كل شيء كان محسوبًا ومتوقعًا، رغم الحماس الظاهر من كل الأطراف للتلاقي والوحدة وإنهاء الانقسام، إلا أن الجميع كان يعرف الأسباب الظرفية التي دفعت باتجاه هذا التلاقي، وهنا بيت القصيد، كيف ينظر الفرقاء لمسألة الوحدة وإعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني؟ هل هي قضية مبدأية؟ أي مرتكز في استراتيجية إدارة الصراع؟ أم هي مسألة تكتيكية تستخدم في سياق الضغط على القوى الإقليمية والدولية، على أساس أن لدينا خيارات أخرى؟
الظروف السياسية التي تدافعت في المرحلة الأخيرة، كشفت أن الفرقاء الفلسطينيين وصلوا إلى طرق مسدودة؛ فبانحيازه الكامل "لإسرائيل" أوصل فريق ترامب المولج في الملف الفلسطيني الإسرائيلي، الطرف الفلسطيني المراهن على مسار التفاوض وما يسمى حل الدولتين إلى اليأس، فلم يوفر فرصة إلا واغتنمها لتأكيد أن مصلحة "إسرائيل" حصريًا هي جوهر السياسة الأمريكية في المنطقة، والمفارقة هنا وعلى خلاف باقي الإدارات الأمريكية السابقة، لم يمارس ترامب تكتيكًا، بل اعتمد بشكل كامل على تحقيق نقلات استراتيجية على رقعة الشطرنج، فحسم ملفات تاريخية الواحدة تلو الأخرى، من القدس إلى اللاجئين إلى الحدود.
على المستوى الإقليمي، حسمت أنظمة الرجعية العربية أمورها وقررت أن التطبيع ليس له علاقة بالحق الفلسطيني، بل بتحالفات مرتبطة بصراعات أخرى في المنطقة.
المشكلة تكمن هنا، من الزاوية التي يتم من خلالها مقاربة الوحدة الوطنية، هل الانقسام هو الأزمة السياسية الوطنية التي يواجهها الشعب الفلسطيني؟ وبالتالي هل إنهاء الانقسام يؤدي حكمًا إلى الوحدة الوطنية؟
عندما لا يتم اعتماد المراجعة السياسية الشاملة للأزمة السياسية الوطنية التي تعاني منها القضية الفلسطينية، تغيب الرؤية الوطنية للخروج من الأزمة الوطنية، وهنا يتحول التكتيك إلى إستراتيجية، أي تتحول السياسة إلى مجاملات ظرفية فارغة وتتقلب بين ليلة وضحاها.
المؤسف، أن من يضيع الطريق هو ذاته من يفترض أنه يحمل البوصلة؛ الطرف الذي يقف خارج الانقسام، لأنه يعتبر الانقسام نفسه معضلة ظرفية، وليست جوهر الأزمة السياسية والضلال الوطني، بل إن توصيفه للأزمة الوطنية سابق للانقسام ذاته؛ الانقسام هو رهان على إمكانية إدارة الصراع السياسي على أساس شرعية أوسلو، وهم السلطة وهامش المنافسة وأنت مغمض العينين، عله بذلك يختفي الاحتلال ومؤثراته وضغوطاته ومتطلبات مصالحه. رغم مساوئ الانقسام وضرره البالغ بالقضية والشعب الفلسطيني؛ إلا إنه ليس مصدر الخطر الرئيسي الذي تمر به القضية الفلسطينية؛ إن أوسلو هو المأزق الوطني الفلسطيني، وهو مصدر الخطر الذي تعيشه القضية الفلسطينية، وهو من فرخ المآسي وأنتج الانقسامات ومزق وفكك الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
إن وضع أوسلو كمحور في توصيف الأزمة الوطنية، يفرض اعتباره محور في رؤية الخروج من الأزمة الوطنية، هكذا يتم تصويب النظرة للوحدة الوطنية، باعتبارها مرتكز استراتيجي في إدارة الصراع، وليست تكتيك، وهكذا يتم إخراجها من بازار الرهانات في تقلبات السياسة الدولية والإقليمية، أو حتى تكتيكات الفرقاء الفلسطينيين؛ الوحدة الوطنية بالأساس هي برنامج سياسي تجمع عليه قوى التحرر الوطني في الصراع ضد القوى الاستعمار.
إن توصيف أوسلو كمحور في الازمة الوطنية، ومحوريته في الرؤية الوطنية للخروج من الأزمة، يعني أن المعادلة السياسية الوطنية التي أنتجت أوسلو لا يمكن أن تكون هي ذات معادلة الخروج من الأزمة الوطنية، وبالتالي الرهان على الإدارة الامريكية، أي إدارة كانت ديمقراطية أو جمهورية، وبغض النظر عن الأسماء والصفات الشخصية لهذا الرئيس أو ذاك، لا يستوي مع صدقية النية بالرغب في الخروج من الأزمة والتطلع باتجاه الوحدة الوطنية، وكما وأيضًا لا يستوي مع الرهان على الأنظمة الرجعية العربية الخليجية وغيرها، وعلينا أن نتذكر بأن أوسلو لم يولد كأزمة في ظل إدارة ترامب، والخلاف العميق والخطير في الساحة الفلسطينية، هو مع فريق بات يعتبر أوسلو مشروع وطني، وأنه استبدل شرعيته الوطنية بشرعية أوسلو الدولية، حيث هنا يتجلى الخلاف العميق في توصيف الأزمة الوطنية، والخلاف العميق في الرؤى للخروج من هذه الأزمة، وهنا يتضح ركاكة وسطحية النظرة لأهمية هذا اللقاء أو ذاك، بغض النظر عن من حضر وما تم توصيفه إعلاميا بأنه تاريخي، هو في كل الأحوال مجرد ممارسة تكتيكية لفرقاء يقف كل منهم في محوره الإقليمي والدولي ويحاول أن يضغط ليحسن مواقعه ليس إلا.
إن نجاح المرشح الديمقراطي جو بايدن في اتخابات الرئاسة الأمريكية، لن يعيد الأمور إلى مربع الرهان على أوسلو، بل سيجري تعايش بين استعادة ظاهرية لأوسلو، واستمرار العمل بهدوء دون ضجيج بخطة صفقة القرن؛ ستعطى سلطة أوسلو ماء وجهها، مثل إعادة فتح مكتب المنظمة في واشنطن، وإعادة بعض المساعدات وغيرها، ولكن من ناحية أخرى لن يتم التراجع عن أي خطوة كانت مكسبًا استراتيجيا "لإسرائيل".؛ من القدس إلى الضم إلى التطبيع، بل سيجري تعزيز هذه السياسات، ويبقى السؤال الحقيقي هو ما العمل؟
إن نجاح بايدن مناسبة لفرز حقيقي في الساحة الفلسطينية، على القوى التي هي خارج الانقسام السلطوي أن تحسم أمرها، فلم يعد من الممكن الرهان على النوايا الحسنة، أو على التعامل مع الوحدة الوطنية كتكتيك، وهي ليست مرهونة بمن هو رئيس الولايات المتحدة، والوحدة لا يمكن أن تقوم بوجود أوسلو، وعدا ذلك هو مضيعة للوقت والجهد والقضية.