Menu

قراءة في الواقع الفلسطيني: في ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

صلاح صلاح

نشر هذا المقال في العدد 21 من مجلة الهدف الرقمية

الوضع الفلسطيني يمر في أخطر أزمة طيلة مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية؛ أزمة تطال جميع مكونات المجتمع الفلسطيني؛ الفصائل الفلسطينية؛ الاتحادات النقابية والمهنية؛ المؤسسات والجمعيات، وحتى الإنسان الفلسطيني؛ الكل في ضياع؛ الكل مربك؛ الكل يبحث عن المخرج.

أزمة بدأت مع الجرثومة السرطانية بالرهان على الحل السياسي بالترويج للبرنامج المرحلي (النقاط العشرة) كمدخل لفهم الواقع والتعامل معه بموضوعية؛ تعزز هذا النهج "الواقعي" بعد زيارة السادات إلى القدس المحتلة وتوقيع اتفاق كامب ديفيد، لاحقاً، برعاية الولايات المتحدة الأميركية التي تملك 99% من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط (حسب قول السادات). على هذا دارت القيادة الفلسطينية الرسمية الظهر للأنظمة الوطنية التقدمية وراحت تتودد إلى الأنظمة الرجعية العربية التي توصلها إلى البيت الأبيض، وبدأت تتسرب الأخبار عن لقاءات سرية مع صهاينة، كممر إجباري للوصول إلى الإدارة الأميركية، وقبلت قيادة م.ت.ف الاشتراك في مؤتمر مدريد تحت العباءة الأردنية؛ استمرت المفاوضات بطرق متعرجة ومعقدة، سراً وعلناً إلى أن وصلت لاتفاق أوسلو المدمّر، أساس البلاء في أزمة العمل الوطني الفلسطيني.

قوى المعارضة، المتمسكة بالميثاق والثوابت الوطنية؛ اتبعت كل الأساليب والوسائل لردع القيادة المتنفذة ومنعها من الاستمرار في نهجها، فتشكلت جبهة الرفض، ثم جبهة الإنقاذ وبعدها التحالف الوطني والتحالف الديموقراطي وانعقاد مؤتمر وطني ضم مروحة واسعة من قطاعات الشعب الفلسطيني؛ كلها فشلت في لجم القيادة التي أطلق عليها أبشع النعوت (الانحراف، الخيانة، المنبوذة، المستسلمة).

لم تنجح محاولة احتواء هذه القيادة المتنفذة في المنظمة ضمن إطار الجبهة القومية للصمود والتصدي التي تشكلت من الدول العربية المعارضة للسادات ونهجه الإستسلامي، ولم يفد تدخل دول صديقة ذات شأن كالاتحاد السوفييتي وكوبا بتقديم النصح بعدم الرهان على أميركا، وتحذّر من الدخول في تسوية معها أو برعايتها وفي هذا يقول الرئيس الكوبي: فيديل كاسترو: أن أي تنازل يقدم للولايات المتحدة يغريها لطلب المزيد. لا شك أن هذا ينطبق على العدو الإسرائيلي أيضاً.

 بخطاب اليوم "هل يصلح الحداد ما أفسده الدهر؟" هل ستنجح المعارضة بتحقيق ما فشلت بتحقيقه قبل أوسلو وبعد أوسلو؟ هل تهرب العدو الإسرائيلي من تنفيذ اتفاقات أوسلو، وتملص الولايات المتحدة الأميركية من وعودها، وعدم جدية الأمم المتحدة بتنفيذ قراراتها (حل الدولتين، والانسحاب من الأراضي التي تحتلها لعدم جواز احتلال أرض الغير بالقوة إلخ..)؟ هل هذا سيسهل مهمة قوى المعارضة بإقناع الأطراف الأخرى بالعودة إلى حظيرة الوحدة الوطنية والتمسك بالثوابت الوطنية؟ لا أعتقد أن شيئاً من هذا سيحصل، للأسباب التالية:

أولاً: لا يوجد مرجعية واحدة، يمكن ضمنها إجراء الحوار والنقاش والاتفاق إلى موقف موحد؛ يوجد ثلاث مرجعيات موزعة على ثلاثة مواقع (رام الله، غزة، دمشق)، الجهة المقررة في هذه المرجعيات الثلاثة هي رام الله. لهذا فإن جميع الاتفاقات التي تمت بين هذه الأطراف لتحقيق الوحدة الوطنية كانت تُحال إلى رام الله وهناك توضع للحفظ في درج الرئاسة؛ الأمر نفسه سيستمر في ظل الواقع الحالي.

ثانياً: المراهنون على الحل السياسي، أصحاب اتفاقات أوسلو التي أوصلتهم إلى السلطة، ليسوا بوارد التخلي عن رهاناتهم؛ إما لأنهم لا يريدون، وإما لأنهم عاجزين، وإما حرصاً على مصالحهم وامتيازاتهم التي وفرتها لهم السلطة. الوحدة الوطنية بالنسبة لهؤلاء حاجة تكتيكية يستدعونها في فترة محددة ولظرف معين لاستعمالها ورقة ضغط، سرعان ما يتخلون عنها عندما تحقق غرضها لأصحاب القرار.

ثالثاً: إذا كنا بالسابق ندّعي أننا أصحاب القرار الفلسطيني المستقل، فإننا اليوم لا نستطيع أن نفعل ذلك. أوراقنا صارت مكشوفة. في غياب المرجعية الفلسطينية الموحدة، والقيادة الموثوقة، والفعل النضالي اليومي في مواجهة العدو، وعدم وجود الحاضنة العربية التقدمية، يجعل الوضع الفلسطيني عُرضة لكل التدخلات من كل الجهات العدوة قبل الصديقة، وكلها لا تريد للفلسطينيين أن يتوحدوا، بل يعملون على تكريس الانقسام وتعميقه؛ يحرضون القيادة الممسكة بالقرار الفلسطيني على بقائها في حضرة المقام الأوسلوى.

رابعاً: بنفس القدر من الحديث عن الوحدة الوطنية، كذلك يجري الحديث عن منظمة التحرير الفلسطينية وضرورة العمل على إعادة بناء مؤسساتها على أسس وطنية ديموقراطية، وكثيرون يعتبرون هذه المهمة لها الأولوية. لا شك أنها دعوة صادقة وتعكس شعوراً عالياً بالمسؤولية الوطنية، لكن هل يمكن تحقيق ذلك؟ مع الأخذ بالاعتبار الوقائع التالية:

•        الجهات الموقعة على أوسلو والداعمة لها والراعية لنهجها تعتبر أن منظمة التحرير الفلسطينية قد انتهى دورها مع التوقيع، وأصبح وجودها شكلياً، وقرارات هيئاتها (المجلس الوطني، المجلس المركزي، اللجنة التنفيذية) حبر على ورق، غير قابلة للتنفيذ؛ تُدعى إلى الاجتماع أيِّ من هذه الهيئات لتغطية موقف تتخذه الرئاسة.

•        السلطة برئيسها وحكومتها ومؤسساتها الإدارية وأجهزتها الأمنية هي صاحبة القرار وهي التي تسيّر الشؤون الفلسطينية.

•        التمثيل الفلسطيني في العالم لم يعد تحت يافطة "ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية"، بل "سفارة دولة فلسطين"، هذا يعني أن الشرعية الدولية انتقلت – بهدوء- من المنظمة إلى السلطة -"الدولة"!.

•        واهم من يعتقد أن إجراء انتخابات للمجلس الوطني قد تشكل مدخلاً للتصحيح في م.ت.ف؛ ذلك لأن القيادة المتنفذة لا تريد إجراء انتخابات للأسباب المذكورة أعلاه، ولأن الانتخابات تستوجب موافقة أطراف عديدة، خاصة إسرائيل و الأردن ولن توافقا، هذا إضافة للسبب الأهم هو أن الانتخابات حتى تعكس تمثيل الكل الفلسطيني والحفاظ على وحدته، يجب أن يشارك بها الشعب في مختلف مواقع وجوده (الضفة، غزة، القدس، م48، دول اللجوء، بلدان الهجرة)؛ هل هذا ممكن؟

النقاش ليس حول أهمية الوحدة الوطنية وضرورتها، وليس حول الحاجة الأكثر من ملحّة لإعادة الاعتبار إلى م.ت.ف وتنشيط دور مؤسساتها وإعادة تشكيلها على أسس ديموقراطية، وإجراء انتخابات شاملة على قاعدة التمثيل النسبي، المهم بل الأهم هل هذه قابلة للتطبيق؟ هل هناك أفق لتحقيقها؟ أم هي مجرد شعارات يجري تردادها وليس لها قيمة أكثر من التعبئة والتحريض؟ لهذا فإن قطاعات واسعة من شعبنا الفلسطيني خاصة الشباب لم يعط وزناً لسماع ما يطرح حول الوحدة الوطنية والانتخابات والمنظمة، لأنه يعرف أن لا قيمة عملية لها ولا تتعدى كونها تتردد كشعارات. وهذا ما يبرر إطلاق مبادرات- مبررة ومشروعة- هنا وهناك للبحث عن مخرج، وهي بقدر ما تعكس حالة الضياع وغياب المرجعية هي أيضاً تعكس حيوية الشعب الفلسطيني ورفضه الإستكانة للواقع المأزوم، وفي حين يُطلب من الفصائل الفلسطينية أن تتفهم الدوافع لهذه المبادرات وتشجعها وتحتضنها كذلك يُطلب من أصحاب المبادرات أن تكون وجهتهم التلاقي والتوحد، فإذا كان هناك مبرر لوجودهم المتناثر فلا يوجد مبرر لاستمرار التباعد؛ عليهم أن يحذروا من إضافة انقسام جديد للانقسامات القائمة.

 أتوجه بهذا العرض إلى الرفاق في الجبهة الشعبية التي تحتفل بذكرى انطلاقتها الثالثة والخمسين، وإلى جميع الفصائل الفلسطينية المعارضة لنهج التسوية الإستسلامية، لأقول لهم أنكم تتحملون مسؤولية أساسية للخروج من المأزق الخطير الذي تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية، ومسؤوليتكم تبدأ بالضبط من فهم الواقع والتعامل معه كما هو وليس بالتمنيات ورفع الشعارات.. ليس المطلوب منكم إقناع أعضائكم وجماهيركم بأهمية الوحدة الوطنية والمنظمة والانتخابات، بل المطلوب منكم وضع برنامج وخطط عمل لتحقيق الوحدة الوطنية، واسترجاع المنظمة، وآلية إجراء الانتخابات.

لا تراهنوا على السلطة ولا على تنظيمات السلطة في موقعيها (الضفة وغزة)، فكل منهما راضٍ بما يملك، وكل حريص على الحفاظ وحماية ما يملك.

المطلوب منكم وضع رؤية إستراتيجية للصراع مع الكيان الصهيوني؛ تشكل أرضية لوحدتكم أولاً، وأساس لكل القوى والفاعليات الشعبية المتمسكة بالثوابت الوطنية الفلسطينية ثانياً، لخلق تيار شعبي عريض يعطيكم القوة والقدرة لردع الانحراف.. فكروا واعملوا وخططوا لكسب شعبكم فهو رصيدكم وهو قوتكم.