Menu

الديناميات السياسية في أمريكا اللاتينية ما بعد الحرب العالمية الثانية!

م. تيسير محيسن

(قراءة تحليلية)

(1 من 2)

إذا كان أدبها نعت بالواقعية السحرية أو "الغرائبية" فإنما ذلك انعكاس لواقع أمريكا اللاتينية الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديموغرافي الذي يتسم بالتنوع والتعقيد والعجائبية وانعدام اليقين وسرعة التقلب وشدة الاستقطاب.

استخدم مصطلح "أمريكا اللاتينية" لأول مرة عام 1856 من قبل التشيلي فرانسيسكو بيلباو (في الرد على محاولات نابليون الثالث إنشاء إمبراطورية فرنسية في الأمريكتين)؛ ولذا فللمصطلح "نشأة مناهضة للإمبريالية".

أمريكا اللاتينية هي تلك الأجزاء من الأمريكتين التي كانت جزءا من الإمبراطوريات الإسبانية والبرتغالية والفرنسية. تتكون من مناطق جغرافية فرعية هي أمريكا الشمالية وأمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي وأمريكا الجنوبية؛ وتحتوي الأخيرة على تقسيمات سياسية وجغرافية مثل المخروط الجنوبي وجويانا ودول الأنديز.

في عام 1804، أصبحت هايتي أول دولة تحصل على الاستقلال، لتلهم ثورتها حركات الاستقلال في المكسيك وفنزويلا والأرجنتين. وبحلول عام 1825، حصلت كل أمريكا الإسبانية، باستثناء بورتوريكو وكوبا، على استقلالها.

حذر الرئيس الأمريكي جيمس مونرو، في رسالته السنوية إلى الكونغرس 1823، الدول الأوروبية من أن بلده لن تتسامح مع أي استعمار جديد لدول أمريكا اللاتينية. تم وضع هذا المذهب حيز التنفيذ فقط في عام 1865، ومنذ ذلك التاريخ تنظر بعض دول أمريكا اللاتينية إلى التدخلات الأمريكية، بعين الشك والريبة.

أدى انتصار الثورة الكوبية عام 1959 إلى فرض حصار اقتصادي أمريكي استمر حتى 2015، بعد محاولة غزو فشلت بفضل الموقف السوفييتي. ولطالما اعتبرت الولايات المتحدة صعود الحكومات اليسارية في أمريكا الوسطى تهديدا؛ لذا اتخذت سياستها تجاه البلدان اليسارية (بنما، بوليفيا، تشيلي)، مسارين: اقتصادي، عبر عنه بالتحالف من أجل التقدم. سياسي، التدخل المباشر في شؤون القارة من خلال مبدأ "العصا الغليظة". لم تتردد الولايات المتحدة في تفعيل كل آليات السيطرة الممكنة؛ التدخل العسكري، الشركات متعددة الجنسية، تخريب CIA.

بالتزامن مع الزخم الذي أعطته الثورة الكوبية للحركات اليسارية، ألهمت الدعوة إلى التجديد أقلية مؤثرة من الكهنة والراهبات للبحث عن توليفة من الإيمان الديني والالتزام السياسي تحت راية لاهوت التحرير. انضم بعض الكهنة في الواقع إلى ميليشيات مسلحة، بينما عمل آخرون على "رفع وعي" رعاياهم فيما يتعلق بالظلم الاجتماعي. قوبل هذا النوع من النشاط برفض عام من حكومات أمريكا اللاتينية، وخاصة الأنظمة العسكرية، التي اضطهد بعضها بوحشية رجال الدين المتورطين. في أواخر القرن 20، كان التطور الديني الرئيسي هو التوسع السريع للبروتستانتية، وخاصة الكنائس الإنجيلية.

شهدت أمريكا اللاتينية ما بعد الحرب العالمية الثانية ظاهرتين: انخفاض حصتها من الإنتاج والتجارة العالميين وبالتالي تدني معدلات دخل الفرد، وفي ذات الوقت زيادة الوعي بسبب انتشار التعليم والاعلام الجماهيري مما غذى مصادر الإحباط والاستياء. في غضون ذلك ظهرت "نظرية التبعية"، وجوهرها التنويع الاقتصادي والتصنيع البديل للواردات (ISI)، ردا على شروط التجارة والاستثمار في العالم التي تم تكديسها لصالح الدول الصناعية في "المركز" مقابل الدول النامية في "المحيط". في الإجمال فشلت الاستراتيجية، وإن نجحت نسبيا في بعض البلدان فبفضل تدخل الدولة الريعية (ظلت تكاليف التصنيع عالية). ظهرت دعوات ترى أنه للحفاظ على النمو من الضروري التركيز على الصادرات أيضا وخاصة أن السوق العالمي كان يتطلب ذلك.

ترافق النمو الاقتصادي النسبي مع تحسن في السياسة الاجتماعية. تعتبر المرحلة الأولى في وضع سياسة اجتماعية وتطويرها تلك الممتدة منذ أزمة 1929 حتى مطلع ثمانينيات القرن 20. ارتبطت السياسة بنمط من التنمية على أساس التصنيع بقيادة الدولة. كان نطاق الحماية الاجتماعية محدودا، لم يصل إلا إلى العمال الرسميين وأسرهم. اتسم الضمان الاجتماعي بمستوى عال من التفرقة (التمييز) بين الفئات المهنية التي حصلت على مستويات متباينة من المزايا حسب نفوذها النسبي (الجيش والموظفين العموميين والمدرسين، ليمتد لاحقًا إلى الفئات الأخرى من العمال الرسميين). صنفت السياسة الاجتماعية طبقا لنطاق التغطية وجودة الخدمات إلى: سياسة شاملة كانت نتاج التنافس بين السياسيين لكسب الجماهير، حصرية مرتبطة بوجود نخب فاسدة، مزدوجة في سياق عملية بناء الدولة والمنافسة الديموقراطية الضعيفة (يعود الفضل إلى الحكومات اليسارية في وضع سياسات اجتماعية سخية ومنصفة وشاملة إلى حد كبير، خوان بيرون على سبيل المثال).

مع استنفاد نموذج ISI وصعود النيوليبرالية، بدأت دول المنطقة في إدخال إصلاحات واسعة، أرست أولوية السوق، واللامركزية كاستراتيجية إدارية وتخفيض الإنفاق الاجتماعي العام. شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين أزمة اقتصادية معممة في أمريكا اللاتينية، كانت حصة المنطقة من الصادرات العالمية حوالي 6%، أي أقل من نصف ما كانت عليه في عام 1950. شهدت معظم البلدان استئنافا للنمو الاقتصادي المتواضع بعد كارثة الثمانينيات، كان 9٪ من سكان القارة عاطلين عن العمل و43٪ تحت خط الفقر. تفاقمت أزمة الديون، توسعت الطبقات الوسطى، فشلت جهود الحد من انعدام المساواة باستثناء كوبا. تدنت معدلات الدخل، انخفض معدل النمو السكاني مع الهجرة الواسعة إلى الولايات المتحدة.

ساهمت أزمة نصف العقد الضائع (1998-2003) حول التمثيل السياسي، في حدوث "انعطافة نحو اليسار" بدأت بشافيز في فنزويلا ومن ثم موراليس في بوليفيا 2005، وأورتيغا في نيكاراغوا 2006، وكوريا في الإكوادور 2007. ثم اكتسب اليسار حلفاء جدد في هندوراس، باراغواي، البرازيل والأرجنتين. أطلقت توصيفات مختلفة على نتائج الانتصارات الانتخابية (يراها البعض تصويتا من أجل تغيير الحكومات وليس تفضيلا لبرامج اليسار)، "حكومات يسارية"، "اليسار الشعبوي"، "اشتراكية القرن الحادي والعشرين"، "التنمية الجديدة". وظهر نوعان من اليسار: عصري وإصلاحي في تشيلي وأوروغواي والبرازيل، قومي صارم في فنزويلا وبوليفيا والإكوادور.

يتسم السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي ظهرت فيه الحكومات اليسارية بثلاث سمات: الإفقار العميق للمجتمعات بسبب سياسات السوق، التعبئة السياسية المتزايدة لمختلف القطاعات والفاعلين الاجتماعيين (حركات اجتماعية)، أزمة التمثيل السياسي (فقدان الثقة غي الأحزاب والهيئات التمثيلية).

هذا وقد انطوى السياق كذلك على تحديين: استمرار ذات التحديات التي واجهت القارة منذ استقلالها عن إسبانيا قبل 200 عام، من حيث الاعتماد على العلاقات التجارية الهشة والمنتجات الأولية، واستمرارية العنف، وانعدام المساواة. الثاني تمثل في "الدولة" التي شكلت مصدرا للعنف وانعدام اليقين بدلاً من أن تصبح مصدرا للاستقرار والنظام. والآن فنتأمل في المشهد اليساري "المد الوردي" ما بعد 2000:

التخلي عن السياسات النيوليبرالية. عزز كل من شافيز وموراليس وكوريا الدولة واستخدامها لإعادة توزيع الثروة وتقليل الفقر وانعدام المساواة. جنت فنزويلا وبوليفيا والإكوادور فوائد ضخمة من طفرة السلع الأساسية في العقد الأول من القرن 21، التي أدت إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي، ما جعل الاستثمار العام والإنفاق الاجتماعي ممكنًا.

ظهرت النيوليبرالية في أمريكا اللاتينية كرد فعل على التضخم المفرط، من ناحية، والتشرذم الاجتماعي المتزايد، من ناحية أخرى. وبمجرد أن حققت أهدافها الاقتصادية المباشرة، أصبحت تناقضاتها الداخلية واضحة. كان هناك أيضا احتجاج مستمر من قبل الحركات الاجتماعية القديمة والجديدة على حد سواء. يمكن القول إن حقبة ما بعد الليبرالية الجديدة قد بدأت مع انهيار النموذج النيوليبرالي للأرجنتين في 2001-2002، مع الأزمة العالمية 2008-2009 تعزز انهيار النيوليبرالية ووضعت نهاية للعولمة المتوحشة.

لم يكن اليسار في الحكم قادراً على إدارة نجاحاته السياسية والاقتصادية. لقد وقع في كثير من الحالات في حكم الشخصية الكاريزمية بدلاً من بناء مؤسسات سياسية صلبة ومستدامة. سمح بانتشار الفساد. حقق اليسار تقدمًا في مستوى معيشة الطبقات الشعبية الفقيرة، لكنه غالبا ما أدى إلى ابعاد الطبقات الوسطى وتحييدها.

اتسم اليسار في أمريكا اللاتينية بالتنوع وعدم التجانس، غير إن ثمة مشتركات عامة تجعله مختلفا عن اليسار القديم أو التقليدي: التعامل مع الديموقراطية بوصفها نظاما سياسيا عبر الانتخابات، تبني منظور تنموي يستند إلى إجماع ما بعد واشنطن، حالة طوارئ مشحونة بمخلفات وميراث الزمن النيوليبرالي.

نجح اليسار في إعادة الاعتبار للسياسة بعد أن تعرضت إلى عملية نزع شرعية وتجريف في مرحلة الليبرالية الجديدة والديكتاتوريات العسكرية، وكذلك إعادة النظر في دور الدولة وطبيعتها، إذ لم تعد مجرد أداة للطبقة الحاكمة إنما ساحة للحوار، أداة للتنسيق الاجتماعي. كما حاول اليسار بناء كتل إقليمية من أجل كسر التكامل العالمي الذي روجت له الليبرالية الجديدة. لم يعد الشعار القديم "معاداة الإمبريالية" يُترجم إلى رفض قاطع للرأسمالية ومنطقها، بل إلى ضرورة تشكيل وإعادة تشكيل الكتل الإقليمية لتعزيز السيادة الوطنية لكل بلد في إطار النظام الرأسمالي

انتهج اليسار في الحكم مسارين، المسار الإصلاحي ومسار "إعادة التأسيس" الذي جمع بين ثلاث استراتيجيات: الوظيفة التحويلية للقيادة الكاريزمية، استمرار المنافسات الانتخابية لتعزيز مشاركة المواطنين التي تعزز الشرعية الحكومية، إعادة تشكيل (هيكلة) الدولة ومؤسساتها من خلال الاستبدالات الدستورية.

في الجزء الثاني سوف نعالج نهاية المد الوردي وصعود اليمين الشعبوي وأثر وباء كورونا على مستقبل القارة خلال الدورة الانتخابية التي يشهدها عام 2021!