Menu

الخلاف مع المكرونية

حاتم استانبولي

خاص بوابة الهدف

إذا كانت الحكومات جدية في المطالبة بمقاطعة المنتجات الفرنسية عليها أن تأخذ قرارًا حكوميًا بشأن ذلك، وخاصة دول المغرب والخليج العربي، حيث أن الميزان التجاري بين هذه الدول العربية وفرنسا يبلغ تقريبًا، حسب ITC TRADE 555 مليار دولار، وهذا رقم مهم بالنسبة للتجارة التبادلية بين الدول العربية وفرنسا، وبتوزيع هذا الرقم على مواد هامة؛ مثل: الطائرات وقطع غيارها والتوربينات ومواد زراعية؛ مثل القمح والدم والأدوية، فأكثرية واردات فرنسا من العالم العربي أو الإسلامي هو النفط والغاز ومشتقاتهما، فبالتأكيد أن الميزان التجاري يصب لصالح فرنسا. السؤال الهام الذي يطرح: هل تستطيع الحكومات أن تتبنى قرار المقاطعة؟ أو بشكل أوضح: هل قرار المقاطعة قرار جدي للحكومات، وهنا أخص حكومتي قطر وتركيا اللتان استوردتا ما يقدر ب 10 مليارات دولار خلال عام 2019؟ برأيي أن قرار مقاطعة المنتجات الفرنسية، سيعني في بعض المجالات الهامة قطاعات حيوية؛ مثل: الطيران والأدوية والتوربينات والصناعات العسكرية لبعض دول الخليج خاصة.
قرار المقاطعة يجب أن يكون حكوميًا، أي قرارًا سياسيًا، وهذا لن يحصل بسبب المنشأ التاريخي لهذه الأنظمة التي سمتها العامة سمة كمبرادورية، وهي تعي أن المعركة السياسية لن تكون مع فرنسا وحدها، بل مع الاتحاد الأوروبي وهذه معركة في ظل أنظمة تابعة لن يكتب لها الحياة. هذه الأنظمة مستمدة قوتها وجزءًا هامًا من شرعيتها من هذه المنظومة وفرنسا تشكل جزءًا هامًا منها، وعلى سبيل المثال القوى الدينية اللبنانية التي تريد أن تشكل حكومتها، أعطاها ماكرون وقتًا زمنيًا لتلبية شروطه التي تعتبر مدخلًا لمساعدات منتظرة لحكومة سعد الحريري تقدر ب 11 مليار دولار لإعادة دعم استمرار النظام الطائفي الرجعي الذي يشكل نموذجًا للأنظمة الكمبرادورية التابعة. الحريرية ومثيلاتها (الغنوشية) في مأزق سياسي وديني، فهي تستخدم المذهبية في صراعها الداخلي ضد خصومها لتبرير شرعيتها السياسية كممثل للطائفة السنية، ولكنها لن تستطيع أن تقف في مواجهة ماكرون وتصريحاته، وهذه مناسبة لكشف التلطي والاختباء وراء الشعارات الدينية المذهبية، ووثيقة القوى الليبرالية اللبنانية التي تريد عودة الاستعمار الفرنسي؛ ماذا ستقول؟ أو الدول التي تحصل على مساعدات ومنح أوروبية دورية؛ ماذا ستقول؟ أما عن الأنظمة الأخرى الغارقة في مديونيتها لن تستطيع أن تأخذ قرارًا سياسيًا بالمقاطعة.
أما عن قرار دول الخليج، فهي لن تستطيع أن تأخذ قرارًا لكونها جزء من منظومة رأسمالية متشابكة باستثمارات مشتركة اللاعب الأساسي فيها مراكز رأس المال البنكية التي تعتبر ماكرون ابنها البار وممثلًا لها في النظام السياسي والمالي الأوروبي، لكل هذا فإن النفخ في قربة مثقوبة لن يعطي أية نتيجة. أما الصراخ الآردوغاني؛ يهدف إلى المطالبة بوقف انهيار الليرة التركية التي تتلاعب فيها المراكز المالية التي تدرك أنها لن تستطيع كبح جماح الاردوغانية إلا من البوابة الاقتصادية الداخلية، فهي تريد تركيا الأطلسية في إطار الدور التاريخي لها كقوة إقليمية كابحة لأية محاولات تحررية وطنية لشعوب المنطقة. هذه الضجة الإعلامية التي لن تؤدي إلى أية نتيجة سوى تغذية النزعات الدينية المتطرفة، وهي حاجة داخلية لطرفي الصراع الوهميين اللذان غذا الصراع المذهبي والديني في سورية وليبيا والجزائر وسابقًا في أفغانستان، وهم من يدعم فكرة الدولة اليهودية الدينية العنصرية الرجعية في فلسطين.
مشكلتنا مع فرنسا اليمينية وحليفاتها ليست مشكلة رسومات كاريكاتورية، بل هي مشكلة استعمارية تاريخية ما زالت مستمرة بأشكال وأدوات متجددة؛ الرد عليها يجب أن يكون بإعادة طرح الوحدة الاقتصادية الاقليمية لدول المنطقة، وبدل أن تُصدر فرنسا طماطم لبعض الدول العربية على سبيل المثال لا الحصر، تستطيع هذه الدول أن تأخذها من منتجات شعوبها. إن مواجهة الهجمة الاستعمارية تكون في العمل العربي الجمعي للتطور العلمي والبحثي وإنتاج صناعات محلية تلبي حاجيات مجتمعات المنطقة، أما التباهي بإبراز (سوقيتنا) أي أننا سوقًا استهلاكية لمواردهم، فهذا وضع يجب أن تخجل منه الحكومات والمجتمعات.
الخلاف مع فرنسا اليمينية؛ خلافًا على الخيار الوطني التحرري الذي سيحرر مجتمعاتنا من دروسهم الاستعلائية، ومنها درس الحرية التي لا تتمتع فيه المجتمعات العربية؛ بسبب سياسات نظمهم المدعومة استعماريًا التي نصبت هذه الأنظمة وأعادت إنتاجها في كل مرة تنتهي مدة صلاحيتها باستخدامها لأدواتها الرجعية التي أنتجتها لتقويض الصراع الوطني التحرري وحرفه عن بوصلته الوطنية إلى البوصلة الدينية التي أدخلت المنطقة منذ عشر سنوات في صراع دامي لمجتمعات المنطقة، وهي من استثمرت فيه، حيث أن ضحاياه في فرنسا يعدو على الأصابع، ولكن ضحاياه في منطقتنا يفوق مئات الآلاف في الجزائر والصومال وليبيا وسوريا والعراق؛ فشركة الأسمنت الفرنسية (لافراج) في سورية، كانت تعمل تحت حماية داعش وأخواتها وتدفع أتاوات لها، وهي الآن في مناطق سيطرة قسد، وتشكل قاعدة لقوات التحالف والمسؤولين الفرنسيين كانوا دائمًا على علم بذلك. إن العلاقة بين هذه التنظيمات وهذه الدول؛ علاقة أدوات مع صانعيها والمستثمرين فيها في مجتمعاتنا العربية، ولها دورًا واحدًا؛ هو تقويض وتفتيت المجتمعات وإبقائها في حالة من التآكل الذاتي وإن اختلفت أشكاله ومعتقداته؛ إن كان مسيحيًا قواتيًا لبنانيًا أو داعشيًا أو قاعديًا أو مصعبيًا زرقاويًا؛ جميعهم خرجوا من ذات المدرسة الاستعمارية التي استثمرت في نشأتهم منها بشكل مباشر ومنها بشكل غير مباشر، منذ أن وقعت اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.
مشكلتنا مع فرنسا اليمينية مشكلة استعماريتها منذ أن دعمت إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ومنذ أن ساهمت في تأسيس الجيش الإحلالي الإسرائيلي ومفاعل ديمونه، ومشاركتها العدوان الثلاثي على مصر 1956؛ مشكلتنا مع فرنسا اليمينية هي في تغطيتها تهويد القدس وطرد الفلسطينيين ولا تحرك ساكنًا؛ الكل مع حرية التعبير والرأي، ولكن هذه الحرية في فرنسا اليمينية يحكمها الازدواجية، فهي تدعم ذات التنظيمات في سورية والعراق ولبنان وتعتبرها قوى ثورة، وهي من تشرع القتل الصهيوني والاعتقال والتشريد للفلسطينيين تحت عنوان أحقية إسرائيل في الدفاع عن نفسها وتحاربهم على أراضيها.
العمليات الإرهابية في فرنسا لها ذات الدور للعمليات في المجتمعات العربية التي تريد تقويضها من جهة، وبذات الوقت تريد أن تشرع ممارسات العدوان الإسرائيلي الصهيوني في فلسطين وتسوقه في المجتمعات الغربية على أنه عدو واحد مشترك همجي؛ لا يحمل أية قيم إنسانية أو تحررية وطنية، وهي مدخل لإسقاط الطابع القانوني التحرري، باعتبار النضال الوطني الفلسطيني والعربي هو نضال إرهابي ديني متطرف.
نحن مع فرنسا وشعبها نتضامن مع ضحاياه بأنهم ضحايانا؛ يربطهم الطابع الإنساني الذي فتحت آفاقه تعاليم الثورة الإنسانية الفرنسية، ولسنا مع كذب ماكرون اليميني؛ ممثل رأس مال عائلة روتشيلد التي استلم لوردها البريطاني وعد بلفور الذي هو ثمرة سايكس بيكو. الخلاف يجب أن يكون مع الدور الاستعماري للنظام الفرنسي اليميني الذي يعاني منه الفرنسيين أنفسهم، كما تعاني منه مجتمعاتنا. إن الحرية والعدالة لا تأخذ طابعًا قوميًا أو عرقيًا أو دينيًا؛ الحرية جوهرها إنساني كون مكان ممارستها هي حياتية يومية، والحرية لا تتجزأ والعدالة ناظمها، والحرية معيارها النظام القضائي القانوني المستقل الذي يأخذ سلطته من المصلحة الإنسانية التي تحكمها المساواة بين المجتمعات والنظم ومواطنيهم.