Menu

انتخابات أمريكية في ظل منظومة عالمية مضطربة!

محمد صوان

نُشر هذا المقال في العدد 18 من مجلة الهدف الإلكترونية

تتميز الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية بأنها معقدة وعصية على الفهم، فهذه العملية السياسية سمة لصيقة بالنظام السياسي الأمريكي، وليست موجودة بتعقيداتها وتكلفتها الباهظة ومراحلها المختلفة في معظم – إن لم يكن في كل – النظم السياسية المعاصرة!

فعملية اختيار مرشح الرئاسة من أحد الحزبين – الديمقراطي أو الجمهوري – تستغرق نحو ثمانية أشهر كاملة من التصويت التمهيدي "البرايموز" في الولايات الخمسين والعاصمة واشنطن، والأقاليم التابعة للولايات المتحدة والبداية الفعلية لعملية التصويت تكون دائماً من  "ولاية أيوا" في الأيام الأولى لشهر كانون ثاني من سنة الانتخابات الرئاسية, أما موعد الانتخابات الأمريكية لمنصب الرئيس فهو محدد بقوة الدستور يوم الثلاثاء الأول من تشرين الثاني الذي يلي الاثنين الأول من ذات الشهر، ولذلك فإن الانتخابات الرئاسية تكون دائماً بين اليوم الثاني والثامن من تشرين الثاني.

 على كل حال انحصرت المنافسة الحقيقية للانتخابات الرئاسية بين كل من الرئيس الحالي دونالد ترامب الطامح إلى ولاية ثانية عن الحزب الجمهوري, والسيناتور جو بايدن المرشح للرئاسة عن الحزب الديمقراطي؛ فترامب يبدو الخيار المفضل لقادة الحزب لقدرته على اجتذاب أصوات الناخبين غير المنضوين أيديولوجياً في الحزب الجمهوري, بالإضافة إلى أهمية خلفيته الاقتصادية في وقت يعاني فيه الأمريكيون من مخاطر انتشار وباء "كورونا" ومن ارتفاع معدلات البطالة, وتراجع النمو الاقتصادي.. وهناك قطاع عريض من الناخبين الأمريكيين وبضمنهم الجمهوريين لا يرون ترامب محافظاً بدرجة كافية، وإنما ظاهرة شعبوية حاولت وتحاول تشييد جدراناً ضمن الوطن الواحد وإشاعة "الفوبيات" المذهبية والعرقية, وتقديم تفسيرات عنصرية وغيبية وتبسيطية لأزمات بنيوية ذات تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية حادة. كما أن قطاعاً آخر من "اليمين المحافظ" لا يرتاح لعقيدة ترامب وانتمائه للطائفة الإنجيلية المحافظة "المورمون"، ويجد ترامب صعوبة كبيرة في اجتذاب أصوات الطبقات الفقيرة والأكثر ثقافة في المجتمع؛ بسبب أصوله الطبقية وثروته الضخمة, وأسلوب حياته المترف.

وعلى العكس من ذلك, فإن البعض يذهب إلى وصف جو بايدن بالمعتدل والوسطي, وليس هناك غبار على مواقفه في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية, فهو ابن المؤسسة الأمريكية العميقة, ولا يحيد عن برنامج الحزب الديمقراطي، وربما بسبب اعتداله ووسطيته، فإنه يحظى بتأييد قطاعات واسعة من الأمريكيين غير المنتمين لأحزاب سياسية, وهؤلاء الناخبون هم "رمانة الميزان" في كل المنافسات الانتخابية, وتشير نتائج  المشاورات والاستطلاعات الانتخابية الأولية حتى الآن إلى تقدم جو بايدن في ولايات الشمال الشرقي التي تشتهر بالاعتدال الأيديولوجي, وإلى تقدم ترامب في ولايات الجنوب المحافظ.

الجديد في لعبة التنافس بين الجمهوريين والديمقراطيين

في الولايات المتحدة التي لم تعد "القوة العظمى الوحيدة" كما وصفت غداة انتهاء الحرب الباردة, حيث يجهد الرئيس ترامب, في ظل مقاومة تبديها  "المؤسسة الأمريكية" إلى حد ما, للخروج عن السياقات التقليدية المستقرة للسياسة الأمريكية, فهو يرفع شعار "أمريكا أولاً" فاسحاً المجال لخروج أمريكا من جميع التفاهمات أو الاتفاقيات الدولية القائمة, وبالتالي إضعافها!

ويحاجج هؤلاء من أنصار الحزب الديمقراطي قائلين: "هكذا بدأ ترامب بالانسحاب من اتفاقية التغيير المناخي, وإثارة أزمة تهدد بزيادة مستوى التوتر بشكل كبير في الشرق الأوسط عندما أعلن عن "صفقة القرن" ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى مدينة القدس , وتكريسها "مدينة موحدة وعاصمة لإسرائيل، وسبق ذلك إعلان انسحاب إدارته من الاتفاق النووي مع إيران"!

يقول جو بايدن في محاولة لتمييز نفسه: "جديد ترامب يتجاوز الأفكار التقليدية للجمهوريين, فهو يتبنى أفكاراً مشابهة, لكنه يختلف عن الجمهوريين في أسلوب إدارته للعمل, وتعاطيه مع الملفات الشائكة, وهو ما يمكن وصفه بإدارة الدولة, كما لو كانت شركة", ويضيف بعض المحللين من الحزب الديمقراطي حول سياق منطق "أمريكا أولاً" الصدامي والنازع نحو الأحادية في العالم، حيث ابتعد الحزب الجمهوري عن احترام تفاهمات واتفاقيات اقتصادية دولية تخدم المصالح الأمريكية, وخير مثال لذلك الخروج من الشراكة العابرة للباسفيك, والذي يهدف إلى تحرير الولايات المتحدة من التزامات متعددة الأطراف، وقد أسفرت هذه الخطوة عن ترك الدول الـ "11" المستمرة في التزام الاتفاقية أمام وضع يمكن القول أنه غير متوازن تجاه العلاقات الاقتصادية الاستراتيجية مع الصين الشعبية التي ستكون المستفيد الأكبر من تعزيز علاقاتها مع هذه المجموعة من الدول.

ولعل أخطر وأبرز نموذج لهذه السياسة الترامبية الانقلابية – من وجهة نظر الديمقراطيين – تتمثل في عدم احترام المرشح الجمهوري لجميع الالتزامات والمرجعيات والأسس القانونية وما اتفق عليه دولياً إزاء "عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية", الأمر الذي يعيد "النزاع" إلى مربعه الأول, ويؤدي إلى مزيد من التوترات في الشرق الأوسط؛ فترامب يريد أن يستعمل  "صفقة القرن" كمنهج جديد لصياغة علاقات قوة جديدة في المنطقة من دون أن يساهم في حل وتسوية متوازنة لهذا "النزاع" الممتد لأكثر من سبعين عاماً.. لا بل يحاول من خلال القفز عن مقولة "الحقوق المشروعة للفلسطينيين والأمن للإسرائيليين" وحرفهما عما يفترض أن يكون عليه مسارهما الطبيعي التفاوضي ضمن المرجعيات والقرارات المتفق عليها دولياً.

دوامة عالمية انتقالية

سواء فاز الديمقراطيون أم الجمهوريون, فإن البيئة الجيواستراتيجية لعلاقة الارتباط الأمريكي – الصهيوني, هي البيئة نفسها لمنظومة عالمية انتقالية تعاني اضطراباً هيكلياً؛ بسبب تراجع مكانة الولايات المتحدة على المستوى العالمي, ناهيك بصدع القاعدة الجيوسياسية الأمريكية – الأوربية التي ساهمت إلى حد كبير في إدارة واحتواء الصراع العربي – الإسرائيلي وأنتجت "حل الدولتين" وصعود قوى جديدة تسعى لتبوء مواقع المنظومة الدولية أو استعادة مواقع مفقودة, وسط أجواء عدم اليقين ومقاربات متعثرة لتوازنات تفرضها قواعد عمل جديدة وتكتلات إقليمية ودولية من نمط جديد, ومنها التحولات التي أنتجتها أزمة التنقيب عن النفط والغاز في شرقي المتوسط, وأظهرت تكتلاً شرقياً في مقابل التكتل الأطلسي – الغربي.

يمكن لسيناريو ابتعاد الولايات المتحدة عن المجتمع الدولي, في سياق محاولة الجمهوريين الفوز بولاية ثانية وإنهاء صلاحية الترتيب الجيوسياسي القائم في العالم منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، ومن شأن التحديات التي يطرحها المرشح الجمهوري ترامب أن تمنح الصين زخماً أكبر لتصبح رائدة تلك الدول, ومن أجل صياغة منظومة عالمية جديدة انطلاقاً من المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتقها في الجهود المبذولة للحد من "كارثة وباء كورونا والتلوث البيئي" عقب إعلان ترامب رفضه المشاركة في هذه العملية المفصلية لإنقاذ البشرية، كما أن أوربا التي يريد المرشح الجمهوري ترامب تفكيكها, تملك فرصة استثنائية للاضطلاع بدور رئيسي على المسرح الدولي؛ الأمر الذي يفرض عليها اختيار دينامية سياسية واقتصادية قادرة على تفادي الشعبوية وأوهام النيوليبرالية.

لقد بات واضحاً الآن أن الفوضى الملازمة لظاهرة ترامب الشعبوية؛ تشير إلى أزمة من النوع الذي قد يمتد لأربع سنوات قادمة – في حال فوز الجمهوريين في إدارة البيت الأبيض – والسمة المركزية لهذه المرحلة التي تسمى "انتقالية" أنها تشهد تقلبات شديدة الظواهر وحالات اعتدنا على قراءتها ومقاربتها بصفتها جزءاً لا يتجزأ من نظام راهن؛ الأمر الذي يجعل توقعاتنا في المدى القصير غير مستقرة بالضرورة, وحالة الاضطراب هذه يمكن أن تقود إلى توتر أقصى, وبالتالي إلى حالات عنف أو حروب مردها نسبياً إلى سعي بعض الأطراف لحماية امتيازاتها وموقعها على رأس هرم السلطة داخل هذه البيئة المضطربة, وتحضر في هذا الباب الحوارات المتشعبة التي رافقت هرولة بعض الأنظمة العربية لإقامة العلاقات والتطبيع المجاني مع العدو الصهيوني, وبالتالي تفكك النظام العربي الرسمي, وتجدد الانتفاضات الشعبية في أكثر من بلد عربي, وفشل التوقعات بشأن أبعاد المرحلة الانتقالية في الشرق الأوسط ورهاناتها, فضلاً عن العجز النظري أمام ظاهرة العنف الطائفي والمذهبي والإثني!

إن أي عمل مهما يكن محدوداً, كفيل بإحداث تداعيات ثقيلة, ويلاحظ في مثل هذه الأحوال, أن المنظومة الدولية, وبضمنها العربية تنزع نحو المراهنات الخطرة؛ سواءً على المرشح الجمهوري أم الديمقراطي، ومن حيث المبدأ فإن الفترة "الانتقالية" يصعب التكهن بخواتيمها؛ غير أنه يأتي وقت يصبح المخرج واضحاً, وندرك أننا أصبحنا منخرطين في منظومة تاريخية جديدة.