة العقد الاجتماعي المدني أو دولة التحرير على غرار فيتنام والصين.

4- مرحلة القاتل الأيديولوجي المبرمج منذ القرن ال 19 في أقلام الاستخبارات البريطانية البريطانية، ولاحقا الأمريكية، وهي المرحلة التي فضحها المؤرخ البريطاني، مارك كورتيس في كتابه التآمر السري لبريطانيا مع الأصوليين. لقد شكل الإسلام السياسي البريطاني ثم الامريكي العامل الحاسم في بناء جدار عازل ضد الخطاب القومي اليساري الراديكالي، كما ضد المنظومة الاشتراكية السابقة واستخدم لاحقًا ضد الطبعة الراديكالية من الإسلام المسلح المناهض للصهيونية والإمبريالية ممثلًا بحزب الله، بيد أن الأخطر من كل ذلك، فيما يخص إسلام أقلام الاستخبارات الإمبريالية هو تحويله إلى (نصوص دستورية) عبر أكثر من تجربة، ويراد له اليوم أن يكون بديلًا عن الهوية القومية، حيث يعاد إنتاج الشرق العربي بعد تفكيكه كساحة لانبعاثات مشاريع دينية، أخطر ما فيها بحسب قانون التناقضات، التقاطع المشبوه بين مشروع العدو الصهيوني لإعادة إنتاج دوره (مركز إسرائيلي ومحيط من الكانتونات الطائفية والجهوية)، وبين مشروع العثمانية الجديدة (مركز تركي ومحيط من ولايات الهلال العثماني).

بالعودة إلى دسترة إسلام الاستخبارات الأوروبية – الأمريكية، سنتوقف عند أكثر من تجربة:

1- التجربة البريطانية المؤسس الحقيقي لهذا الاسلام من دعم الحركة الوهابية لإضعاف الدولة العثمانية ووراثتها (وثائق قلم الاستخبارات في شركة الهند الشرقية، الذراع الاقتصادي للامبريالية البريطانية في الشرق)، إلى دور شركة قناة السويس والإخوان وقبلها تأسيس ثلاث دول على اساس ديني 1948 يهودية العدو الصهيوني، الباكستان الإسلامية وجنوب إفريقيا المسيحية.  

2- التجربة الفرنسية بعد احتلال سوريا وتمزيق الدستور السوري المتطور المدني الذي صاغه المؤتمر السوري الاول 1920، واستبداله بدستور طائفي من نتاجاته علم النجمات الحمراء الثلاث الذي ظهر خلال المؤامرة الأخيرة على سوريا وترمز كل نجمة إلى كيان طائفي، ومن المؤسف أن هذا العلم المشبوه ظل حتى الوحدة المصرية – السورية وعلمها الراهن (النجمتان الخضراواتان) الذي يرمز  لهذه الثقافة القومية.

3- التجربة الأمريكية في العراق، حيث مزقت الدستور العراقي السابق الذي كتبته ثورة تموز 1958 واستبدلته بدستور طائفي عرف بدستور بريمر، بينما هو دستور  المستشار اليهودي نوح فيلدمان.

ما العمل:

ابتداء لا بد من مراجعة نظرية للمفاهيم التأسيسية وإعادة إنتاجها في ضوء الاستحقاقات التاريخية، كما في ضوء دلالاتها المعرفية، والهجمة الإمبريالية الصهيونية الرجعية، وكذلك الظروف الموضوعية ومنها تحول السلطة والثورة المعلوماتية الخامسة، بل السادسة، كما تعود ضرورة هذه المراجعة إلى أن المفاهيم السائدة حول الدولة والحرية والطبقة والهوية والمواطنة والعقد الاجتماعي إلى آخره؛ مفاهيم ولدت من رحم الثورة القومية الديموقراطية ودولتها، سواء كانت برجوازية (دولة وستفاليا) أم اشتراكية، ولم تنجح الدولة القطرية أبدًا في توفير الشروط الموضوعية لها خارج الاستحقاق القومي لشروط الإنتاج الحديثة وما يترتب عليها من علاقات اجتماعية لمجتمعات طبقية ومدنية حديثة. بعد ذلك، هناك أكثر من مسألة هامة في الظروف الخاصة للمشهد العربي:

الأولى: أن مساحة المقاومة وثقافتها لم تعد تقل أهمية عن مساحة الدولة والصراع من أجلها، وذلك في ضوء قانون التناقضات وتداعياتها وتداخل الصراع مع العدو الصهيوني بالصراع مع تجليات التبعية والرجعية.

الثانية: وهم التطور والحراك المدني خارج التحرر الوطني والقومي .

الثالثة: فكرة الكتلة التاريخية السديدة تمامًا، كما اقترحها غرامشي مع الحاجة إلى تطويرها وإغناء عوالمها المعرفية والفكرية والكفاحية.