Menu

فتح وحماس: مأزق اليمين وطبقة الحُكم الذّاتي

خالد بركات

خاص بوابة الهدف الاخبارية

 

اللقاء الأخير الذي جَمَع قوى السلطة الفلسطينية) فتح وحماس( في مدينة اسطنبول بالرّعاية التركيّة، جاء في سياق تكرّيس نهج المُحاصصة بين الفصيليين الكبيريين في الساحة الفلسطينيّة؛ فلا تزال معظم القوى والفصائل الأخرى هامشيّة وضعيفة، يَقنَعُ بعضها بدور الدّيكور، مُوزعة بين تابع وعاجز، وتحضُر كشاهد زورٍ في جوقة "المُصالحة" التي يرعاها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في رام الله المُحتلّة. فالقرار السيّاسي الفلسطيني لا يزال مَقسوماً حتى اللحظة بين قوى السُلطة، بعبارة أدق: بين الإخوة والإخوان!

ولن يُصدّق عاقلاً أن جماعة أوسلو استيقظت فجأة، فصارت في الموقع الوطنيّ، وتُريد الآن مُجابهة مشروع التصفية الأمريكيّ الصهيونيّ الرّجعي، هذه مُجرّد نُكتة سَمجة، ذلك ببساطة لأن طبقة أوسلو لا تُريد إلاّ الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها فقط، حتى لو استنقعت أكثر في وحل الفساد ومؤسسة القمع واستهدفت طلائع المقاومة واعتقلت كوادر الحركة الطلابية وتعاونت أمنيّاً مع أجهزة العدوّ.. وهي مستمرة في برنامجها هذا حتى كتابة هذه السطور!

هذه الطبقة الفلسطينية الوكيلة، وحزبها التي ترتكز إليه – للأسف -حركة فتح- أصبحت جُزءًا لا يتجزأ من مشروع التصفية لقضية فلسطين. لقد صادَرَت المشروع الوطني الفلسطيني منذ مُغازلة مؤتمر جنيف الدولي 1973 والمشاركة في "مؤتمر مدريد للسلام" أكتوبر عام 1991 قبل نحو ثلاثين عامًا، وهندست اتفاقيات الخزي والعار في "أوسلو" 1993 وكل ملحقاتة الأمنية والاقتصادية، ولا تزال تبحث عن تأمين مصالحها في إطار سلطة الحكم الذاتي في العام 2020، ولذلك فإنها تلتحم أكثر في علاقة تبعية لا فكاك منها مع الاتحاد الاوروبي، ولي نعمتها الجديد، وأصبحت شريكاً صغيراً تابعاً لاقتصاد الكيان الصهيوني والنظام الأردني وشركائها في المصارف والبنوك والشركات شَرقيّ النهر.

ومنذ نُشوء سلطة الحُكم الذّاتي المحدود عام 1993 – 1994 لإدارة مصالح الرأسماليّة الفلسطينيّة وحماية كيّان العدوّ ومستعمراته يعيش اليمين الفلسطيني مأزقه التاريخيّ، وقد تفاقم بعد مَغطس انتخابات عام 2005 / 2006 والذي لا علاقة له بمشروع التحرير والعودة ولا مُجابهة الكيّان الصهيوني ومشاريع التطبيع والتصفية؛ فتلك "الانتخابات" كانت تنافسًا مَحموماً على السلطة وصارت اليوم "شراكة" أو "شركة فتح – حماس"، وحلاً لأزمة اليمين في شقيه الديني والليبرالي؛ لِكلٍ منهما مأزقه الخاص الذي يسعى إلى حلّه للحفاظ على موقعه.

سُلطة حركتي فتح وحماس، يعني سُلطتي الأمر الواقع في الضفة وغزة، تتشاركا اليوم في مسألة مهمة ثانية: افتقارهما لأيّ صِفة تمثيليّة أو شكلاً من أشكال الشرعيّة الوطنيّة والقانونية، تبحثا معاً، في اسطنبول هذه المرّة، عن مصدر "لتجديد الشرعيّة"، وقد عثرتا عليه في انتخابات جديدة لمُؤسّسات سُلطة الحكم الذّاتي المحدود وفق قواعد أوسلو المعروفة، مَدفوعة بنصائح ووعود أوروبيّة واقليميّة. وقد نَصَّ الاتفاق الأخير بينهما على "عقد الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة والمجلس الوطني الفلسطيني، خلال فترة لا تزيد على ستة أشهر"! هذه ليّست نُكتة واحدة. لا، بل ثلاث كذبات وثلاث نكات بايخة في سطر واحد!

مَن يُصدق أن في وسع الفلسطينيين اليوم، تنظيم انتخابات حُرة ونزيهة وديمقراطية تحت الاحتلال؟ كم مرّة تفشل هذه القوى في مسارها العبثي ذاته، ثُم تصمم على تكرار فشلها وبنفس المنهجية والأدوات؟ ومَن يُصدِق قدرتها على تأمين انتخابات نزيهة يُشارك فيها الشعب الفلسطيني خلال ستة أشهر؟ إلا إذا كانت الحركتيين تُريدان حَشرِها في ما يسمى "التوافق الوطني" و "حيثما أمكن إجراء الانتخابات" و "بحسب الظروف المُتاحة" وغيرها من مُبررات تعني تغييباً للإرادة الشعبية الفلسطينية، خاصة للكتلة الشعبية الكبيرة في الأردن؛ الكتلة الأكبر التي كانت تُمَثَل في مجالس وطنية في سنوات الثورة بـ 100 عضو من أصل 217 (نصف الأعضاء تقريباً) ولن يكون لها أي تمثيل اليوم.. الأمر ذاته ينطبق على الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة عام 48، إنها المنهجية الإقصائية التقليدية ذاتها منذ زمن ياسر عرفات ، والتي لم تصل بنا إلى أيّ شيء، إلاّ المزيد من التيه والضياع والعدم.

إن تيّار السلطة في رام الله المُحتلة الذي تقوده حركة فتح يُمارس سيّاسة الحَرَد واستراتيجية الزّعل هذه الأيام، لتحسين موقعه؛ بسبب تغير المواقف في معسكر حُلفاء الأمس، بخاصة في الرّياض والقاهرة، وقد تخلوا عنه، فيهرب إلى الأمام، ويقفز إلى حظيرة السلطان أردوغان!

يريد محمود عبّاس أن يَرُد على تصريحات السفير الأمريكي الصهيوني ديفيد فريدمان حول استعداد الطرف الأمريكي استجلاب محمد دحلان وفريقه من عملاء دولة الإمارات إلى موقع "القيادة"، فيركض مختار المقاطعة إلى المحور التركي – ال قطر ي، ويُدرك رئيس السلطة الفلسطينية أن هذا السيناريو جرى قبل 16 عاماً حين كان المدعو محمد دحلان شريكهُ في الانقلاب على ياسر عرفات. والحقيقة التي بات يعرفها أكثر الناس ولا ينطق بها إلا نفر قليل: لا يكترث تيّار أوسلو لوجود عملاء آخرين، المُهم ألا ينافسوه على حصته في كعكة السلطة و"القيادة "!.

سُلطة غزّة تعيش مأزقها الخاص!

قررت قيادة حركة حماس أن تدخل حقل ألغام سيّاسية، لكن هذه المرّة أخطر من السابق، ربما ألعن من ألغام الميدان في ساحة المعركة؛ إذ تُقايض قيادة الحركة الموقف الوطنيّ المقاوم بمواقف براغماتية أقرب إلى صفقة عشائرية – تجارية - لتحقق مصالح حزبية خاصة، قد تحقق للحركة المزيد من الحضور والوقت في فضائيات المحاور، لكنها سياسة تقضم كل يوم قطعة جديدة من مصداقيتها.

يجري اليوم تدريب قواعد وأنصار الحركة (تدجينها) لقبول مواقف هزلية باهتة من نوع "دولة في الضفة والقطاع و القدس الشرقية"، مُقابل دخول حماس إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي تحظى باعتراف عربي ودولي رسميين، هذه الخطوة قد تُمكّنُها، كما تتوهم قيادات في الحركة، من إقامة علاقات شرعية وطبيعية مع دول المنطقة والعالم وانتزاع اعترافاً بدورها!

في سنوات سابقة قالت حركة حماس في محمود عبّاس ونهجه المساوم التفريطي أكثر مما قاله مالك في الخمر، فكان "عرّاب أوسلو"، واليوم صار "الرئيس الذي لا خلاف عليه" و "الأخ الكبير الذي يرعى مصالح الشعب"، ولم نعُد نعرف أيّ حماس نُصدق!

ومثلما أراد المأفون محمد بن زايد أن يبيعنا اتفاقه المسخ مع العدوّ الصهيوني، بحجة حرصه على الشعب الفلسطيني وبذريعة وقف مشروع الضم الصهيوني، يفعل بعض قيادات حماس والفصائل الفلسطينية الأمر ذاته، فيذهبون إلى شراكة كاملة مع فريق أوسلو وقوى التنسيق الأمني، بذريعة الحرص على الوحدة الوطنية وحماية حقوق الشعب الفلسطيني.. ويحمّلوا شعبنا جمِيلة!

انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني

لم يجرِ تبهيتٌ لدور المجلس الوطني الفلسطيني كما يحصل اليوم على طريقة فتح – حماس، لأن الفدائيين الأوائل كانوا أكثر حِرصاً ووعياً وفهماً للديمقراطية من قيادات المرحلة، أما مؤسسة المجلس الوطني الفلسطيني فإنها في ثلاجة الموتى منذ العام 1990 على أقل تقدير. والحقيقة أن حركتي فتح وحماس تعتبران الأولوية اليوم لانتخابات تشريعية ورئاسية تحت الاحتلال، ولا تكترثان للمجلس الوطني الفلسطيني.

كانت انتخابات المجلس الوطني في الماضي تجري في مراكز اقتراع شعبية في الشتات، وفي مؤسسات واتحادات نقابية للعمال والطلبة والمعلمين والأطباء والكتاب والصحفيين وغيرها، وتُشكل هذه المؤسسات الوطنية في مجموعها، ركائز وقواعد للثورة الفلسطينية، وتُجسد إرادتها في مجلس وطني فلسطيني مُنتخب من القاع (رغم علاته السابقة وملاحظاتنا الجادة عليه).

وكانت تشارك في المجلس منظّمات العمل الفدائي كافة من خلال اللجان والمجالس السياسية والعسكرية والقانونية، وتتمثل فيه شخصيات وطنية وتاريخية معروفة ومستقلة تحظى باحترام ومصداقية بين الجماهير.

المصلحة الوطنية الفلسطينية تقتضي إعادة بناء هذه المؤسسات والاتحادات الشعبية والنقابية أولاً، كأولوية وطنية لأنها تشكل الصمغ السياسي الضامن لوحدة الشعب الفلسطيني السيّاسية والتنظيميّة والنضاليّة، وتؤمّن أوسع مشاركة شعبية في القرار السيّاسي. هذه المؤسّسات والاتحادات النقابية تحولت بعد توقيع اتفاق أوسلو إلى مكاتب خاوية ودكاكين خاصة، ويافطات باهتة لا يخافها العدوّ ولا يحسب لها حساب، وعليه، فإن نهج حركتيّ فتح وحماس والفصائل الصغيرة في التعامل مع انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، يحكمه قانون يقف على رأسه، يضع العربة أمام البغل!

الوحدة الوطنيّة

الوحدة الوطنيّة الفلسطينية لا يمكن تحقيقها من خلال شراكة بين قوى المقاومة وقوى اليمين السيّاسي المهزوم، فالتيار الذي يحتكر بالقوة قرار المؤسسات الفلسطينية كافة، يسعى لتحقيق وحماية مصالح حفنة صغيرة من البرجوازية الفلسطينية من أصحاب المليارات (الكومبرادور) على حساب الطبقات الشعبية الفلسطينية المُفقرة التي تجاوز عددها 13 مليونًا. ولا تتجسد الوحدة الوطنية من خلال مشروع "دولة" مَسخ، حيث تصبح سلطة الحُكم الذّاتي أولوية تسبقُ حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة؛ الحَق الذي صار "مؤجلاً" و "ثانوياً" ومُجرد شعار يجري تذييل البيان الختامي به.. وكفي الله المؤمنين شر قتال! وهذه سياسة عقيمة تُصادر صوت الأكثرية الشعبية الفلسطينية، محاولة دنيئة لتجديد "شرعيّة" سلطة الحكم الذّاتي في بعض مناطق الضفّة وغزّة المُحاصرة... وعليه، فإن البرنامج السياسي هو الذي يشكل الأرضية للوحدة الوطنية، وهو الذي سيقول لنا في أيّ اتجاه تُبحر وتمضي السفينة الفلسطينية. ولماذا يكون لفصائل فلسطينية كرتونيّة لا ترمي حَجرًا واحداً على دورية صهيونيّة ولا تُطلق رصاصة واحدة على العدوّ، يكون لها حصة أكبر في القرار السيّاسي من قوى وطنيّة وشعبيّة فاعلة وتشكيلات مُقاوِمة مسلحة في قطاع غزّة مثلاً؟ أو يكون صوت ضابط من جوقة التنسيق الأمني أهم من صوت أسيرة ومناضلة في سجون العدوّ؟ وأهم من قوى شعبية وحركات وشخصيات وطنية وازنة لها حضورها النضاليّ والشعبيّ في الدّاخل والخارج؟

إن المطلوب اليوم، هو ما كان مطلوبًا في الأمس: تأسّيس جبهة وطنيّة فلسطينيّة مُوحدة هَدفها التحرير والعودة، تُعيد للشعب الفلسطيني وحدته السياسية والنضالية وتعمل على تصويب البوصلة نحو الجوهري في نضال الشعب الفلسطيني كما تُعيد للشعب مفاتيح مؤسساته المنهوية والمختطفة، وفي مقدمتها المجلس الوطني الفلسطيني؛ جبهة وطنية موحدة تستعيد حاضنتها الشعبية العربية والأممية وتقطع مع كل مرحلة أوسلو ونتائجها الكارثية وتقوم بجردة حساب ومراجعة شاملة، بل تحاسب طبقة مأجورة ارتكبت جرائم بحق الشعب وهي المسؤولة عن حالة الانهيار والتدمير التي أصابت كل مفاصل المشروع الوطني الفلسطيني.

ودونما الإعلان الصريح عن سحب الاعتراف الفلسطيني الرّسمي بالكيان الصهيوني ووقف التعاون الأمنيّ مع العدوّ والشروع في إعادة التوازن لجناحي الحركة الوطنية الفلسطينية في فلسطين والشتات، لا يمكن الوصول إلى وحدة وطنية على أرضية صلبة يطمئن لها الشعب الفلسطيني ويثق ويحتفي بها تحت الشمس.. فلا أحد يتوق للوحدة الوطنية أكثر من الشعب الفلسطيني.

وأخيراً، إذا كان هناك ثمة نقداً قاسياً في هذا المقال لبعض مواقف وسياسات قوى المقاومة، فهذا سببه الحرص على المقاومة الفلسطينية وعلى سلاحها ومصداقيتها، والتحذير من مغبة العبور في نفق جديد، وذلك لأن الحاضنة الشعبية للمقاومة هي التي تدفع دائماً.. كُل الثمن.