Menu

في تطويع الوعي.. من اعرف عدوك إلى لسنا نحن العدو!

مروان عبد العال

نُشر هذا المقال في العدد 21 من مجلة الهدف الإلكترونية

لم تولد الجبهة قبل 53 عاماً كردة فعل احتجاجية على الهزيمة، بل أعلنت عن ذاتها كتنظيم تفاعلي يؤمن  بالفكر الثوري والرؤية الواضحة للأمور؛ مترجمة ذلك ضمن استراتيجيتها – النظرية، والممارسة السياسية على سنوات عمرها النضالي؛ منطلقة من تعريف العدو والصديق؛ من هم قوى الثورة وأعداء الثورة؛ ربط بين الوطني والقومي والأممي؛ التكتيك والاستراتيجية، وأسس الوحدة الوطنية والجبهة الوطنية التحررية والتناقض الرئيسي مع الاحتلال... هذه عناصر القوة وشروط النصر... لمن أراد أن يكمل المسيرة ويحقق النصر... فكانت مقولة "معرفة العدو" تبدو بديهيةً وسهلة، إلّا أنها منهجية معرفية مرتبطة بوظيفة نضالية: واليوم أكثر من أي وقت مضى بات هجوم التطبيع مع "إسرائيل" الملف الأبرز عبر مواقع التواصل، منذ إعلان الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي وما تلاه وما قد يأتي، وخاصة بعد أن صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بوجود محادثات سرية مباشرة مع قادة عدد من الدول العربية لتطبيع العلاقات مع بلاده. لا تحتاج فلسفة التطبيع لدراسة نظرية التناقض في صميم جوهر الأشياء لفهم العلاقة بين ثنائيات متناقضة مثل الأنسنة والأبلسة؛ الملاك والشيطان؛ العدو والصديق، عبر ما ذهبت إليه بعض قوانين الديالكتيك من قانون وحدة وصراع الأضداد أو قانون نفي النفي أو في التعريف الأقرب للمنطق عن كيفية تحول التغيرات الكمية إلى كيفية، لتصبح الظاهرة الشاذة طبيعية، والطبيعية شاذة.

في خضم كسب معركة الميديالوجيا، نرصد تراكمات مكثّفة في إدارة الصراع بوسائل القوتين؛ الصلبة والناعمة وظّفت لها أسلحة حديثة وتقنية هي غالباً نتاج حسابات حروب الجيل الخامس وجيوش إلكترونية موجهة ومزيفة، وروجت لها بسرديات ورموز وأفلام وسينما ورياضة وفن ودراما ومسلسلات تلفزيونية وألعاب خفية؛ فـ"التلاعب بالرموز"، كما يصفها هربرت شيلر، "يمارس بمهارة فائقة، وبصورة مكثفة على أيدي خبراء متخصصين في صناعة الصورة من أجل خلق مناخ موات من الآراء"، وتسريب سياسة صادمة بأبعاد استراتيجية يقودها دعاة تطبيع من طراز "صهاينة العرب". ليأتي ظهور أمير الاستخبارات والصفقات والفساد بندر بن سلطان على قناة سعودية شبه رسمية ممثلاً لأكثر المواقف سفوراً وابتذالاً وخطورة، حيث أعاد إنتاج الرواية الإسرائيلية بأن "الفلسطينيين ينحازون دائماً إلى الطرف الخاسر كما انحازوا سابقاً إلى النازية"، جملة أطلقها أبا ايبان، وزير خارجية إسرائيل سابقاً، بأن "الفلسطينيون لم يتركوا فرصة للسلام إلا أضاعوها"، وتهمة رددها بنيامين نتنياهو بحق مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني بإبرام صفقات مع النازية ضد اليهود. هنا نحن لسنا بصدد فتح نار التاريخ على القيادات الفلسطينية، بل في خضم نفث نار الفتنة والسموم في حملات القذف والردح والإساءة وأبلسة فلسطين وشعبها ومركزية قضيتها في الوجدان والوعي والتاريخ العربي. ظاهر الأمر هو مكاشفة القيادات كـ "مدافعين فاشلين" عن القضية الفلسطينية، والتي "بذريعة خدمتها أُرتكب كثير من الشرور والآثام والغدر والخيانات للقريب والبعيد، وتحولت إلى صنبور للمكاسب الشخصية المستمرة للمتاجرين بها" والتضامن مع "الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره"، أما الحقيقة فهي ما حذر منه غسان كنفاني : "إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية.. فالأجدر بنا أن نغير المدافعين، لا أن نغير القضية"، أي ألا نسعى إلى تغيير القضية باستنبات حاشية مستثمرين بغية رفع الرواية الإسرائيلية إلى مستوى الحقيقة التاريخية في الخطاب العربي المتصهين الموبوء والكالح، بالتجرد من فلسطين، شعباً وأرضاً وقضية.

التطبيع هو محاولة لاختراق الوجدان وسلب الإرادة وتكييف الوعي وتفكيكه واحتلال العقل وإخضاعه في تقبل صهينة العرب بدل تعريب فلسطين، التي حتى اللحظة ما زالت تحتل الضمير الجمعي العربي كعقيدة مستقرة وقناعات سائدة في الوجدان والوعي الشعبي عن عدالة وصدق وحق روايتها. كان التمهيد بتمزيق النسيح الوطني ليسهل ادخال الهزيمة إلى روحها وهدر طاقاتها بحروب داخلية تشبه لعبة الروليت القاتلة، واستراتيجيات التدمير الذاتي للمجتمعات والدول والأوطان في اختراع صراعات جديدة ولامتناهية على مدى الإقليم. يتقدم خطاب الاحتلال بمقولات مباشرة أو إيحائية لتشويش الوعي عموماً، وصولاً إلى ما يحاكي غسل الأدمغة في بعض الحالات، مستفيداً من بشاعة وفظاعة ووحشية صورة القتل المعلن، مفادها "لسنا نحن العدو إذن"، مشيراً في هذا السياق إلى عدو مشترك. الخطير في ظهور بندر بن سلطان هو أن هذا الخطاب التطبيعي بات برنامج مشترك ضمن سياسة عربية وإسرائيلية تحض عليه وتباركه أطراف غربية ودولية. نحن الآن في مرحلة تصهيُن جزء من النظام الرسمي العربي، لا يخجل ملوكه من تقبيل حذاء سيده اليانكي أو مراقصة الغزاة بمتعة واستجابة واستسلام، وفي تغييب للعلاقات السوية الناضجة مع ضمير الأحرار من الناس، وفي جو من التناقض بين الحق والباطل؛ الخير والشر؛ يتقمص المهزوم روح غالبه بما يحاكي "متلازمة استوكهولم" التي تتعاطف بموجبها الضحية مع جلادها، لتصبح الصورة الأدق في متلازمة التطبيع نحو أنسنة المجرم وأبلسة الضحية.

قبل أكثر من ألفي عام، أطلق حكيم الحرب الصيني؛ صن تزو شعار "اعرف عدوك"، معتبراً هذه المعرفة فيصلاً وأداة استراتيجية لها دور ووظيفة في إدارة الصراع مع العدو، وبالتالي طالب بتفعيل هذه المعرفة ونشرها شعبياً وجعلها جزءاً من مكونات الثقافة العامة الوطنية. ومع أن مقولة "معرفة العدو" تبدو بديهيةً وسهلة، إلّا أنها منهجية معرفية مرتبطة بوظيفة نضالية: الهدف من معرفة العدو هو الانتصار عليه لا التودد له ومعرفة ما يريد العدو منا أن نكون عليه، هو تفكيك روايته ودحضها لا تبنيها والانتصار لها. لم يذكر صن تزو معرفة العدو إلّا في علاقة جدلية مع معرفة الذات على أرض رواية صلبة تستنبط عملية قراءة لعناصر قوة العدو ومواطن ضعفه في سبيل ردم الفجوة بين طرفي الصراع؛ عبر معرفة الذات واكتشاف ثغراتها واستثمار عناصر قوتها، أي الوعي بأسباب الفشل، وليس التسليم بها. بالنظر إلى طبيعة وأهداف المشروع الصهيوني الاستعماري، هذه المعرفة للذات والآخر، تتطلب صيانة وتمكين السردية الفلسطينية في أن الكيان الصهيوني عدو ومحتل لأرضٍ عربية، شُرد شعبها قسراً، ولا شرعية لهذا الكيان الاحلالي الاستعماري الذي يحتجز تطور وتقدم ونهوض الشعوب العربية كافة. وعليه، فإن إعلان الاتفاقات العربية مع العدو هو إعلان براءته الكاملة من دم الضحية، واعطائه مشروعية الوجود وكأنه لم يعد محتلاً؛ إنه طعنة في الخاصرة الفلسطينية، ولكنه في السياق السياسي المديد؛ يسعى للسيطرة على المنطقة.

المخجل حقاً هو أن معرفة "إسرائيل" أفضت إلى أنسنة العدو في خطاب محور التطبيع، وأنسنة العدو هنا ليست بمعناها الدرويشي، حيث يذكره بإنسانيته التي يكاد هو أن ينساها، كما في تذكير الجندي الإسرائيلي بالمحرقة التي ذهبت أمه في أتونها، أو في صورته المدمرة في مرآة الذات كمحتلاً وسارقاً؛ فاقداً للإحساس والإنسانية، بل صارت تعني أن المحتل ضحية وإنسان وكائن روحي من لحم ودم، يشعر بالألم ويتصرف بطريقة منطقية، وأنه تعرض للقمع وللإبادة لا في أوروبا، ولكن في خيبر ويثرب، وفي حارات دمشق وطرابلس الغرب و مصر وتونس وبغداد. وصار الفلسطيني الذي يقاوم المحتل؛ ابليساً وشيطاناً ومجرماً، ولا إنسانياً وجب خلع ثوب قداسة الشهادة عنه. وصار التمسك بروايتنا هو تقديس لتخلفنا وتكريس لنظريات المؤامرة وتبرير لهزائمنا وعجزنا وضعفنا وغباءنا. وكشف الرواية الصهيونية الزائفة، يعني مسبة ومذمة الآخر وداء عضال يكشف عن عقدنا النفسية وهزيمة عقلنا أمام قوة الآخر وتقدمه علينا. صارت المقاومة لزوم ما لا يلزم، والكلام عن استثمار عناصر القوة الذاتية ينتمي إلى مطحنة الكلام الفارغ. صار المحتل ملاكاً وصاحب الأرض والحق دخيلاً. وصارت فلسطين بنظرهم ليست قضيتهم فيما صارت "إسرائيل" مثالهم ورأسمال رمزي وصورة الذي يريدون أن يكونوه، حتى كبرت "إسرائيل" وتضخّمت في ذهن الاقزام. إن أنسنة العدو بصفتها تحويراً وكسراً للتاريخ والحقيقة هي شعار جذاب، وإن كانت تقنية فعالة في المشروع الصهيوني و"الاختراق النظيف" لثقافة ملونة تابعة، مسطحة ومعوّمة ومميّعة، لا روح فيها، ولا ميزة، ولا خاصية، ولا إبداع، ولا تخطيط وفق أهداف استراتيجية تتطلع إلى الاستقلالية والندية والتفوق والريادة والسيادة والتحرر. أفرطوا في الأنسنة، فأحدثوا خللاً في الوظيفة المطلوبة في سياق صراع الرواية، حتى ذهبوا نحو السفاهة في تطبيع العقول والمعرفة، والذي هو تطبيع علمي وثقافي وفني وديني أيضاً، يقوم على شراء الضمائر واحتلال العقول، ولن نستغرب منهم قريباً بث وتكريس الادعاء الصهيوني: أن فلسطين كانت خواءً وخرابًا، وأن المسجد الأقصى هو الهيكل اليهودي!

تحدث غوستاف لوبون عن "انحلال الشخصية الفردية في الجمهور والذوبان الكلي فيه" لنكون الآن أمام ظاهرة معاكسة؛ تفكيك الفكرة وتكسير الجمهور كشخصية جماعية، يصفها البعض بظاهرة التنويم المغناطيسي، في التعامل مع الوعي من خلال تسكينه أو تخديره بواسطة ومشكلة تعليم مشوه، وإعلام مشبوه، ومحاولات خبيثة ودنيئة لتشويه مبادئ وأساسيات جيل بأكمله، وتشرب غير مفلتر لمعتقدات وتفاسير غربية لحقوق الإنسان؛ مبنية على اعتبارنا غير جديرين بتلك الحقوق أصلاً. والمشكلة في ارتهان القرار السياسي وانعدام الإرادة السياسية الوطنية والسيادية، بفضل أسر حاكمة تتوارث المناصب، بلا بجدارة أو فهم أو اختيار شعبي وديمقراطي، وتكتسب شرعيتها من خلال قائمة الخدمات المطولة بيد المُستعمِر، من محاربة مصر الناصرية في الستينيات ثم كل مشروع استقلالي لاحق، وفي إنتاج اتفاقية كامب ديفيد، تحريضاً وتمويلاً، في تحويل الصراع  مرة نحو أفغانستان ضد الشيوعية العالمية، ومرة أخرى في تدمير بغداد واليمن و ليبيا ونصرة الإرهاب في سورية، وإقامة تحالفات إقليمية جديدة لمحاربة العدو الموهوم، بدل العدو الحقيقي.

في هذا الصراع المُركّب، لن يتمكنوا من أبلسة القوة الأخلاقية للشعب الفلسطيني، لأنها مستمدة من نبل القضية وتضحيات الشعب الفلسطيني وعدالة الحق والحرية والكرامة الإنسانية، ضد كيان غاصب؛ قائم على الاحتلال والعنف والقمع والسرقة والظلم، وسيروا أن الفلسطينيون أحياء يقاومون، ولن يعلنوا الهزيمة، وسيدركون أن الخضوع لسردية عنصرية مستلهمة من التعاليم اليهودية: "إذا جاء أحدهم لقتلك، انهض باكراً واقتله أولاً"، لن يجعل "إسرائيل" وقادتها تحترمهم أو تقدر مواقفهم، وهي التي جلبتهم إلى بيت الطاعة الصهيوني ملوحة لهم بـ "سيف داوود"، كما شدد نتنياهو: "أن السلام لا يتأتى إلا بحد السيف"، بما يعني على الأغيار أن يكونوا "دواب موسى" وخدماً "لشعب الله المختار"؛ يركبهم ليصل إلى هدفه الأخير؟! ولكن هل سيفهم أمراء الصفقات السوداء ومشايخ مدن الملح؛ درس نار الاشتباك التاريخي المجتمعي الفلسطيني كما صاغه غسان كنفاني؟

"إننا في حرب، وهي بالنسبة إلى الفلسطينيين على الأقل مسألة حياة أو موت، ولا بد من التزام جمهرة الشعب الفلسطيني الشروط التي تستوجبها حالة حرب من هذا الطراز".