Menu

نحن اللاجئون من حيث المبدأ إلى حيث السياسة!

مروان عبد العال

نُشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة الهدف الإلكترونية

يقال أن شجرةً واحدةً لا يمكنها أن تصنعَ غابة، وفي الوقت الذي يرتفع فيه مؤشرُ الخطر على القضية الفلسطينية والحقوق الوطنية وحق العودة، ولأن المشروعَ الصهيونيَ يسعى ليلاً نهاراً لمحاربة الشعب الفلسطيني في كل موقعٍ وساحةٍ وميدانٍ ومستوى، مستنداً إلى خطوطه الحمر، لا عودة للاجئين ولا للدولة الفلسطينية المستقلة ولا للقدس عاصمتها ولا لحق تقرير المصير، فإن جوهر الرؤية المطلوبة هي التي تقوم على أساس بعث الوطنية وروح الوحدة لدى الشعب الفلسطيني، كما ووعي خصوصية الوجود الفلسطيني وفهم الشروط الموضوعية التي يعيش بين ظهرانيها في كل مكان.

ويلخص الوجودُ الفلسطيني في لبنان، واقعاً مختلفاً ونموذجاً مكثفاً لقضية اللاجئ، "اللاجئ"، كمفهوم وحسب حنة آرنت، يقع في مأزقٍ وجوديٍ مضاعف؛ فهو من ناحية، فاقدٌ لمقومات هويته الأصلية: الوطن، اللغة، الجماعة الأهلية؛ ومن ناحيةٍ أخرى، يتلقى معاملةً سيئةً في بلد اللجوء، ويفشل مراراً وتكراراً في الاندماج ضمن النسيج الاجتماعي للبلد المستقبِل، خاصةً ذلك الصنف منهم، الذي يُعزل عن المجتمع العادي، في مخيمات وملاجئ خاصة، حيث يتم إسقاطُ أبسط حقوق الإنسان عنه، ويجردُ من حقه في العيش بكرامة كإنسان.

خصوصية في الخصوصية

في نصها الشهير «نحن اللاجئون»، اعتبرت آرنت اللاجئين طليعة الأمة عن طريق التأسيس لوعيٍ تاريخيٍ جديدٍ حول مفاهيم الوطنية والأمة، والتفريق بين حقوق المواطنة وحقوق اللاجئ وحقوق الانسان، وكأن بها ترسم سياقاً تاريخياً لصورة اللاجئ الفلسطيني في لبنان، واستثنائية علاقته بالمكان، تتمظهر هذه الاستثنائية في الخصوصية التي تتمايز فيها العلاقةُ بالمكان على ما عداها في مكان آخر، بحيث يمتلك حالةً فريدةً تتشابك فيها عواملُ عدة يمكن وصفها أنها "خصوصية في الخصوصية"؛ إذ يختلف التجمع الفلسطيني في لبنان عن تجمعات الشعب الفلسطيني الأخرى، باعتباره الساحة التي احتضنت الظاهرة المسلحة، والمكان الذي استقرت فيه القيادةُ الرسميةُ للشعب الفلسطيني على مدار الفترة، منذ الخروج من الأردن سنة 1970، وحتى خروجها رسمياً من لبنان سنة 1982، وفي بلدٍ يمتلك خصوصيةً استثنائيةً لناحيةِ البنية الطائفية، والصيغة الذي تأسس عليها الكيان اللبناني.

 

اللامعيارية والقلق

احتضن اللاجئُ الفلسطينيُ في لبنان تجربةَ الثورة الفلسطينية المسلحة، وواجه حروباً ومجازرَ واعتداءات، ما كان له مترتباتٌ في الكلفة الاجتماعية الباهظة جدا،ً التي دفعها بالمقارنة مع أي تجمعٍ فلسطينيٍ آخر: عدد من المخيمات دمرت، ودفعت كلُ عائلةٍ تقريباً هذه الضريبة من حياة أبنائها دماً ونزفاً وتهجيراً.

 يفتقد الفلسطينيُ اللاجئُ في لبنان أدنى حقوق العيش الكريم، ما حوله إلى ضحية التطابق بين اللامعيارية والقلق السياسي، وتمايزه بصورةٍ شبحيةٍ متمثلةٍ في قوته المنفصلة عن فعالية قواعده، وتلك الصورة هي التي تعمل في حالة الاستثناء التي تحدث عنها جورجيو آغامبين.

 يوضح آغامبين أن اللاجئَ في نظام اليوم يمثل مصدراً للقلق والأزمة، بسبب فصل هوية الفرد بين الإنسان والمواطن، وبين الميلاد والجنسية.

 في معرض هذا، يتعامل القانونُ اللبنانيُ مع اللاجئين الفلسطينيّين بوصفهم أجانب، على الرغم من أن السوادَ الأعظم منهم من مواليد لبنان، إضافةً إلى كون وجودهم الإجمالي هو وجود قسري منذ أكثر من 70 عاماً، ما جعلهم في نطاق الوضع الملتبس الذي يَحْرم اللاجئين الفلسطينيين بشكلٍ استنسابيٍ من حقوقٍ يتمتّع بها الأجانبٌ بموجب القانون اللبنانيّ، مثل حقّ التملّك (قانون تملّك الأجانب الجديد رقم 296 سنة 2001).

 كما يجرّدهم القانونُ من الحقوق الأساسيّة المُعترف بها للاجئين في القانون الدولي كالحرمان من العمل، والتنقل وتأسيس جمعيات، فيما يعتبر التعليم والصحة والخدمات العامة من مسؤولية وكالة الغوث (الأونروا) وليس الدولة المضيفة، تغيير صفة اللاجئ وتغيير دلالة المخيم.

يصل عددُ المخيمات الفلسطينيّة في لبنان إلى 12 مخيّماً، 6 منها مقامة على أملاكٍ خاصة، وتشغل حوالي 550 ألف متر مربّع، أكبرها مخيم عين الحلوة الممتد على مساحة 300 ألف متر مربع.

 وفي تعداد شاركت في إنجازه سابقاً إدارةُ الإحصاء المركزي اللبناني، والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، وبإشراف لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، بيّنت الأرقامُ أن عددَ اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات والتجمعات السكانية بلغ 174422 فرداً، وأظهرت النتائجُ أيضا أن 45.1% من اللاجئين الفلسطينيين يعيشون في المخيمات مقارنةً مع 54.9% منهم يعيشون في التجمعات والمناطق المحاذية.

 وهناك مشكلةٌ استثنائيةٌ إضافية، تتعلق بمن لا يملكون أوراقاً ثبوتية، ويبلغ عددُهم اليوم حوالي 15 ألفاً، وهم غير مسجلين رسمياً ويفتقدون إلى الصفة القانونية.

لذلك تقرأ نتائج التعداد السكاني على غير مرادها، وبما يتناسب ونزوات السياسة، بما يسهم في زعزعة وتجزئة الوجود بين فلسطينيٍ لاجئٍ ونازح، مسجلٍ ومحصي، مقيمٍ وغير مقيم، أو أحياناً لاجئٍ وعديم الجنسية، أو فاقدٍ الأوراق الثبوتية أو يحمل جنسيةً أخرى.

 

اليوم، يعاني اللاجئُ الفلسطينيُ في لبنان، من قساوة الظروف الاقتصادية الاجتماعية، السابقة لجائحة كورونا، وحتى من الأزمة الاقتصادية الأخيرة، وانخفاض القيمة الشرائية لليرة اللبنانية

. وجه المعاناة يظهر أكثرَ وضوحاً في المخيمات الفلسطينية، كونها تعاني من كثافةٍ سكانيةٍ عاليةٍ، وضيق المساحة الجغرافية، وتفتقر إلى الخدماتِ الأساسية من مياهٍ وكهرباء وصرفٍ صحيّ، وعلى الرغم من الازدياد الطبيعي لسكان المخيمات، تضع السلطاتُ اللبنانيةُ قيوداً صارمةً على إدخال مواد البناء إلى المخيمات الفلسطينية، ولا تسمح إلا ضمن شروطٍ صارمةٍ وبكمياتٍ صغيرة، يؤدي بدوره إلى تفاقم الوضع الاجتماعي والاقتصادي.

 ويواجه اللاجئون الفلسطينيون مشكلةً خاصةً في لبنان، إذ يمنعهم وضعُهم القانوني من العمل في الوظائف ذات المهارات والمرتبطة بالنقابات، وتتطلّب هذه الوظائف الانتسابُ إلى المنظمات المهنية، ما يُحظّر على الأجانب، بالتالي، تجبر هذه الحالةُ القانونية الصعبة الفلسطينيين على القبول بأي وظيفةٍ متاحة، غالباً بدون أي حمايةٍ قانونية أو أمنية.

 نتيجةً لذلك، يفتقر اللاجئون الفلسطينيون إلى سبلِ الوصول إلى سوق العمل النظامية، ما يؤدي إلى حرمانهم من حقوق العمّال النظاميين، مثل منافع الصحة والتقاعد والمنافع الاجتماعية مع انسدادٍ إضافيٍ لفرص العمل نتيجة الإغلاق المستمر، وخاصةً بعد استمرار الالتزام بخطة التعبئة الحكومية الإجراءات الاحترازية بالحجر المنزلي وعدم التنقل والتباعد الاجتماعي.

إضافةً إلى الأزمة المتفاقمة المتعلقة بنقصٍ في الخدمات الأساسية، وارتفاع معدل الفقر إلى نسبةٍ زادت عن 73% من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ونقص فرص العمل الذي زاد نسبةَ البطالة إلى ما فوق 70% كما ذكرتها منظماتٌ حقوقيةٌ تعنى بالأوضاع المعيشية للاجئين الفلسطينيين في لبنان، المنهج السياسي المتبع هو الضغط الاقتصادي لتوليد حالةٍ إنسانيةٍ من أجل الاستثمار السياسي.

منطق الإحالة

كالعادة، يسود منطقُ "الإحالة"، حيث يتم تعليق الأزمات على شماعة، بهدف استثمار وتغذية الكراهية، وعليه تبدأ القولبةُ والتنميط، وتصنيعُ الصورة النمطية السلبيّة، بإلصاق وتعميم صفاتٍ سيئةٍ منفرة ٍسلبيّةٍ ضد الوجود الفلسطيني، كما شهدنا مؤخراً تصريحاتٍ عنصريةً لنوابٍ في البرلمان اللبناني، وإعلاميين عبر قنواتٍ تلفزيونية ووسائل التواصل، منها من يقدم خطاباً عنصرياً بقصد الإثارة وكسب التعاطف، عبر تهييج نزواتٍ سياسية وضغائنَ راكدةٍ في المستنقع اللبناني، مثل اقتراحات بعدم إعطاء التلقيح لمكافحة وباء كورونا لغير اللبنانيين!   لقد كانت الجائحة مناسبةً لنشر فيروسات العنصرية، ومنها الكاريكاتور الذي نشرته جريدة "الجمهورية" بمناسبة ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية، والذي شكل نموذجاً لهذا السلوك، بتشبيه الفلسطيني بفيروس كورونا! هذه الإسقاطات للأزمات على الغير، ما هي في الحقيقة إلا سقوط مريع في امتحان جهاز المناعة السلوكي، والذي ينم عن محاولةٍ لتبرئة الذات، وتعليق ذنوب الماضي على شماعة المجتمع الفلسطيني، من مدخل استدعاء عدوى الوباء، لنبش اللحظات المؤلمة والتجارب القاسية لتاريخ العلاقات اللبنانية/الفلسطينية.

كان ردُ الفعل الانعكاسي في الذهنية الفلسطينية طبيعياً على سلوك الإحالة الدائمة، بدل أن يكون الاعتراف بالمشكلة! يتم خداع الذات بالهروب من وجه الحقيقة، وبتعليق الأزمة على الحلقة الأضعف في المعادلة، حد إعادة انتاج ذاكرة وخطاب الحرب الاهلية.

 سمعنا أصواتاً مقيتةً تتباهى بمقاومةِ الوجود الفلسطيني، والفخر ببطولات إبادة مخيم تل الزعتر! ولم يعد خافياً أن القوى الانعزالية على الجانب الآخر من المتراس، تقف بالمرصاد لأي محاولات تحسينٍ لظروف الفلسطينيين في لبنان، باعتبارهم ضيف غير مرغوب فيه، وصولاً إلى درجة التباهي العلني بالعنصرية، لما خرج علينا من يطالب بـ "اتخاذ تدابير كاملةٍ في محيط مخيمات اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، ومنع الدخول إليها والخروج منها".

 هذا الخطاب استعاد شبحَ سبعةِ عقودٍ من التمييز والإقصاء والعزل والتهميش والمعاقبة، المبنية أساساً على صورة المخيم السلبية في الذهنية اللبنانية، والتي بدأت ببروباغاندا عنصريةٍ تلصق الصفاتِ السيئة المنفرة والسلبيّة باللاجئ، ولا تنتهي بالتحريض من عدوى الإرهاب والوباء والآفات الاجتماعية بهدف خلق جبهة كراهيةٍ له وخلق شعور بالدونيّة لديه.

ثلاثية القهر

 تتحكم ثلاثُ جهات فاعلة في تطبيق الحقوق للاجئين الفلسطينيين في لبنان، ويحكم أداءَ كلِ جهةٍ ومستواه طبيعة الأزمة التي يعيشها، ورؤيته لقضية اللاجئيين:

(أ‌) المستوى المحلي: الدولة المضيفة والتي تمثلها السياسة الرسمية اللبنانية المنوه عنها آنفاً، والتي لا تنقصها الأسباب للتضييق بمختلف السبل على الفلسطينيين لأسباب محض لبنانية، وتكتفي بتشكيل لجنةٍ للحوار اللبناني/الفلسطيني تابعةٍ لرئيس الحكومة، وظيفتها استشارية وليس تقريرية، وما توصي به من ملفاتٍ تظل رهن استنسابية الجهات النافذة، مثل الرؤية اللبنانية لتحسين حياة الفلسطينيين في لبنان، التي لازالت بالأدراج. وحتى التوصيات التي أُقرت يبقى تنفيذُها وفق مزاجية الوزير المعني.

(ب‌) المستوى الدولي: وتمثله وكالةُ غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، والتي تتوالى فصولُ تقليص خدماتها، كتمهيدٍ لتصفية قضية فلسطين من مدخل قضية اللاجئين، والتي تحمل أعباءً أخرى كترميم المخيمات وإعادة إعمار مخيم نهر البارد، وإعالة النازحين من مخيمات سوريا، وكل خطوةٍ مرتبطة بحجم التمويل ومصدره ووظيفته والذي يتحكم بذلك هو الأساس السياسي وليس المالي.

(ت‌) المستوى الوطني: وتمثله منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها القطاع الوطني العام، الذي كان لبنان مقرها الأول حتى العام 1982، والتي بدأ دورُها بالتراجع تدريجياً، إلى أن جاء توقيع اتفاق "أوسلو"، الذي شكّل منعطفاً نوعياً خطيراً جداً في تراجع مسؤوليتها عن اللاجئين، وخاصةً مع قيام السلطة الفلسطينية، التي تعتبر الخارجَ الفلسطينيَ عموماً خارج نطاق صلاحيتها، وخارج الجسم الاجتماعي والتشكيل السياسي والمشاركة في القرار والانتخاب.

هذا يجسد حالةَ التنصل المشترك الذي يتقاطع بشكلٍ أو بآخر على صعيد كل مستوى من المستويات المذكورة، وإن كان أحياناً يجري الحديث عن الشراكة في الحوار وإدارة الشأن الخدماتي الفلسطيني، إلا أن السياسات العملية تأخذ أبعاداً مختلفة ومتناقضة بإلقاء كل طرفٍ المسؤولية على الطرف الآخر، أدى إلى حالة القهر المثلث الاضلاع.

حياة عارية

تقزيمُ المشروع الوطني الفلسطيني، واختزالُ منظمة التحرير الفلسطينية من وطنٍ معنوي إلى إطارٍ شكلي، أدى إلى تعرية دور الشتات، وتحديداً اللاجئ في لبنان وأشعره باليُتم السياسي.

 يتصاعد هذا الشعورُ مع أزماتِ التركيبة الطائفية اللبنانية، وإمعانها في سياسات الإجحاف والتنصل من الالتزامات والواجبات الموضوعية للاجئين الفلسطينيين، حيث يتم الاكتفاء بتأكيد الموقف اللبناني من الوجود الفلسطيني، وتأييد القضية الفلسطينية بما ورد في اتفاق الطائف، "لا للتوطين" كمبدأ وليس كسياسة.

أدى هذا إلى تنامي الهاجس الوجودي الفلسطيني في لبنان، نتيجة سياسات التفكيك والفتن المذهبية التي تحيط بالبيئة السياسية في عموم البلد، وهي ناتجة عن وجود ذاكرةٍ فلسطينيةٍ سوداء، يعززها طريقةُ التعاطي الأمني مع المخيمات، ما ضاعف الإحساسَ بخطر استخدامه كبؤرةٍ أمنيةٍ، وتشويه وتغيير هويته ودلالته ورمزيته الوطنية، وشيطنة المخيم كمطالبٍ بالحق ومناضلٍ من أجله.

التسوية على الصعيد الفلسطيني، ستحمّل لبنان (كحلقةٍ ضعيفة) تصفية قضية اللاجئين على حسابه، وتنصل من أي التزامات بالحقوق المدنية، وتحميل مسؤولية بؤس المخيمات للأونروا والمجتمع الدولي والفصائل الفلسطينية جميعها ولأسبابٍ عديدة، وأمام هذا الهروب من تحمل المسؤولية كدولةٍ مضيفة، جعل الفلسطيني في ظل حياةٍ عارية.

طليعة الشعب

إن المدخلَ المؤقت لحماية الوجود الفلسطيني المؤقت في لبنان، يبدأ بمواجهة أشكال تهميش اللاجئ وتحويله إلى عنصرٍ سلبي.

علينا مواجهة السياسات المتبعة لتجويف المجتمع وتحويله إلى مجتمع إعالة، قابل للتسليع والاستخدام السياسي، واختراقه بأفكارٍ أو جمعياتٍ أو مجموعاتٍ ضارةٍ وخبيثةٍ ومدمرة.

 كل هذا من شأنه أن يغذيَ قيمَ التبعية والولاء والنزعة الفردية، ويؤدي إلى الإضرار بالبيئة الاجتماعية بآفاتٍ وأمراضٍ شتى، جميعها تؤسس بشكلٍ تلقائيٍ لذهنية الإعالة، وأقلها بجعل الشأنَ الفلسطيني هو قضية إنسانية وليست قضية وطنية، أي قضية إغاثية وليست قضية سياسية.

 علينا أن نعودَ لآرنت في اعتبار اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كطليعة الشعب، كونهم الشاهد على المأساة والنكبة وأصل الصراع وقضية العودة ومادة الثورة ومخيمها وقاعدتها ووقودها وشعلتها وهذا ينطلق من:

1. تحرير اللاجئين الفلسطينيين من عقدة الاستهداف من قبل سياسات الدولة العميقة في لبنان، من خلال إنهاء هذا السياسات التمييزية، وتبني سياساتٍ حاميةٍ للفلسطينيين وصديقةٍ لهم، وأن يمارسَ الكلُ الفلسطيني هذه السياسة كمصلحةٍ مشتركة.

2. تحرير الطاقات النضالية الفلسطينية، من عوامل الاقصاء والفئوية والانقسام والفصائلية والجهوية.

 هنا على الخطاب والممارسة السياسية، أن ترتقيَ إلى حقيقة أن شعبنا في لبنان في دائرة الخطر، ونحو التأكيد أن وظيفة أي قيادةٍ وطنيةٍ هي أن تضع نصب عينيها كيف تقود شعبها وليس فصيلها فقط.

 هذا لا يمكن إلا باستعادة دور المؤسسة الوطنية الفلسطينية الجامعة، التي تعيد مكانة الشتات الفلسطيني في القرار الوطني، وفي التمثيل المناسب في المجلس الوطني الفلسطيني، بما يليق بمكانتهم ودورهم وإعادة الاعتبار لهم، الذي يجب أن يصب حكماً في الاشتباك التاريخي المجتمعي الواسع الذي يمتد على مساحة الصراع، والمبني على التناقض الرئيسي مع العدو باتجاه تنفيذ حق العودة الى فلسطين.

3. صيغةٌ سياسيةٌ فلسطينيةٌ خاصة في لبنان يتم رعايتها من الكل الوطني كسياسةٍ فلسطينيةٍ عليا، من أجل "مجتمعٍ متضامنٍ متكافل"، للعناية بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بعيداً عن الاختلافات السياسية، ويتفرع عنه لجانٌ شعبيةٌ موحدة، تجمع المؤسسات في جميع المخيمات من ذوي الاختصاص، ورجالَ أعمالٍ لمتابعة التطورات وتقدير الاحتياجات اليومية لأبناء الشعب الفلسطيني.

هذه المداخل مهمةٌ في تحولٍ مبدئيٍ يصوغ اللاجئين الفلسطينيين على أنهم طليعة الشعب، وأن حق العودة ورفض التوطين والتهجير، ستظل مجرد مبدأ إن لم تصبح سياسةً وطنيةً عمليةً واستراتيجية، وليست مجرد ورقةٍ تكتيكيةٍ.

نحن اليوم أمام تحدي إعادة انتاج الأمل، وبعث الروح السياسية الإيجابية، في سبيل حفظ الوجود والروح والانتماء الوطني تحت شعار: "العدالة، والكرامة، والعودة".

 هذا يتطلب تكامل الكيان اللبناني والهوية الوطنية الفلسطينية، وتجميع القوى الاكثر جدية فلسطينياً، والتنسيق والحوار مع قوى سياسية ورسمية لبنانية تراعي اللغة السياسية؛ التوازن بين التركيبة السياسية في لبنان من جهة، ومن جهةٍ أخرى تفعيل المطالبة بالحقوق المدنية والاجتماعية، لتتضمن استراتيجيةً فلسطينيةً لبنانيةً في مواجهة خطر التوطين والتهجير.

 ما غير هذا، هو صمتٌ مريعٌ، وانكارٌ شنيعٌ يسعى لتأييد سياسات الضغط باتجاه التهجير، وما تتضمنه صفقة القرن والحلول الاستسلامية من استهدافٍ للاجئين وحق العودة.