Menu

حكاية أقرت وبرعم في ليلة الميلاد: نموذج لصراع البقاء!

نواف الزرو

خاص بوابة الهدف

عمليًا، لم تتوقف سياسات التطهير العرقي الصهيونية أبدا منذ ما قبل النكبة عام 48، والتي بلغت ذروتها خلال النكبة بهدم المدن والبلدات والقرى والخرب الفلسطينية، أي هدم البنية المجتمعية والحضارية الفلسطينية، وتواصلت الى ما بعدها بسنوات قليلة، وفي السجل الفلسطيني هناك عشرات القرى الفلسطينية التي مسحها البلدوزر الصهيوني عن وجه الأرض بعد النكبة، غير أن لقريتي أقرت وبرعم في الجليل الغربي حكاية خاصة بهما، فقبل تسعة وستين عامًا، وفـي لـيـلـة الـمـيـلاد تحديدًا- 24/12/1951 - قامت قـوات الـجـيـش الصهيوني بهدم قـريـة إقـرث، ومسحتها عن وجه الأرض، ولم يبقَ منها سوى الـكـنـيـسـة والـمـقـبـرة الـشـاهـديـن الـوحـيـديـن عـلى الـجـريـمـة، والقرية التي تقع قرب الحدود مع لبنان، جميع سكانها من الكاثوليك، وقد احتل الجيش القرية إلى جانب مجموعة من القرى المجاورة لها، وبعد احتلالها بستة أيام، أصدر جيش الاحتلال أوامره لسكان القرية بمغادرة بيوتهم لأسبوعين، إلى أن تنتهي الأعمال العسكرية في المنطقة، وأبلغوهم صراحة أن يأخذوا معهم حاجاتهم الضرورية فقط، وقام الجيش الإسرائيلي بإغلاق بيوتهم، وخلال ثلاثة أيام، انتقل سكان القرية إلى قرية الرامة في وسط الجليل على الطريق الرئيسية عكا ـ صفد.

لكن، مر الأسبوعان دون أن يُسمح لسكان القرية بالعودة إليها، ورفضت سلطات الاحتلال جميع طلبات العودة، وقد استمرت المفاوضات أكثر من سنتين، من دون جدوى، إلى أن أدرك السكان أنه لن يسمح لهم بالعودة الى قريتهم، فقرروا التوجه إلى المحكمة العليا الاسرائيلية بشكوى ضد وزير الدفاع والحاكم العسكري، طالبين إعادتهم إلى بيوتهم، وفي 31 تموز 1951 أصدرت المحكمة قرارًا ينص على أنه" لا يوجد أي مانع قانوني لإعادة السكان إلى قريتهم"، وبعد صدور القرار طلب السكان من الحاكم العسكري إعادتهم إلى قريتهم، إلا أن الحاكم العسكري أحالهم إلى وزير الدفاع، الذي أحالهم بدوره إلى الحاكم العسكري، واستمرت هذه المماطلة إلى أن تسلم سكان القرية "أوامر بالخروج" من قريتهم، بحسب أنظمة مناطق الأمن، فتقدم السكان باستئناف إلى لجنة الاستئناف التي صادقت على أوامر الطرد، وبعد ذلك عاد سكان القرية وتوجهوا إلى المحكمة العليا مرة أخرى، وتقرر النظر في القضية في 6 شباط 1952، ولكن قبل هذا التاريخ بشهر ونصف الشهر، أي في 24 كانون الأول 1951، ليلة عيد الميلاد بالذات، نسفت قوات الجيش الإسرائيلي جميع بيوت القرية. وكما إقرت، كذلك قرية كفر برعم العربية المارونية التي واجهت المصير نفسه، فقد احتلت كفر برعم يوم احتلت إقرت، ونقل أهلها إلى قرية الجش، وقد توجه سكان هذه القرية أيضًا، بعد تردد، في سنة 1953 بشكوى إلى المحكمة العليا التي أصدرت أمرًا تمهيديًا يجبر السلطات على إبداء الأسباب التي تمنع سكان القرية من العودة إلى بيوتهم، ولكن ردة فعل السلطات كانت هذه المرة عصبية جدا، ففي استعراض للقوة، قامت قوات المشاة والقوات الجوية الإسرائيلية بمهاجمة القرية، في 16 أيلول 1953، وقصفتها بالقنابل من البر والجو حتى دمرتها تمامًا.

تلازمت حكاية قريتي اقرت وبرعم منذ ذلك الوقت، ويخوض أهالي القريتين كفاحًا عنيدًا من أجل العودة الى بيوتهم وممتلكاتهم، وقد أثيرت قضيتهما عدة مرات، وقام المواطنون العرب هناك بعدة مسيرات عودة إلى القريتين، وفي صيف 1972 وبتشجيع وتأييد من المطران يوسف ريا، وبعد أن رفض سكان القريتين الذين ذهبوا لترميم الكنائس هناك، مغادرتهما، تدخلت قوات الاحتلال مستخدمة القوة لطرد السكان مرة ثانية من القريتين، وقد اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى بحث المشكلة في إحدى جلساتها، لتعلن مجددًا معارضتها عودة السكان إلى القريتين، خوفًا من أن يعتبر مثل هذا العمل سابقة لعودة قرويين آخرين إلى قراهم، وفي أواخر سنة 1972، وبعد أن انتهى مفعول أنظمة مناطق الأمن، أعلنت السلطات الإسرائيلية القريتين منطقتين مغلقتين وفقًا لأنظمة الدفاع (الطوارئ) لسنة 1945، لمنع سكانهما من دخولهما دون تصريح، أو الإقامة هناك بصورة دائمة. وكما قريتي اقرت وبرعم، كذلك عشرات القرى الفلسطينية الأخرى التي احتلت وهدمت وشرد اهلها، غير أن حكاية اقرت وبرعم تبقى نموذجا لصراع البقاء هناك في فلسطين، فرغم مرور ثمانية وستين عامًا على تهديم القريتين، إلا أن أصحاب الحق والتاريخ يواصلون كفاحهم من أجل العودة إلى بيوتهم وكنائسهم، ولم يبقَ لنا سوى أن نشد على أيديهم، وكذلك على أيادي كل أهلنا المهجرين والمشردين من قراهم وبيوتهم من أجل مواصلة هذا الكفاح الملحمي، إلى حين يأتي يوم الحساب.