في غمرة نعيه كقائد ومناضل سياسي وعضو لجنة تنفيذية ونائب أمين عام وكل الألقاب والصفات التي قد يوصف بها، لا يجب أن يغيب أن "أبو شريف" الإنسان الودود المتواضع، وهذا يجعل له من كل الألقاب والصفات السابقة وغيرها مما قد يطلق عليه، استحقاق الجدارة بها؛ لأن غياب أن يكون صاحب كل هذه الألقاب إنسانًا، تسقطها عنه، وتضعه في نهاية المسير إلى دروب الانحطاط والحقارة، وهذا ماثل وشاهد عيان في واقعنا العربي والفلسطيني القائم.
الإنسان عبد الرحيم ملوح؛ رفيقي وصديقي الذي يكبرني بثلاثين عامًا، والذي سيرته الرسمية الصادرة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، فيها ما قيل وفيها أيضًا ما لم يقال، ومن موقعه، كما عمره، اللذين قد يشكلان حاجزًا كبيرًا في توليد صداقة مستديمة، حتى بعد أن تنتهي كل الألقاب، خاصة وأن مفاهيم القيادة وممارستها القائمة، ترتبط: بالرسمية والتسلط والحظوة والشلة والمحاسيب. وصولًا إلى قطع "رزق ورقاب العباد".. وهنا موقع "أبو شريف" الإنسان المختلف عن كل ما سبق، وعن المظاهر المرتبطة برشى القيادات من مرافقين ونثريات وامتيازات وعنجهيات ترى في نفسها فوق شعبها الذي حملها أمانة أن تكون قيادة له، وليس عليه.
بداية معرفتي به، كانت في عام 1996 عندما عقد المجلس الوطني الفلسطيني، وكانت معرفة عابرة، بين وجوه كثيرة كانت حاضرة، ومن ثم كان التعارف الفعلي الأكبر في عام 1998، وكانت بداية الخروج من العلاقة الرسمية التقليدية إلى العلاقة التي تشعرك بالدفء والحميمية من الابتسامة والنكتة التي لا تفارق فمه.. إلى النقاش الممتع والمثمر، لكن المعرفة الأكثر عمقًا، كانت عندما بدأت عملي لمدة عام في الضفة الغربية من 1999 – 2000، وقبل أن أُفرز للعمل في مكتبه، كنت أتردد لزيارته، وكان من أول لقاء في مكتبه القائم في البيرة، قد أكد على سكرتيرته الخاصة، أن يُسمح لي بالدخول لمكتبه مباشرة إن لم يكن هناك ما يمنع ذلك، وهذا ما كان فعلًا، وكنت في كل مرة ألتقيه؛ يلتقيني بذات الابتسامة والبشاشة والنكتة التي تخرج مرتبطة بالموقف وموضوع النقاش.
بعد عودتي إلى غزة، استمرت العلاقة بذات الدفء والحميمية التي يبادرني بها، وبعد اعتقاله في عام 2002 بقي التواصل قائمًا - عبر الهاتف المُهرب - وأذكر أنه بعد إعادة الانتشار الإسرائيلي من غزة في عام 2005، وكان لا يزال معتقلًا، وفي أول اتصال بادرني وبطريقته المحببة لكلينا: "أهلًا بابن دولة غزة" التي فيها من الدلالات السياسية الاستشرافية لقائد سياسي مثقف بحجم "أبو شريف" ما يكفي، وهذا ما تأكد فعلًا في عام 2007 "عام نكبة الانقسام". وفي ذات المُعتقل الذي كان على الضفة الأخرى من "دولة غزة المنقسمة"، كانت معاناته تتفاقم، خاصة بعد الاعتداء الوحشي عليه، من قبل إدارة وحراس المعتقل الصهيوني، أثناء مواجهته لهم، وتعرضه للضرب المُبرح، وخاصة على رأسه وكسر فكه، ليبدأ "الخط البياني" لصحته بالتدهور المستمر، وصولًا إلى إجراء عملية جراحية له في الدماغ، بعد تحرره من الأسر، لكنها كانت مجرد إبطال لبعض المضاعفات، دون أن تنهي حالة التدهور الذي جعله طريحًا للفراش من سنوات عدة.
رفيقي وصديقي الكبير سنًا وقيمةً ومقامًا، دون تزلف أو مجاملة خادعة، وبكونه إنسانًا يرى ارتباطه بقضيته الوطنية من هذا المنظار الإنساني الذي جعله يجسد ذلك في علاقاته الشخصية والوطنية والقومية والأممية كذلك، فربما كان يُكثف في ممارسته، قول رفيقه الشهيد غسان كنفاني : "الإنسان في نهاية الأمر، قضية... أنا من شعب يشتعل حُبًّا، ويزهو بأوسمة الأقحوان وشقائق النعمان على صدره وحرفه، ولن أدع أحدًا يسلبني حقي في صدقي".. لهذا كان إنسانًا صادقًا وواضحًا وجريئًا ومختلفًا في حزبه، ولم يكن مخادعًا أو مراوغًا ولا متاجرًا ولا شلليًا أو تكتليًا أو زبائنيًا، وقد لا يكفي للتدليل على ذلك تنحيه طواعية عن تقلد أي موقع قيادي في الجبهة منذ عام 2013؛ فسيرته الرسمية المكتوبة لمن لا يعرفه قد تدلل على ذلك، ومن عايشه يعرف بكل تأكيد أكثر من ذلك، بما في ذلك المُخالف له في موقف أو رأي أو وجهة نظر وأنا واحد منهم.
رفيقي وصديقي "أبو شريف" الذي يكبرني بثلاثين عامًا، وفارقنا وهو ابن الثورة البِكر، عندما أوصى ابنه "شريف" عام 2013 أن يُدفن بجوار رفيقه الشهيد أبو علي مصطفى ، وإن كان هناك وفاء أكبر من ذلك، فهو أن يدفن رفاتهما في موطن رأسيهما: عرابة جنين، وأبو كشك يافا.. وهذا عهدنا وحسن العزاء فيكم: شهداء.