Menu

عشرة أعوام على الانتفاضات العربية:أين نحن من شعاراتها؟! (حديثٌ عن التجربة المصرية)

أحمد بهاء شعبان

نُشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة الهدف الرقمية

في بدايات هذا العام، مرَّ على "الموجة الأولى" من الانتفاضات العربية (والتي شملت عدة دول عربية أبرزها مصر وتونس وسوريا وليبيا)، عقدٌ كاملٌ من السنين، وهي مدةٌ كافيةٌ لإجراء تقييمٍ واجب، ومُراجعةٍ لازمةٍ لما أحدثته من حِراك، وسبَّبته من وقائع، وهو أمرٌ حتمي لقوى الثورة والتغيير، المُطَالبة بإجراء مسحٍ دقيقٍ للوقائع والمسارات،لاستخلاص الدروس، واستيعاب العِبر، وخاصةً أن بعض ماتلاها من تطورات، وما انبنى عليها من نتائج كانت، في ظاهرها،سلبية إلى حدٍ واضح، وحتى كارثية في بعض تجلياتها، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، لأن الاحتقان المُتراكم في مُجتمعاتنا، والعائد إلى عُمق التناقضات الطبقية والسياسية والاجتماعية فيها، والذي لم يتم تفريغه إيجابياً، ولم تُحل معضلاته سلمياً، لا زال ضاغطاً بقوّة على الواقع، وبما يشى باحتمال حدوث انفجاراتٍ ذات أبعادٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ جديدة في المستقبل، ستكون مُرشَّحةً لتكرار الأخطاء ذاتها، أو أخرى شبيهة، وربما أفدح، مالم تتم هذه المُراجعة النقدية الواجبة، والبناء على ما تستخلصه من نتائج.

   ومن الضروري لفت الانتباه إلى أن حدث استشهاد "محمد بوعزيزي" في تونس لم يكن هو مُفجر الأحداث، وإنما مَثَّلَ الشرارة التي أضرمت النيران في أكداس الحطب الهشّة، والمُهيأة للاشتعال، بفعل أسبابٍ موضوعيةٍ مُتراكمة، في تونس ومصر، وفي غيرهما من البلدان العربية، لعل من أبرزها استطالة أمد نظم الاستبداد العشائري والتسلُّط السياسي، وعجز مؤسسات ما بعد "الاستقلال" الوطني وجمودها، وانتشار الفساد البنيوي في هياكلها ومُمارساتها، وانسداد أفق التغيير الديمقراطي،و"تأميم"حريات الرأي والتعبير، وركود الحياة الفكرية والثقافية، وهيمنة نُخبٍ محدودة، ذات بنى عشائرية وطائفية وعنصرية، مُحافظة، على مقاليد السلطة ومراكز صُنع القرار السياسي والاقتصادي، ما أدى إلي شيوع الفقر والفساد والتخلّف، واستفحال التبعية للغرب على كل الجبهات، والإحساس المُتزايد بالمهانة الوطنية والقومية، جرّاء غطرسة العدو الإمبريالي والصهيوني، والعجز العربي عن المواجهة.. إلخ إلخ!

وهي جميعها أسباب أضرَّت ضرراً بالغاً بقطاعاتٍ واسعةٍ من المجتمع، وبشرائح اجتماعيةٍ وطبقيةٍ مُتعددة، بعضها خرج إلى "الميادين" بسبب الحاجة الماسّة إلي "لقمة العيش"، ولكي يدرأَ عن نفسه وذويه بؤس المآل، والبعض الآخر، الأوفر حظاً من العلم والمعرفة، خرج بسبب حُكم الفرد، وتوارث "كرسي العرش"، وغياب الحريات، وطلباً للحقوق، ورفضاً للانتهاك المستمر لكرامة المواطن، والافتئات الدائم على حقوقه المُشرَّعة دولياً، وهو ما جسَّده بشكلٍ "رومانتيكي" بارز، مفهومُ الشعار الأشهر لهذه الانتفاضات: "عيش ـ حُريّة ـ عدالة اجتماعيةـ كرامة إنسانية"، على مافي مفاهيم: "الحرية"، و"العدالة الاجتماعية"، و"الكرامة" من هُلامية وعدم تحديد، ما سمح للقوى المُعادية، وحتى للجماعات العنصرية والمُتطرفة، والتي تنهض على التعصُّب والتمييز، برفع هذه الشعارات والمُتاجرة بها، بل وركوب الموجة في نهاية المطاف!

"الثورة".. لا تُصدَّر ولا تُستورد!

وما يجب أن نؤكده هنا، هو ضرورة عدم الانجرار وراء موجة التشويه المُمنهج للانتفاضات الشعبية، واتهامها بأنها من صنيعة أجهزة المخابرات الغربية والأمريكية (والصهيونية بالمرّة)، وامتداد لـ "الثورات الملونة" المُختلقة في شرق أوروبا، للتخلُّص من الإرث السوفييتي، التي اجتاحت العديد من دول "الكتلة الاشتراكية"، بعد انهيار "الاتحاد"، في أوائل تسعينيات القرن الماضي!.

   والأحرى أن جانباً ممن أطلق هذا الوصف، يسعي، مُتعمداً، إلي التشويش علي أسبابها الفعلية ودوافعها المنطقية، ويريد أن يسترَ حقيقةَ أن من صنع هذه "الانتفاضات"،هم ـ في الأساس ـ النُظم الحاكمة، باستبدادها واستغلالها، وأنانيتها وضيق أفقها،التي تجاهلت،بإصرارٍ، أنّات الملايين، واحتكرت السلطة والثروة، واحتقرت كل صيحات وإشارات الغضب والاحتجاج علي ممارساتها، لعقودٍ مُمتدة؛ وأدارت ظهرها لكل المؤشرات التي كانت تُنذر بانفجار بركان الغضب، دون أن تُعنى بالانتباه إلي حالة الاحتقان الكبيرة في المجتمع، أو تسعى لمواجهة مُسبباتها!

وهذه الأصوات تتجاهل، عن عمدٍ أيضاً، أن الثورات والانتفاضات والهبّات الشعبية لا يمكن تصديرها، أو استيرادها، مهما كانت الأسباب، وهي تتحرك بفعل مؤثراتٍ عضوية، وتفاعلاتٍبنيويةٍ تتصاعد في هيكلية المجتمع ذاته، وهذه التفاعلات وتلك المؤثرات، لا تنشأ بين عشية وضحاها، فهي تستغرق زمناً ـ حتى تنضج ـ ربما يُقاس بعشرات السنين، كما أنها لا تتحرك بتوجيهٍ من "قوى شريرة أجنبية مُتربصة" تُغدق عليها الأموال، وتحركها كما تُحرك عرائس "الماريونيت"كيفما تشاء! بل وفق قوانين علميةٍ تتحول خلالها المتغيراتُ الكميّة إلى متغير نوعي، على نحو ما رأينا!

تراكمٌ تاريخي!

   خذ عندك، على سبيل المثال، ما حدث في مصر، (وأنا هنا أتحدث عما أعرفه، وعايشته من قلب الأحداث، وعاصرتُ أغلب تفاصيله)، فما حدث في 25 يناير عام 2011، يعود في أصوله إلي نحو أربعين عاماً سابقة؛ فانتفاضات الشعب المصري واحتجاجاته، لم تتوقف منذ هزيمة يونيو 1967، حتى في ظل حكم الزعيم المحبوب "جمال عبد الناصر"، احتجاجاً على الأحكام المُخففة الصادرة بحق كبار قادة الجيش المسؤلين عن الهزيمة، ولأسبابٍ أخرى، في فبراير ونوفمبر 1968، ثم مع بداية عهد خلفه، "أنور السادات"، من خلال التحركات العُمالية في حلوان والمحلة وكفر الزيّات، وانتفاضات الحركة الطُلابية في أعوام 1972، 1973، التي قادتها "جماعة أنصار الثورة الفلسطينية"، (والاسم هنا له دلالة الارتباط بالموقف القومي، والعداء للصهيونية والإمبريالية)، للمُطالبة بالحرب لاسترداد الأرض المُحتلة من براثن العدو الصهيوني، ثم الانتفاضة الشعبية الكبرى، التي أسماها السادات، رُعباً وكراهيةً، "انتفاضة الحرامية"، حين خرج الملايين من الفقراء للاحتجاج على رفع أسعار مواد المعيشة الأساسية، في 18 و19 يناير 1977، وحملات اعتقال أكثر من 1500 منقيادات المجتمع (سياسية وثقافية وطلابية وعمالية)، التى انتهت باغتيال رئيس الدولة في 6 أكتوبر 1981، وبعدها مسار طويل من أشكال الاحتجاج والاصطدام بالسلطة، وأشكال التضامن مع الانتفاضتين الفلسطينيتين (ديسمبر 1987وسبتمبر 2000)، ومع شعب العراق: تحت الحصار، وأثناء، وبعد الغزو الأمريكي (2003).

ومع تأسيس حركة "كفاية"، (ديسمبر 2004)، انتقل العمل الاحتجاجي نقلةً شعبيةً ملحوظة،بالنزول إلى الشارع بكثافة تحت شعار: "لا للتمديد.. لا للتوريث"، رفضاً لاعتزام "مبارك" مد فترة حكمه التي طالت لثلاثة عقود، واعتراضاً على تسارع وتيرة الاستعداد، في أروقة السلطة، للتمهيد لنقل الحكم لنجله "جمال"، ولو خرج "حسني مبارك" إلى المواطنين، مُتعهداً باعتزال الحكم بعد انتهاء مدة ولايته، وبإيقاف عمليات التهيئة لتوريث "جمال" رئاسة الدولة، لتغير مجرى الأحداث مصر واتخذ مساراتٍ أخري، ويُذكر أن التحركات الاحتجاجية في المناطق العُمالية والقرى والأحياء الشعبية والجامعات والمعاهد العليا، بلغت في سنوات حكم "مبارك الأخيرة" أكثر من 3000 فعل احتجاجي موثق.

إذن، فأحداث 25 يناير 2011، كانت ذروةً طبيعيةً لتطوراتٍ وتراكماتٍ موضوعيةٍ ممتدة، ولم يكن للتوجيه الخارجي، والأمريكي الصهيوني تحديداً أدني أثر فيها، بل على العكس فقد صنَّفت مؤسسة "راند" الأمريكية، الوثيقة الصلة بالأوساط العسكرية الأمريكية، حركة "كفاية" في دراسة مُستفيضة، باعتبارها "حركة شوفينية قومية مُعادية للسامية!"، بسبب موقفها من التغول الأمريكي،والعدو الصهيوني، والتي كانت أحد عوامل الإطاحة بـ "الكنز الاستراتيجي لإسرائيل": "حسني مُبارك"، حسب وصف الأوساط الصهيونية له!

 

أخطاء ونتائج!

   بدأت الانتفاضات الشعبية، على نحو ماذكرنا، بفعل احتدام عوامل الصراع الطبقي والسياسي، الموضوعية في المجتمع، لكن استطالة أمد النظام، والحصار المُحكم الذي ضربته أجهزة الأمن، على مدى أكثر من نصف قرن، حول كافة أشكال التنظيم الجماهيري غير الخاضعة لهيمنتها، في المقام الأول: نقابات عُمالية ومهنية، اتحادات طُلابية، روابط فلاحية.. إلخ، والسيطرة على جميع المنافذ الإعلامية، وعلى وسائل النشر والتعبير، ناهيك عن تجريم النشاط الحزبي المُستقل، ومطاردة المُعارضين وتقديمهم لمحاكم أمن الدولة والمحاكم العسكرية، فضلاً عن قصورٍ ذاتيٍ في بنية القوى والاتجاهات المُعارضة، واليسارية أساساً، وأخطاء ارتُكبت، ذات أبعادٍ استراتيجيةٍ وأخرى تكتيكيةٍ وحركية، كل ذلك حال دون بناء أطرٍ نضاليةٍراسخة، وتنظيماتٍ ثوريةٍعميقةِ الجذور في الواقع المصري، وظلّت علاقتها بالجماهير ذات بُعدٍ سطحيٍ بلا جذور، وفي المقابل تحكمت "الدولة العميقة"، في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في المجتمع، ولم ينجُ من مخالبها شاردةٌ ولا واردة!

التحالف مع الأعداء!

   وزاد الطين بلة، أن هذه النُظم المُتهالكة، بعد رحيل الرئيس "عبد الناصر"، لم تجد أدني غضاضة في التحالف مع أعداء الأمس، وعلى رأسهم جماعة "الإخوان"، فأطلقت سلطة "السادات" جحافلهم من السجون والمعتقلات، ومنحتهم حرية الحركة التي حرمت منها الآخرين، واستخدمتهم في البطش بخصومها من اليساريين و"لابسي قميص عبد الناصر"! في الجامعة وخارجها، فنمت قدراتها الحركية، وسيطرت علي الاتحادات والنقابات، وحين انسحبت الدولة، في ظل انتهاجها لسياسة "الانفتاح الاقتصادي"، من دورها الاجتماعي، ومسئولياتها الأساسية تجاه مواطنيها، تقدّمت هذه الجماعاتُ لملءِ الفراغ، مشمولةً بدعمٍ ماديٍ هائلٍ من دول النفط (والمملكة السعودية أساساً) والجماعات الوهابية البدوية، وبتواطؤ جهاز الدولة وسلطة الحكم، فيما يشبه تقاسم الهيمنة على الدولة والمجتمع بينها وبين السلطة السياسية: للرئيس وجهازه إدارة الدولة، ولها التغلغل في شرايين المجتمع، والتحكُّم في ثقافته واقتصاده، على مرأى ومسمعٍ من الجميع!

   وهكذا فحين حدث الانفجار كانت هذه التيارات، وفي القلب منها جماعة "الإخوان"، وعن يمينها ويسارها ألوان الطيف من الاتجاهات المُتسترة بالدين، هي الأكثر جاهزيةً للقفز على السلطة، بمعاونةِ ومُباركةِ "الدولة العميقة" التي أشرنا إليها، والتي لم تجد أدنى غضاضة في أن تُسلم الدولة لهذه الجماعات، بعد أن كانت قد اختُرقت من الداخل، عدا القوات المسلحة!

"مُرسي": "لن نجري خلف الصبية"!

 لم تشارك جماعة "الإخوان" في أحداث 25 يناير 2011، إلَّا بعد أن تأكدت من تفكُّك جهاز الحُكم، وانهياره أمام هدير الملايين التي اجتاحت شوارع وميادين مصر، وقد التقيت مساء يوم 23 يناير، أي قبل تفجر الانتفاضة بساعات قليلة، الدكتور "محمد مرسي"، القطب الإخواني، ورئيس الدولة فيما بعد، وسألته سؤالاً مُباشراً، في حضرة مجموعةٍ من الأساتذة والسياسيين، ومن قيادات الجماعة، أغلبهم أحياء يُرزقون: "هناك دعوة من مجموعات من الشباب، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، تدعو إلى النزول إلى الشارع، يوم 25 القادم (بعد يومين)، (يوم عيد الشرطة)، للاحتجاج على قمعها للحركة الجماهيرية، وعلى مُمارساتها الخارجة عن القانون ضد المواطنين، فهل ستشاركون؟"، فكان رده حاسماً، وقد ذكرت هذه الواقعة مرَّات عديدة، وهو في موقع الرئيس، وتحديت أن يتمَ تكذيبُ هذه الواقعة، فلم يستطع أحدٌ أن يفعل ذلك، قال، رحمه الله: "نحن أكبر حركة سياسية في البلد، ومن يريد مشاركتنا عليه أولاً أن يأتينا، ونحن لن نجريَ وراء مجموعةٍ من الصبية"!

   وبعد تنحي مُبارك، نوقشت في الأروقة، ومع الولايات المتحدة، من يخلفه ونظامه، لقطع الطريق على تبلور ثورةٍ شعبيةٍ متكاملةِ الأركان، فكان "البديل" مُهيئاً ومقبولاً بعد أن تسلَّفت أجهزة الدولة إلا قليلاً، وعلاقة هذا البديل بالولايات المتحدة والغرب جاهزةً وقديمةً ومُعتمدة، وتم مع المجلس العسكري السابق إعداد العُدة، وقُدِّمت السُلطة على طبقٍ من ذهب لـ "الجماعة"، وهو حديث يطول،ولا يتسع المجال لإيراد تفاصيله!.

نهمٌ وغرور!

وقد تبدَّى نهم "الجماعة" للسلطة، وشراهتها للانفراد بالحكم، وخطورتها على الدولة والهوية الوطنية الموروثة للمجتمع منذ آلاف السنين، من اللحظة الأولى لاستلامها الحُكم، إذ تصرفت بتعالٍ وغرور، وتحركت طاعنةً كل "حلفائها" السابقين واللاحقين، وضاربةً عرض الحائط بكل الاتفاقات والمواثيق المُتفق عليها مع الفرقاء الآخرين من الأحزاب والحركات والقوى السياسية، وهو الوضع  الذي فصلها عن جميع القوى: يسارية وليبرالية وقومية، وجعلها تواجه ـ مُنفردةً وعزلاء من أي تعاطفٍ أو دعم، ملايين الناس الذين خرجوا عن بكرة أبيهم، يوم 30 يونيو 2013، يُطالبونها، كما طالبوا "مبارك" ونظامه من قبل بالرحيل، وتدخل الجيشُ لحسم الأمر، وعاد النظام القديم، بوجوهه أحياناً، وبسياساته دائماً، وفي هيئات أخرى، لالتقاط الثمرة التي نضجت وطاب مذاقها.

   وكما أخطأت "الجماعة" أخطاء جسيمة غداة جلست على دست الحكم في مصر، أخطأت أخطاء أكبر، غداة أُنزلت عنه، باللجوء إلى الإرهاب، وممارسة العنف الذي لم يطل القوات المسلحة وفرق الأمن وحسب، وإنما أيضاً دفع ثمنه المئاتُ من بسطاء الناس، من لقمة عيشهم، ومن دمهم وحياتهم، وأخطأت كذلك في الارتماء في أحضان أمريكا والغرب و تركيا وحلفائها، وباعت نفسها للشيطان، ففقدت كل تعاطفٍ معها من المجتمع!.

   وهذا الإرهاب البغيض، الذي تقف خلفه دولٌ مُعادية، وأجهزةُ استخبارات عدة، كلَّف المصريين، فضلاً عن ضحاياه من أبناء الشعب، والكلفة المادية الباهظة لمقاومته،ولو إلى أجلٍ مؤقت، فقدان كل أحلام التغيير والحرية والديمقراطية ومجتمع العدل والكرامة، التي نادت بها الانتفاضاتُ الشعبية، وخاصة تلك التي هزَّت أرجاء مصر، صبيحة 25 يناير 2011، تحت وطأة الشعار الشهير: "لا صوت يعلو على صوت المعركة"!

تنويعاتٌ على نظام "مُبارك"!

ويُجمل المفكرُ المصري الكبير الدكتور "سمير أمين"، صورة الوضع، في كتابه "ثورة مصر بعد 30 يونيو"، (صادر عام 2014)،فيقول: "دلَّت ممارسات الحكومات المُتعاقبة بعد (ثورة) 25 يناير وحتى الآن، وبالأخص حكومة الإخوان المسلمين ـ على تمسُّكها بالمبادئ الليبرالية المتطرفة، بل أبدت جميعها نيتها في الإسراع بتنفيذ برنامج "البنك الدولي"، ولهذا دلالته الهامة، ففي الحقيقة كل هذه الحكومات هي تنويعاتٌ مُختلفةٌ لنفس نظام "مُبارك"، فدولة ما بعد (الثورة) ظلت هي نفسالدولة الكمبرادورية التي تُعبر عن مصالح رأسمالية المحاسيب، والوعي الشعبي يُدرك ذلك، كما تشهد عليه الشعارات المكتوبة على جدران القاهرة والقائلة: "الثورة لم تُغير النظام ولكنها غيَّرت الشعب".

أكثرُ من انتفاضةٍ وأقلُ من ثورة!

وهذا التغيير الذي طال الشعب، لا يعني أن الناس؛ الجموع الغفيرة، الملايين الهادرة التي ملأت الميادين، واكتظت بها الشوارع في تلك الفترة، لم يتعلموا من تجربتهم المريرة شيئاً، على العكس، فقد علمتهم تجربةُ الثمانية عشر يوماً الخالدة في ميادين التحرير، بأكثر مما تعلموه في عقود، وربما قرون عديدة، وأنضجت وعيهم بأعظم قدرٍ من الخبرة المُكتسبة، والتي دفعوا ثمنها من لحمهم الحي، وعرفوا من خلالها: من العدو ومن الصديق!.

   ومن المُهم أيضاً أن تُدركَ الحركة الثورية المصرية دروسَ هذه الانتفاضة الكبيرة، حتى لا تُكرر أخطاءها، أو تعاود الدوران في الحلقة المفرغة!وأهم درسٍ فيها أن عملية التغيير الحقيقي، تحتاج إلىرؤيةٍ ثاقبة، وخبرةٍ عميقة، وقدرةٍ تنظيميةٍ عالية، وبرنامجٍ واضح، تؤمن به الجماهيرُ المُنظمة الواعية وهي تتحرك لتحقيقه على أرض الواقع.

إن ما حدث في مصرَ منذ سنواتٍ عشر، يوصِّفه الدكتور "سمير أمين"، بأنه: "أكثر من مجرد انتفاضة، أو فورة يعود بعدها المجتمع إلى ما كان عليه قبلها، أي أكثر من حركة احتجاج، لكنه أيضاً أقل من ثورة"، كتاب "ثورة مصر"، (2011)، إنها خطوةٌ على طريق تحقيق أماني الشعب المصري، لا كانت بداية الرحلة، ولم تكن نهاية المطاف، لكنها الخطوة الأهم في رحلة الألف ميل، يجب استيعاب دروسها، وإجادة الاستفادة منها، لمواجهة وعورة الطريق!