مثل سقوط القدس بيد الفرنجة (الصليبيين) عام 1099؛ هزة عنيفة أصابت الأمة في القلب، والإيمان الشرقي بشقيه الإسلامي والمسيحي الأرثوذكسي؛ تنقل الحمام الزاجل حينها من بلدة إلى أخرى يحمل نداءات الاستغاثة للدفاع عن المدينة ويصف ما حل بها وبأهلها ومقدساتها، من أهوال على أيدي الفاتحين – المحتلين، لكن الرد كان بقصائد اللوعة والرثاء؛ مقرونة بالشكوى من سوء الحال وقلة الحيلة، إلى أن وصلت الأمور إلى قاع لا قاع دونه لتبدأ عملية الاستنهاض التي حررت المدينة بعد قرابة قرن من الزمن.
ينطبق الأمر بشكل ليس ببعيد عند سقوط المدينة في يد دولة الاحتلال عام 1967، حيث رفع علم (إسرائيل) فوق قبة الصخرة والمسجد الأقصى لبضعة أيام، إلى أن تلقى وزير الحرب موشي ديان في حينها نصيحة من السفير التركي بأن ينزل تلك الأعلام خشية ،من ردة فعل العالم الإسلامي؛ الأمر الذي ثبتت عدم صحته عندما قام مهووس بحرق المسجد في صيف 1969، يوم أن التهمت النار المنبر الخشبي الشهير، حيث قالت رئيسة وزراء (إسرائيل) في حينه: "إنها لم تنم الليل قلقًا متوقعة أن يكون العالم الإسلامي يتأهب لسحق (إسرائيل)، لكنها أدركت في الصباح أن الأمر لن يعدو إصدار البيانات المحشوة بفارغ التهديدات.
مارست الأردن الإشراف والرعاية على القدس بعد احتلالها؛ إذ لطالما نظرت مؤسسة العرش القديمة للمدينة بمقدساتها المسيحية والإسلامية باعتبارها مصدرًا من مصادر الشرعية، ورأت أنها وارثة للعهدة العمرية التي تنص على حقوق المسيحيين وتكفل رعايته وحماية أماكنهم المقدسة، وبالتالي فإن الأردن تمسك بحق رعاية مجموعة من المقدسات الدينية تشمل كنيسة القيامة وطريق الجلجلة والكنيسة الجثمانية، كما جامع عمر والخانقاه الصلاحية وغير ذلك كثير، لكن القدس اليوم تعيش أياما سوداء، تزداد حراجة يوما إثر يوم؛ خط بياني هابط إلى الأسفل، منذ مساء الخامس من حزيران عام 1967، ولكنه آخذ في التسارع عند توقيع اتفاق أوسلو في أيلول 1993، حيث تم تأجيل بحث مسائل الحل النهائي – وهي المسائل الأهم – لمرحلة لاحقة تأتي بعد خمس سنوات، و لكنها لم تأتِ ولن تأتي أبدًا، وهو أمر لم يغب عن إدراك من وقع ذلك الاتفاق أو من قرأه بعناية، فقد كان من الواضح والجلي أن ذلك التأجيل كان بحكم الإلغاء.
في عام 1994 وقعت اتفاقية السلام الأردنية – الإسرائيلية (اتفاقية وادي عربة)، وفي حين غابت القدس تمامًا – أجلت في اتفاقية أوسلو، أمّا اتفاقية وادي عربة قد ساد بعض بنودها غموض غير بريء، ومن ذلك ما يتعلق بالقدس، فقد نصت الاتفاقية على: احترام دور للأردن في إدارة المقدسات الإسلامية، ومن الطبيعي أن كلمة احترام حمالة أوجه وأن (دور) دون أل التعريف تذكرنا بال التعريف التي غابت في بعض نصوص قرار 242 الصادر عن مجلس الأمن، كما نصت الاتفاقية على حق جميع أتباع الديانات في حرية العبادة والوصول إلى الأماكن المقدسة لديهم، وهذا يستبطن أن لليهود حقًا في ممارسة شعائرهم الدينية في الأقصى وقبة الصخرة اللتين تعتبران بزعمهم جبل الهيكل، وهي تسمية أخذت تتسرب مؤخرًا وتتردد على ألسنة مسؤولين كبار في السلطة الفلسطينية، كما يمثل ذلك تراجعًا في موقف الأردن التقليدي الذي كان يرى في نفسه وولايته على القدس استمرارًا للعهدة العمرية التي تشمل المقدسات الإسلامية والمسيحية على حد سواء.
في عام 1995 تم توقيع وإعلان ما أطلق علية في حينه اتفاق أبو مازن – بيلين، وذلك في عهد الرئيس السابق ياسر عرفات ومعرفته وموافقته غير المعلنة، فقد وافق الطرف الفلسطيني في تلك الوثيقة على إقامة العاصمة الفلسطينية في قرية أبو ديس المحاذية للقدس، على أن يطلق عليها اسم القدس، وباشرت مؤسسة صامد بإقامة مبان حكومية هناك، و مؤخرًا تم إعطاء المباني لجامعة القدس؛ بعيدًا عن ضجيج الخطاب الحماسي، إلا أن طرفي المسؤولية في رام الله وعمان قد أدركا بشكل صامت؛ أن القدس قد أصبحت جزءًا من ماضٍ، وإن كان ذلك بشكل صامت، لذا أخذت تفقد الاهتمام الجدي بها، وتركت ترك يتيم على مائدة لئيم، وكانت حكومة الدكتور سلام فياض قد فكت الارتباط لا بين القدس والسلطة فحسب، وإنما بين المقدسيين وبين السلطة أيضًا، عندما تجلت العبقرية السياسية والاستراتيجية لدى أحد وزرائها اليساري جدًا بإخراج القدس من دائرة اهتمام العمل الحكومي وعدم إدراج القدس ضمن اهتمامات التخطيط والميزانية والاستعاضة عنها بما يفي الحاجات الرمزية ومتطلبات العلاقات العامة وتحميل الحكومة (الإسرائيلية) و بلدية القدس اليهودية المسؤولية عن رعاية القدس ومواطنيها المقدسيين، و كانت النتيجة المعروفة سلفًا أن أصبح ارتباط المدينة وأهلها ببلدية القدس اليهودية التي تدير شؤونهم وفق سياساتها العنصرية الهادفة إلى تفريغها من أكبر عدد ممكن من ساكنيها الذين ازدادت معاناتهم بسبب تلك القرارات غير المسؤولة، وتسارع تسرب العقارات من ملكية المقدسيين لملكية جماعات استيطانية يهودية متطرفة، في حين التهب جنون بلدية القدس اليهودية؛ جاعلة حياة المقدسيين غاية في الصعوبة، بسحب هوياتهم وهدم بيوتهم.
بما أن الاهتمام الفلسطيني – الأردني الرسمي الجاد بالقدس قد تآكل، وأخذ بعدًا لفظيًا قد يصدقه البعيد، ولكن لا يلمسه أو يراه أو يصدقه المقدسي، فإن فراغًا قد حصل كان لا بد من ملئه؛ السعودي لديه الطموح أن يصبح الراعي للمساجد المقدسة الثلاثة التي تشد إليها الرحال؛ التركي يرى في القدس عنصرًا من عناصر عثمانيته الجديدة، ومصدرًا من مصادر الشرعية الإسلامية ل تركيا ولحزب العدالة وللرئيس أردوغان، فيما الإمارات تدخل بقوة على خط القدس متحدية لا الدور التركي فحسب، بل الأدوار جميعها باستثناء الدور (الإسرائيلي) الذي تتكامل معه بعد أن أعلنت عن دخولها مسار التطبيع والتحالف على كل الأصعدة مع (إسرائيل) بما فيها – وإن بشكل تدريجي – تبنى روايتها التاريخية، و حكومة الاحتلال ترى فيها عاصمتها الأبدية، وقد منحتها إدارة ترامب وصفقة القرن، ثم هرولة التطبيع العربي شرعية لم توفرها لها القوة أو الروايات التوراتية.
دخلت الإمارات على الخط المقدسي بقوة، بالانسجام مع الحكومة الإسرائيلية وبلدية القدس وبرضا سعودي معني بتغييب الدورين الأردني والتركي؛ بدأت إشارات ذلك في حزيران الماضي، وقبل كشف المستور في العلاقات الإماراتية – الإسرائيلية، حين كشفت بلدية القدس عن مشروع تحويل وادي الجوز إلى مجمعات صناعية – تكنولوجية، وسياحية تجارية، أطلق عليه اسم سيليكون فالي تشبها بوادي السليكون في كاليفورنيا، حيث يتم إنتاج التكنولوجيا الحديثة، وحسب ما ذكرت صحيفة (إسرائيل هيوم) أن المشروع سيتضمن مجمعات صناعة تكنولوجيا وفنادق فاخرة ومرافق سياحية وتجارية؛ الأمر الذي سيقلص الفارق بين مستوى الحياة بين شرقي القدس وغربيها، حسب زعمهم، وسيوفر عشرة آلاف فرصة عمل، وقد أعلنت نائبة رئيس بلدية القدس عن تسهيلات مهمة ستمنحها البلدية لرجال الأعمال الإماراتيين في شرقي القدس.
الإمارات كما يتضح لا تكتفي بالتطبيع الدبلوماسي، وإنما بالتحالف في شتى المجالات مع دولة الاحتلال وصولًا للعمق الاستثماري في القدس وفي المشروع المذكور؛ الأمر الذي سيوفر لها حضورًا مهمًا في حياة المقدسيين في مواجهه ما تقدمة تركيا من مساعدات ومشاريع ترميم وبعثات طلابية، كل ذلك في غياب كل من رام الله وعمان .