Menu

الفلتان السلطوي وتهتك مكونات الهوية والنسيج الاجتماعي

وسام رفيدي

نُشر هذا المقال في العدد 18 من مجلة الهدف الإلكترونية

مع كل حادثة قتل لإمرأة، بدعوى (الشرف) المزعوم، أو وفاة عرضية لأحدهم في إطلاق نار في عرس، أو استعراض عضلات مسلح في مسيرة مبايعة، يتكرر الحديث عن الفلتان وموجبات وضع حد له وخطورته على النسيج الاجتماعي والهوية الوطنية، ولا بأس بأن يتم التطرق للفارق بين سلاح اليوم (الفالت)، وبين سلاح المقاومة في مرحلة سابقة، وفي هذا الخطاب المكرور حد الملل لا يتساوى بتقديرنا صاحب الخطاب الرسمي مع نقيضه الشعبي مع أنهما يتفقان على إدانة الفلتان وضرورة وضع حد له وخطورته على النسيج الاجتماعي، ولكن بعد ذلك يفترق الخطابان.

قضيتان رئيستان باعتقادنا تعكس التفارق بين الخطابين، أولاها مصدر سلاح هذا الفلتان، وما يستتبع ذلك من سلوكيات وتكوين نفسي وشعوري لحامله ومصدر كل ذلك، وثانيهما أثر ذلك الفلتان على الهوية الوطنية، وبالتالي النسيج الاجتماعي، ليس من زاوية حتمية التاثير، ولكن من زاوية المسؤولية السياسية لمسار سياسي محدد أدى للفلتان، وبالتالي للتأثير على الهوية والنسيج الاجتماعي.

الفلتان ابن تنظيم السلطة

وهذا ما لا يتطرق له الخطاب الرسمي ويصر عليه الخطاب الشعبي عبر التداول على صفحات التواصل والندوات والتحشدات؛ فمن الذي يملك السلاح، سواء المسموح به (الشرعي) أو المسكوت عنه، سوى قاعدة تنظيم السلطة وعناصر الأجهزة الأمنية؟

ففي الأعراس، وفي مسيرات المبايعة الفتحاوية، وفي استقبال أسرى محررين بعض الأحيان، وفي الاحتفال بنتائج انتخابية في فترة ما... يظهر هذا السلاح علانية. قيل، قبل سنوات، نقلاً عن شهود عيان أن سيارة كانت محملة بالذخيرة قامت بتوزيعها على (الطخيخة) في بلدة بيرزيت بعد ظهور نتائج الانتخابات لمجلس الطلبة، قد يكون هناك سلاح خارج قاعدة تنظيم السلطة بالتأكيد؛ فعالم الإجرام يعج بالسلاح والاحتلال لا يعبأ به، وتبدو السلطة وأجهزتها غير شديدة الاهتمام به أصلاً؛ لأن جل اهتمامها هو بسلاح المقاومة، بحيث يمكن أن تستنفر كل أجهزتها ومندوبيها إذا وصلها معلومة عن قطعة سلاح واحدة، يمكن أن تستخدم بفعل مقاوم.

هنا يبدو الخطابان وقد تفارقا. سلطة أوسلو لا تنبس ببنت شفة حول حقيقة أن السلاح الفالت هو سلاح تنظيمها حصراً الذي لم يعد يستخدم في المقاومة، حرصاً على (المشروع الوطني) المسمى أوسلو، ولا يستخدم سوى في الاستعراض في الأعراس والمبايعات والاحتفالات والمهرجانات، أي في كل ما لا يمت بصلة للمقاومة. أما الخطاب الشعبي فيرى بهذا السلاح ظاهرة من ظواهر مرحلة أوسلو: يتحول فيها السلاح للإستعراضية ويكف عن كونه سلاح مقاومة.

أما ما يرتبط بهذا السلوك الإستعراضي فهو ذلك التكوين النفسي والشعوري الذي تشكل طوال العقود الثلاثة الماضية والقائم على تقديس العنف تجاه الآخرين، وليس المحتل منهم، والمباهاة المَرَضية بحمل السلاح، واستعراض عديد أنواعه وطرق حمله والتعامل معه، وحتى طريقة السير به، بمشاهد هوليودية تذكر بنموذج رامبو السينمائي؛ تلك ثقافة يمكن تحميل مرحلة أوسلو وزرها، فهي نتاجها وابنتها الشرعية، مع أنها وللحق أيضاً بدأت بالتسلل للممارسة الميدانية في مرحلة متأخرة من مراحل الانتفاضة الشعبية للعام 1987.

الفلتان مظهر لتمزق الهوية والنسيج الاجتماعي؛ سبب ونتيجة في آن

لنسمي الأمور بمسمياتها بعيداً عن المغالاة، ما يجري في بلادنا من مظاهر عنف اجتماعي وفلتان واستخدام للسلاح في حل الإشكاليات الاجتماعية، لا نتميز به نحن فقط كمجتمع؛ العنف منتشر في العالم، وقد يكون مجتمعنا في ذيل قائمة المجتمعات التي لا تتميز بارتفاع مدمر للعنف والجريمة، فقتل النساء مثلاً على خلفية ( الشرف) المزعوم، وهو قتل، في حقيقته على خلفية انعدام شرف الرجال؛ ينتشر في الأردن و مصر والعراق، أقول هذا ليس من منطلق التقليل من خطورته، بل لوضع الأمور في نصابها لا أكثر كمدخل لتحليل لاحق. والجريمة في بلادنا بتقديري أقل بكثير في معدلاتها من الجريمة في مجتمعات أخرى، هذا ولم نتحدث عن الجريمة المنظمة لتجارة المخدرات والاتجار بالنساء والأطفال في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة.

ما يدفعنا لقول ذلك هو للتأكيد: أن الجريمة في مجتمعنا، وبغض النظر عن حجمها ومعدلاتها، تبقى ذات تأثيرات مدمرة بفعل خصوصية الاستعمار الصهيوني وضرورة توحيد شعبنا وتعزيز تماسكه الاجتماعي، وقبل ذلك هويته الوطنية الجامعة، وكل ذلك يصاب بالصميم بفعل الفلتان والجريمة.

مرة أخرى، لا تنبس السلطة وخطابها المعلن بكلمة واحدة حول تأثيرات مشروعها السياسي؛ أوسلو، على النسيج الاجتماعي والهوية. وفي العلاقة بين الفلتان وتهتك مكونات الهوية والنسيج الاجتماعي، يمكن القول أن الفلتان يعزز ذلك التهتك فيكون سبباً وإن ليس رئيساً، وبذات الوقت هو نتيجة لذلك التهتك. فأوسلو، كمرحلة تطلبت ثقافة محددة، وهي المسؤول الأول، وهذا ما يجب قوله صراحة، عن التهتك ذلك، وبالتالي تعزيز الفلتان؛ الفلتان نتاج لتهتك الهوية والنسيج الاجتماعي، وسبب معزز لذلك التهتك في آن.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما يعزز دور العشائرية في الخليل كنموذج لما نقول، حيث عُقدت اجتماعات عشائرية علنية، ووجهت التهديدات للقضاة والنساء النشيطات، وحتى لمؤجري مقرات المنظمات النسوية؛ معلنين رجال العشائر، موقفاً ثقافياً مغرق في رجعيته، بل وبدائيته، يشرعن تزويج، وهو بالحقيقة اغتصاب، الأطفال، نقول ما يعزز هذا الدور هو هذه المرحلة التي هتكت مقومات الهوية لصالح مقومات العشائرية والجهوية والطائفية؛ فللهوية سياسات يضعها صاحب القرار ويعززها عبر الإعلام والتعليم والأنشطة الجماهيرية، وأوسلو وسلطته، أبعد ما يكون عن سياسات تعزيز الهوية، والمقالة لا تتسع للإفراد هنا، بل على العكس: تعزيز الفردية والأنانية على حساب الجماعية؛ تعزيز الانتماء للموقع التنظيمي والسلطوي والأمني بديلاً للانتماء الوطني؛ زبائنية التعلق بالسلطة وامتيازاتها بديلاً للمواطنة، كل ذلك ألحق الضرر بالهوية والنسيج الاجتماعي، وما الفلتان سوى مظهر من تلك المظاهر.

وما يشرعن دور العشائرية هو ذلك الحال البائس الذي يعيشه الجهاز القضائي، والذي لطالما أشارت المنظمات الحقوقية والمحامين وقضاة سابقين إليه بالنقد والاستهجان، وهذا ما يفسح المجال، وبتشجيع السلطة، على منح دور مقرر للقضاء العشائري للبت في قضايا تمس مثلاً حقوق النساء، وهنا فالقضاء العشائري نموذج للموقف الذكوري الشرقي المُهين للمرأة ومكانتها وحقوقها، دون إغفال دور الثقافة الدينية وتأثيراتها أيضاً. عندما يجتمع رأس المال التجاري المحافظ مع الثقافة الدينية ورجال العشائر للبت في قضايا تخص المرأة؛ لك أن تتخيل طابع القرار المُتخذ!

ما سبق، إذ يشكل أرضية ثقافية وتحريضية تدير الظهر للقانون المدني، وتحتكم لمنطق البلطجة والزعرنة، هو مدخل الفلتان.