Menu

عن فلسطين بين الديني والقومي

عبد الرحمن البيطار

في اليومية الثانية التي أكتبها في العام الجديد هذا ، وكنتُ في الأولى، قَدْتناولتُ فيها مُقابلة "أُووِنْ جونز" مع المُفكر الأمريكي الأُمَمَي " نعوم تشوسكي " والتي عَبَّرَ فيها عن رُؤيته للمَآلاتالتي يتوقعها لقضية فلسطين ، ومَصيرها ومصير الفلسطينيين ، واليهود الصهيونيين فيها، في ضوء قِراءته لواقعالاوضاع القائمة في الوقت الراهن في فلسطين ، والتطورات المتوقعة على المدى القريب ، وربما المتوسط ، فيها وفِياقليمنا ، وفِي الوِلايات المتحدة ، وباقي بلادِ العالَم .

وخلال هذا الأسبوع ، جاءني اتصال من الصّديق غازي الصوراني يُعَلّق فيه على اليومية ، ويقول لي انه ارسلها لبوابة"الهَدَف" ونشرت خلال الأسبوع الفائت، وقال لي ، انه يعتقد ان ما أُنادي به منذ سنتين حول ضَرورةمُراجعة استراتيجية النضال الوطني الفلسطيني ، واعادة صياغتها ، لا بل وبلورة استراتيجية جديدة ، هي في نظره قداصبحت الآن ضَرورة حياتية ، لا مفر منها ، وأن علينا ان نعرف على وجه التحديد أين اخطئنا واين أصبنا خلال المائةعام الماضية ، وكيف علينا ان نتحرك خلال المَرْحلة المقبلة.

كما وأنّي وخلال ذاتِ الاسبوع ، هناك من ارسل لي مقابلة مصورة مع الدكتور عبد اللطيف عربيات ؛ رئيس البرلمانالاردني السابق ، والإسلامي المَعروف يتحدث فيها عن " إسلامية " القَضية الفِلسطينية ، وان تحويلها لقضية " وطنية" فلسطينية منذ العام ١٩٦٤ ، أي منذ انعقاد المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول في القدس في ٢٨ ايار ١٩٦٤، وإعلانتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ، قَدْ حَجّمَ القَضية ، وأضعفها ، وربما كان ذلك ، في رأيه ، لأجل تصفيتها لصالحالمشروع الصهيوني.

كما وقرأتُ ايضا مقال الدكتور محمد علي الفرَّا الذي نَشَرَه يوم ٨ كانون الثاني ٢٠٢١ في " رأي اليوم " اللندنية ، تحتعنوان "كيف كان كيسنجر خلف قرار تمثيل المنظمة للفلسطينيين وما هي نصيحة الحسن الثاني التي قبلها السادات،والأخرى التي رفضها الملك حسين؟"، وفِيه ايضا ، تحدث الدكتور حول الطابع " القومي " العربي للقضية ، واناختزالها الى قضية " وطنية " فلسطينية هو مؤامرة عليها ، وأنَّ ما مَفاده ؛ حصر التمثيل بـ" مُنظمة التّحرير " ،استهدف أو أُستُغِلَّ لتصفية القضية ، وإنهائها لصالح المشروع الصّهيوني في فِلسطين .

ومع احترامي وتقديري لوجهات النظر المَذكورة ، الا أني أرى فيها تبسيطا مُفْرِطاً لا يُفيد القَضية ، لا بل ان التَّذَرُّع بها قديُوَفر لكثيرين منفذاً للتهرب من المسؤولية الوطنية والقومية والإنسانية ، وكذلك الدينية ( إسلاماً ومَسيحية ويَهوديةعلى قدم المساواة ) تِجاه هذه القضية ، الواضحة المعالم ، بأبعادها كلها : الوَطنية ، والقومية ، والانسانية ، والدينية .

في هذه اليَومِيّة ، سأتناول مسألة " تغييب " فِلسطين ، و الفلسطينيين ، وما جلبه ذلك من دمار ، وأضرار جَمّة ، علىالفلسطينيين العَرَب بكل عقائدهم ؛ مسلمين ومسيحيين ويهود ، وغيرهم ، وعلى الشُّعوب العربية في سورية وباقيبلدان الوطن العربي ، وعلى شعوب إقليمنا بمن فيهم إير ان و تركيا ، وعلى المجتمع الإنساني ، ومنهم كذلك يهودفلسطين ، ويهود العالم ايضا.

ولأنها يومية ؛ الإطالة فيها غَير مُستساغة ، فَسأُسَلِّط الضُّوء فيها على " "تغييب" فلسطين والفلسطينيين في أعوامالنّكبة ١٩٤٨ و ١٩٤٩ و ١٩٥٠ ، والاعوام الذي تلته وصولا للعام ١٩٦٤.

إن التأسيس للنكبة الفِلسطينية بدأ مع الإحتلال البريطاني لفلسطين وسُقوط القدس في كانون الأول من العام ١٩١٧في ايدي البريطانيين .

لقد امتدت عملية التأسيس للنكبة ما بين عامي ١٩١٨ وحتى أيار ١٩٤٨ ، وبدأت على نحوٍ رَسْمي بتفويض من عُصْبةالأُمم في تموز ١٩٢٢ ، وبموجب صَكّ إنتداب أَوْكلَتْ أحكامه لبريطانيا مُهِمّة تهيئة أحوال فلسطين لإقامة وطن قومي لـ" يهود أُوروبا والعالم " فيها ، وشَهِدَت أيضاً نَقْل فلسطين في العام ١٩٤٦ من عُهْدة " عُصْبة الأُمم" الى عُهْدِة " مُنظّمةالأُمم المتحدة" والتي أصدرت قرارها رقم ١٨١ في ٢٩ تشرين الثاني ١٩٤٧ بتقسيم فلسطين ، واقامة دولة يهودية ، ودولةعَرَبية فلسطينية فيها ، مع وَضع القدس تَحْتَ حُكْم دَولي، وشَهِدَت كذلك خِلالَ النِّصف الأول من عام ١٩٤٨ تنفيذ حَمْلةتطهير عِرْقي للفلسطينيين العَرَب وطَرْدهم من بلادِهم ، وهي الحَمْلة الأولى والأوسع التي تشهدها البشرية بعد انتهاءالحرب العالمية الثانية ، وقد تم تنفيذها على مرآى من الدولة المُنْتَدَبة على فلسطين ( بَريطانيا ) وقواتها فيها ، ومُنظمةالأُمم المتحدة ، ومَجلس الأمن الدّولي ، وعلى يد الصهاينة اليهود ، أعضاء منظمات الإرهاب الصهيوني، وللمُفارَقةوسُخرية الأقدار ، قام باقترافها المُضْهَدُون اليهود في اوروبا ، ممن عانوا من الإضطهاد العُنصري والعرقي في اوروباعبر القرون .

ان أهم ما في مَرْحلة التأسيس للنَّكبة من مظاهر يَتَمثل في استصدار قرار دولي من " عُصْبِة الأُمم " ، -وهي تمثل النظامالدولي الجديد الذي نشأ بعد الحرب العالمية الاولى ، وأنشأته الدول المنُتصرة في تلك الحرب - يُوكل لبريطانيا (بموجبصك انتداب صادر عن العُصْبة ) مُهِمّة تهيئة أحوال فِلسطين لإقامة وطن قومي ليهود العالَم فيها ، وتسهيل هِجرة يَهودهاليها ، والاعتراف لهذه الغاية من قِبَل العُصْبة بهيئة رسمية ممثلة ليهود العالَم ، هِيَ الوَكالة اليَهودية واقرار مَبدأالتنسيق معها لتحقيق المُهِمّة ، وقد اقتضى ذلك من الدولة المُنْتَدَبة على فِلسطين ، حِرمان سُكّان فِلسطين العَرَب ( مسلمينومسيحيين ويهود ) من حق تأسيس سُلطة تشريعية منتخبة ، اي من حق تقرير مصيرهم بأنفسهم ، لأن تأسيس مثلهذه السُّلطة ، كان سيُعرقل تَنفيذ المُهِمّة الموكولة لبريطانيا . لذلك ، فقد عارضت سُلطات الانتداب والحكومة البريطانية ،والوكالة اليَهودية في فِلسطين في الاعوام الاولى للانتداب تَشكيل مَجلس تشريعي منتخب في فِلسطين .

أمّا "التغييب" ، فقد تلازم مع مرحلة تكريس الكِيانيّة الصهيونية في فلسطين، والتي امتدت ما بين عامي ١٩٤٨ و ١٩٦٧،وهي ذات الفترة التي تم فيها تكريس " نَكْبِة " الفلسطينيين ، بتعطيل تنفيذ القرار الأُممي (١٩٤) القاضي بإعَادةالفلسطينيين الى مدنهم وبَلداتهم وقُراهم التي طُرِدوا منها في فِلسطين ، واعادة مُمتلكاتهم لهم ، وتكريس إدامة " مُخيمات / غيتوات اللجوء " للفلسطينيين المطرودين من بلادِهم في بلدان اللجوء العربية المحيطة بفلسطين ، وحشرهمفيها ومنعهم و/ او عدم تمكينهم من العَوْدة الى دِيارهم في فِلسطين ، بذريعة ان هذه هي مُهِمّة قومية ، ستتولاها الدولالعربية المُحيطة بفلسطين .

نعم، لقَد شَهِدت هذه المَرْحَلة ، التغييب التام للكِيانيّة الفلسطينية ، بتغييب فلسطين والفلسطينيين ، بقرارات وممارساتعربية ، من مَسْرَح الأحداث في فلسطين ذاتها ، وفِي بلدان المنطقة والإقليم ، وعلى الصعيد العالمي ، وذلِك للجزء الأكبرمن مُدّة هذه المرحلة ، أيٍ حتى ٢٨ أيار ١٩٦٤ ، وهو تاريخ إنعقاد " المؤتمر الفلسطيني الأول " في القدس بحضور (٤٢٢) عُضواً ، والذي تم فيه إشهار " مُنظّمة التحرير الفلسطينية، وإقرار الميثاق القومي الفلسطيني، والنظام الأساسيللمنظمة .

إن "تغييب" فلسطين والفلسطينيين ، أَخْذ مَظاهر مُتنوعة ، تَمَثّل أحدها في تَعطيل تنفيذ قرار التقسيم رقم (١٨١) ( علىجُوره ) ، الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ٢٩ تشرين الثاني من العام ١٩٤٧.

وتَكَرَّس هذا "التغييب" من خلال مَظْهرٍ آخر ، تمثل في تَعطيل تنفيذ قرارات مؤتمر غزة والذي انعقد في ١ تشرين أول١٩٤٨ - بعد أُسبوعين من قيام إرهابيين صهيونيين باغتيال الكونت فولك برنادوت ،في القُدْس في ١٧ ايلول من العام١٩٤٨، والذي تم تعيينه في ٢٢ أيار ١٩٤٨ بمنصب "الوسيط الأُممي"المُكَلَّف بالاستناد على القرار (١٨٦) للجمعيةالعامة للأُمم المتحدة المُتَّخذ في ١٤ ايار ١٩٤٨ بالاضطلاع بُمهمة التوسط للعَمل على ايجاد تسوية بين الأطراف المتنازعةفي فِلسطين- ، وكان مُؤتمر غزة الذي اعتَبَرَ نفسه مجلساً وطنياً فلسطينياً ، قد اعترف بحُكومة عُموم فِلسطين ، التيأعلنت "الهيئة العربية العليا في فِلسطين" تَشكيلها في فِلسطين في ٢٣ ايلول ١٩٤٨ ، وأعلن المُؤتمر إستقلال فلسطينعلى كامل حُدودها الإنتدابية ، وإقامة دولة حُرّة ديمقراطية ذات سيادة يتمتع فيها مواطنوها ( جميع مواطنيها) بحرياتهم وحقوقهم ، وأصدر دستوراً مؤقتاً لفلسطين، ودعا الدُّوَل العَرَبية ودوّل العالَم لمساندته بكافة أشكال المساندةلإقامة دَوْلة ديمقراطية حُرَّة في فِلسطين لجميع سُكّانها .

جاء التعطيل هذه المَرّة بانقسام الدُّوَل العربية ( الأعضاء في جامعة الدُّوَل العَرَبية ، وكان عددها سبعة ) بين مُؤَيِّدومُعارِض لمؤتمر غزة ، ولإعلان تشكيل حكومة عُموم فلسطين ، واستتبع الإنقسام العربي ، تقسيم الفلسطينين، عبررعاية عَقْد مؤتمرات مُوازية لمؤتمر غزة ، مِمّا أدى الى إضعاف مكانته ، وتقليص دوره ، ومن ثمَّ الى إماتته سريرياً ،.. وبالتالي ، فقد ساهم الإنقسام العربي ، وما استتبعه من تقسيم الفِلسطينيين ، في تعزيز "تغييب" فلسطينوالفلسطينيين من ساحات العمل الفلسطيني والعربي والدولي في العام ١٩٤٨ والمرحلة التي تلته ، وحتى انعقاد مؤتمرالقمة العربي الأول في القاهرة في كانون الثاني من العام ١٩٦٤، الذي أقر ضَرورة وقف "التغييب" العَرَبي الرَّسميلفلسطين والفلسطينيين ، والعمل على إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة إبراز فِلسطين والفلسطينيين وممثلهمعلى الصُّعُد الفلسطينية والعربية والاقليمية والدولية .

يُضاف الى ذلك ، الآداء السيء لجيوش الدُّوَل العربية -التي دخلت وِحدات مِنها الى فِلسطين في النِّصف الثاني من ايارمن العام ١٩٤٨ - وذلك في ساحات القتال ، او أغلبها. وفِي هذا ، يَتعين أن ننتبه ، الى أن توقيت (السّماح) بدُخول تِلكَالوحدات جاء فَقَط مربوطاً بانتهاء الإنتداب البريطاني في فِلسطين ، وانسحاب آخر جندي بريطاني مِنها في صبيحةيوم ١٥ ايار ١٩٤٨ ، بمَعنى أن بريطانيا التي كانت تُكَبِّل أربعة بلدان عربية ( من أصل السبعة الاعضاء في جامعة الدولالعربية ) بمُعاهدات وبمساعدات مالية هي مصر والعراق والأُردن والسعودية ، لَمْ تَسمح لقوات تلك البلدان بالدخولوالمشاركة الفعلية في القتال إلا بعد خروج قواتها المسلحة وسلطات انتدابها من فلسطين ، أي بعد ان كانت مُنظماتالإرهاب الصهيوني المُسلحة قد (نجحت) في تنفيذ الجزء الأكبر والأهم من حَملة التطهير العِرْقي للفلسطينيين ، وطَرْدهممن دِيارهم ، وتحويلهم الى لاجئين في البلدان المحيطة بفلسطين ، وبعد الإنتهاء من الإستيلاء على اهم المدن الساحليةفي قلب فلسطين ، وغيرها ، وهي الحَمْلة التي تَمَّت أمام مرآى قُوّات الانتداب البريطاني ، لا بل أنَّ عَرَباتها قَدْ شارَكَتْ فيتَفريغ ونقل فلسطينيين من بلداتهم ( طبريا ، صَفَد ، ..) وقُراهم ( بيسان ، ..) الى شرق الاردن . ويُضاف الى ذلك ، اندُخول تِلكَ القوات ( العَرَبية) كان مشروطا بأن لا تتعدى مسرح عملياتها الاراضي التي كانَتْ مخصصة للدولةالفلسطينية في قَرار التّقسيم، وهو أيضاً هدف لَمْ تنجح تِلكَ القوات بتحقيقه.

 

كما كان لقبول الدول العربية الإلتزام بأحكام الهُدنة الأولى في ١١ حِزيران ١٩٤٨ ، ثم فشلها في الدفاع عن المَناطق فيفِلسطين التي كانت في أيديها وذلِك خِلالَ العَشْرة أيام التي تلت إنتهاء العمل بهذه الهُدنة ، أي في ما بين ٩ تموز و ١٨تموز ١٩٤٨ ، والتي شَهِدت خِلالها سقوط مدينة النّاصرة ، وأجزاء من الجليل الغربي ، والجليل الأدنى ، ومدينتي اللدوالرملة ، وعدد كبير من قرى منطقة القدس ، بيد المنظمات الصهيونية المسلحة، والضغوط العسكرية التي مارَستها تلكالمُنظمات على عددٍ من وِحدات الجيشين المصري والسوري التي كانت قد دخلت أو

أراضي فِلسطين خلال هذه الفترة الوجيزة ، واضطرارها إثْرَ ذلك على الموافقة على الإلتزام بأحكام هُدنة ثانية إبتداءً من١٨ تموز ١٩٤٨ ، أقول ، لقد أدّى هذا الوضع، بالإضافة الى تحجيم دور كتائب الجهاد المقدس الفِلسطينية التي كانتعاملة في فِلسطين قبل دخول الجيوش العربية اليها ، اي قبل ١٥ ايار ١٩٤٨ ، وحرمانها من الإمدادات العسكرية ، وعدمالتنسيق معها ، الى إختزال دَورها ، من جهة وأيضا تهميش دور " الهيئة العربية العليا " بصفتها الهيئة السياسيةالمُعترف بِها من قبل جامعة الدول العربية ممثلا للفلسطينيين ( تم تشكيلها والاعتراف بها من قبل بلدان جامعة الدولالعربية السبعة في مؤتمر بلودان العَرَبي في ١١ حزيران ١٩٤٦) ، مما ساهم َفي ابراز دورٍ الكِيان الصَّهيوني الناشىء ،وممثليه ، سياسياً وعسكرياً داخِل فِلسطين وفِي ساحات العَمل الدّولي ، على حساب دورٍ فِلسطين والفلسطينيين المُهَمَّشعربياً .

ومِمّا يسترعي الإنتباه أيضاً ، وربما الإستنكار ، فهو يتعلق بالموقف الذي اتخذته البلدان العربية الأعضاء في الأُممالمتحدة في ذلك الوقت ( مِصر ، اليمن ، السعودية ، سورية ، لبنان ، العراق- الاردن لم تكن عضوا في ذلك الوقت ، وفازتبالعضوية في ١٥ كانون اول من العام ١٩٥٥ فقط- ) من مشروع القرار الذي أحالته اللجنة السياسية للأُمم المتحدة علىالجمعية العامة للأُمم المتحدة ، والذي انتهى في ١١ كانون أول ١٩٤٨ بالموافقة على ذلك المشروع والى إصدار قرارهابخصوصه تحت رقم 194(د-3)، وهو القرار الذي قضى بتشكيل لجنة توفيق، وتحديد القدس ووضعها تحت إشراف الأممالمتحدة، وأقر حق عودة اللاجئين الفلسطينيين ، والسماح بعودة اللاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم فيها والعيشبسلام مع جيرانهم، والتعويض على من لا يرغب في العودة ، أقول ، كان لغياب الاستراتيجية والرؤية الكُلّية والقصورفي استشراف مَجرى الأحداث والذي أفضى الى إعلان موقف عربي رَّسمي مُعارِض للقرار ، والتصويت ضده ، دورٌأساسيٌ في تعطيل العمل في وضع قَرار إعادة اللاجئين الفلسطينيين مَوْضِع التطبيق ، فقد عارَضَتْ الدول العربية السته( مصر ، سورية ، لبنان، العراق، السعودية ، ومصر ) بالاضافة الى دول اخرى مثل أفغانستان، بلوروسيا (روسياالبيضاء)، كوبا، تشيكوسلوفاكيا، باكستان، بولندا،أوكرانيا، الاتحاد السوفييتي، يوغسلافيا القَرار ، وبالرُّغم منمُعارضة هذه الدول (وعددها ١٥) ، وامتناع ثمانية دَولة عن التصويت بينها ايران والهند ، فَقَد أجازت الجمعية العامةهذا القرار باغلبية (٣٥) دَولة .

ومما يجدر ذكره أن هذا القرار الأُممي هو القَرار الاساس الذي يتمسك به الفلسطينيون وغيرهم بعد صُدوره ، رغممعارضتهم له ، في المطالبة في إلزام دَولة الكِيان الصَّهيوني ، بإعادة اللاجئين الفلسطينيين الى دِيارهم ، واعادةمُمتلكاتهم لهم ، وهذا المِثال الصارخ ، يفضح عجز و قصور و خواء الدبلوماسية العربية ، منذ تأسيس منظمة الاممالمتحدة ، وجامعة الدول العربية في العام ١٩٤٥. وهنا أيضا ، يَنبغي ان أَذكر ، بأنْ الانقسام العربي الذي طغى على السطح بعد انعقاد مؤتمر غزة في ١ تشرين اول ١٩٤٨ ، والانقسام الفلسطيني الذي تم رعايته من بعض الدول العربية ،قد ساهم مساهمة اساسية في "تغييب" فلسطين والفلسطينيين ، وفِي الموقف العربي المعارض للقرار الذي تم تبنيهفي اجتماعات الجمعية العامة المنعقدة في كانون اول من العام ١٩٤٨، اي بعد نحو شهرين ونصف من انعقاد مؤتمر غزّةفي مطلع تشرين اول من العام ١٩٤٨.

وأخيراً ، فقد كان للتّطورات المُشار اليها أعلاه والتي أفْضَتْ الى أن تقوم كل من مصر ولبنان والأُردن بالتوقيع على اتفاقات الهدنة في رودوس وذلِك في ٢٤ شباط ، و ٢٣ آذار و ٣ نيسان من العام ١٩٤٩ بالتوالي ، أقول ، أن كل ذلك ،مَصحوباً بالتغييب الرَّسمي العربي لفِلسطين ، والفلسطينيين ، خلال هذه الفترة ، ( أيٍ حتى ٣ نيسان ١٩٤٩) قد أدَّىالى توليد الفُرْصة المؤاتية أمام دَولة الكِيان الصهيوني لاستكمال شُروط طَلَبَ العُضوية في الأُمم المتحدة ، حيث اعتَبَرَتْدولة الكِيان أن توقيعها على اتفاقية الهُدنة مع مصر، يُلبي شَرْط العُضوية المُتعلق بأن تكون الدولة صاحبة الطّلب " دَولةمُحِبّة للسّلام " ،.. وبالتّالي ، فَقَد أهَّلَتْ إتفاقية الهُدنة مع مصر ، دَولة الكِيان الصَّهيوني ، إسرائيل ، لإعادة التقدم بطلبالعُضوية الى مجلس الامن في ٤ آذار ١٩٤٩، والى صُدور القَرار رقم (٦٩) عن المجلس ، الذي أحال فيه الطلب الىالجمعية العامة للأمم المتحدة لِلنَّظر فيه ، بعد إشعارها بقبوله الطّلب .

وفِي هذا الخصوص ، ينبغي أن ننتبه الى ان اتفاقيات الهدنة المَعقودة فيما بين دَولة الكِيان الصَّهيوني والدول العربيةالمحيطة بفلسطين ، قد ألزَمَتْ الدول العربية بوقف اطلاق النّار ، والحفاظ على السلام عَبَّر خُطوط الهُدنة ، ومنع انتهاكها، وبالتالي ، فقد نجحت دَولة الكِيان الصَّهيوني بتحويل الجيوش العربية الى حارس يَمنع كل لاجىء فلسطيني يَرغبأو يحاول العودة الى أرضه أو قريته أو مدينته ، من اجتياز تلك الخُطوط ، تَحْتَ طائلة إطلاق النّار عليه ،أو إعتقالهوتقديمه للمحاكمة ، هذا في الوقت الذي لم تكن تَتَوَفر فيه لدَولة الكِيان الصَّهيوني الناشىء خلال السنوات الاولى منانشاءها القُدْرة على السَّيطرة على الأراضي التي احتلتها ، وحِماية خُطوط الهُدنة مع البلدان العربية المُحيطة ، ويشهدعلى ذلك نجاح نحو خمسون الفاً من اللاجئين الفلسطينيين الى الدول العربية بإرادتهم ومبادرتهم الفردية المحفوفةبالمخاطرة، من اجتياز خطوط الهدنة بعد توقيع اتفاقيات الهُدنة ، والعودة الى دِيارهم وذلك على الرغم من القيود التيفرضتها تلك الاتفاقيات عليهم.

اما من التزم مِنَ اللاجئين باحترام اتفاقيات الهدنة ، فقد كان ذلك مبنياً طيلة فترة التّغييب ، أي حتى العام ١٩٦٤ ، علىالأمل الذي عقدوه على الدول العربية ، وعلى إعلاناتها ، وتصريحات المسؤولين فيها ، بأنها هي من سيُعيد لهم حُقوقهم، انطلاقا من اعتبارات الانتماء والالتزام القومي العربي ، أو من منطلقات دينية ..وأن المَسألة هِيَ في تَحَيُّن الوَقتالمُناسب لأجل تحقيق ذلك ، وبالتالي ، فما عليهم سِوى الإنتظار .

كما أن قِراءة خُلاصات لمحاضر اجتماعات جلسات الجمعية العامة التي انعقدت للنظر بطلب عُضوية اسرائيل فيالمنظمة الدولية والتي امتدت من بداية الاسبوع الرابع من نيسان وحتى ١١ ايار من العام ١٩٤٩ ، والتعرُّف على المواقفالتي عبرت عنها الدول التي شاركت في مناقشة طَلَبَ العُضوية ، ثمَّ التوضيحات التي قدمها ممثل دولة الكِيانالصَّهيوني في تلك الجلسات ، وبغياب التمثيل الفلسطيني ، لا بل وبغياب طَلَبَ فلسطيني أو عربي لقبول عضويةفلسطين في المنظمة الدولية ، مُوازٍ للطلب الذي تقدمت به دولة الكِيان ، يُشير بوُضوح الى حَجْم الفراغ ، و الخواء ،وقِصَر النّظر ، والتقصير ، (و... ) الدبلوماسي والسياسي العربي والفلسطيني ، والذي سمح للجمعية العامة لِلنَّظروقبول طّلب العُضوية الذي تقدمت به دولة الكِيان الصهيوني ، في ظل تغييب فلسطين والفلسطينيين من المشهد الدّولي.

وجدير بالذكر ان دولة الكيان الصهيوني قد تقدمت بطلب قبول عضويتها في الامم المتحدة ثلاثة مرات ، الاولى في ايلول٤٨ ، والثانية في كانون اول ٤٨ ، والثالثة في اذار ٤٩ ، وجميعها قُدِّمَت بالاستناد الى قرار التقسيم رقم ١٨١، والقاضيباقامة دولة يهودية على ٥٥٪؜ من مساحة فلسطين لسكانها العرب الفلسطينيين ( حوالي ٤٣٠ ألفا) واليهود ( حوالي ٤٨٥ألفا) ، واليهود المُهاجرين اليها ، ودولة فلسطينية على مساحة ٤٥٪؜ ، للعَرَب الفلسطينيين ، واليهود المقيمين فيها ( ١٢ألفاً). وبالتالي ، فإن الاعتراف بها من قبل المنظمة الدولية ، والدول الاعضاء فيها استند على مُعطيات قَرار التّقسيم رقم١٨١.

إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العصر الحديث التي أقيمت بقرار أُمَمي ، وفي رأيي انه لم يكن بوسع الجمعية العامةأن لا تقبل النّظر بطلب عُضوية دولة فلسطينية لو تم التّقدم بِهِ في ذلك الوقت بالاستناد الى قرار التقسيم نفسه ووفقاحكامه ، وما كان يمكن للجمعية العامة ان ترفض هذا الطلب . ولو تم ذلك ، لمّا كان بمقدور دَوْلة الكِيان الصّهيوني رفضتفعيل القرار ١٩٤ القاضي بعودة اللاجئين وإعادة مُمتلكاتهم لهم .

إن "التغييب" العربي لفِلسطين والفلسطينيين في ذلك الوَقت ، كان سببا جوهريا لإدامة النّكبة التي حَصَلَت ، طول هذاالوَقت ، والتي لا زلنا نُعاني من آثارها حتى الآن .

 

بعد صُدور القَرار ٢٧٣ عن الجمعية العامة للامم المتحدة وقبول عُضوية اسرائيل فيها ، ذَكَرَ القَرار بأن القبول يجيء علىقاعدة التزام اسرائيل بميثاق الامم الانتخاب وبقراراتها بما فيها القرارين ١٨١ و ١٩٤ .

لقد تَذَرَّعَت اسرائيل اثناء مناقشة طلب عضويتها في الامم المتحدة ، بأن تطبيقها للقرارين مَشْروط بأنْ تُقيم الدولالعربية التي أدخلت وِحدات من جيوشها الى فِلسطين في العام ١٩٤٨ ( اي لبنان، وسورية ، والاردن ، والعراق ، ومصر ) سلاماً مَعها وأن تعترف بوجودها وفق القرار الأُممي ١٨١ ، وتمسكت إسرائيل بهذه الذريعة ، لكسب الوقت حتى تتمكنمن التهام الاراضي التي احتلتها من فلسطين في ذلك الوقت ، وتكريس نَتائج حَملة التطهير العرقي في العام ١٩٤٨ بحَقالجزء الاكبر من الشعب العربي الفلسطيني،ولتوفير الشروط اللازمة لدولة الكيان الصَّهيوني كي تتمكن وتقوى ، اكثر واكثر .

وعليه، وبتوقيع اتفاقيات الهُدنة ، وقبول عُضوية اسرائيل في الامم المتحدة ، ووضع القرارين ١٨١ و ١٩٤ في ثلاجةالنّكبة ، وبتكريس "تغييب" فِلسطين والفلسطينيين ، وحشرهم في غيتوات أسموها "مُخيمات إعاشة وتشغيل" ( خارجفِلسطين ) ، يَكون قد أُسدل الستار في ايار ١٩٤٩ على مشهد فِلسطين والفلسطينيين ، وهي حال بَقِيَت مستمرة حتىالعام ١٩٦٤، وبقيت آثار " التّغييب" وغياب " استراتيجية " نضال وطني فلسطيني صحيحة قائِمة حتى تاريخه.

كان "تغييب" فلسطين والفلسطينيين شرطا لنجاح المشروع الصهيوني في فلسطين لتكريس نفسه على الارض ، وفِيالمَسرح الدّولي .

يبقى إنهاء "التّغييب" ، وامتلاك استراتيجية سليمة ، وتمكين الفلسطينيين من النضال من اجل إحقاق حُقوقهم علىارضهم ، هو المدخل لانهاء المشروع الصهيوني العُنصري في فلسطين ، واقامة الدولة الديمقراطية الحرة على كامل ارضفلسطين ، ولجميع مواطني فلسطين ، بمن فيهم اليهود اللاصهيونيين اللاعنصريين .