Menu

طبيعة إسرائيل: النموذج الصهيوني للفاشية الحلقة (15)

أحمد مصطفى جابر

خاص بوابة الهدف

الفاشية: البنية النفسية

ذكرنا في جزء سابق من أن الفاشية تستند بالأساس إلى جملة من العناصر المختلفة؛ الأساس فيها هو نظام الأفكار الذي ينشأ عنه تقسيم العالم إلى مراتب متفاوتة، عبر سلسلة لا منتهية من الفروقات التي يجري البحث عنها وتصنيفها وتحويلها إلى قانون للاختلاف، والجرثومة الأصلية هي التفوق، الـ (أنا) المتميز في مواجهة العالم الأقل قيمة، وقد تحدثنا عن الفرق بين الفاشي والأصولي، ونكتفي هنا بإضافة أن الفاشي يتحول إلى شخصية أصولية عندما ينتقل مستوى الثبات على الفكرة إلى درجة أعلى، وعندما يكون الفاشي زعيما فانه يتحول بالتحليل الكلاسيكي إلى أصولي نتيجة لتدخل عوامل جديدة تتعلق بالسلطة والنفوذ والهيمنة.

وقد درست وصنفت العناصر المؤسسة لهذه البنية من وجهات نظر عدة في علم الاجتماع والنفس والسياسة..

 

أدورنو ورفاقه:

في تحليل صار يعتبر كلاسيكياً للفاشية وضع أدورنو الإيطالي مقياسه الشهير(1):

  1. اعتبر أدورنو أن موافقة الشخص على إجلال واحترام السلطة كفضيلة ذات أهمية خاصة، وضرورة أن يتعلمها الأطفال مؤشرًا أساسيًا على توجه فاشي لديه، فالسلطة غاية الفاشي ووسيلته للهيمنة والسيطرة، واحترامها بالتالي هو فضيلة مطلوبة وأساسية، وهنا تلعب التربية والتنشئة دورًا أساسيًا، وتصبح التربية على احترام الرموز والتقاليد، أي تربية الأيدلوجية وسيلة أساسية لتثبيت السلطة.
  2. تثبت أدورنو من امتلاك الفاشي إيمانًا عميقًا بالنظرة المهيمنة التي تحدد العادات والسلوكيات الحميدة، فعند الفاشي يكون كل تغريد خارج السرب أو كل معارضة للنظام موضوعًا لتربية ينتج عنها سلوك سيئ، وبالتالي يجب استثناءه أو إلغائه حيث (لا أمل فيه).
  3. ركيزة قدسية العمل، وفكرة الشعب العامل التي أسس لها النظام الفاشي في ألمانيا الهتلرية مع افتقار للفكر والعواطف والعلاقات الإنسانية.
  4. احتقر النظام الفاشي الناس العاديين واعتمد على نظام النخبة المالية في نزوع رأسمالي يحتقر الإنتاج ذو الطبيعة الإنسانية الأخلاقية، وانقسام عميق بين التكنولوجيا والتحديث التقني وبين الأخلاقيات اللازمة بالضرورة للتحكم في هذه الحداثة المتسارعة، وتكشف من جديد عن احتقار الفاشية للعلم الذي يتجاوز الأداتية البحتة.

[شرح1: يعتبر الباحث الاسرائيلي شلومو أفنيري أن الصهيونية من زاوية معينة تعد (الاجابة اليهودية للتحدي الذي فرضه التحديث) حيث أنها جاءت لتقوض الأسس الفكرية القائمة فيه (التحديث) وتلغي اسقاطاته الاجتماعية وتفرغه من محتوياته الفكرية الأخلاقية وتستغله أخيرا بوصفه أداة لتعزيز ولإرساء أهداف الصهيونية، فالتحديث في صيغته الصهيونية تحول إلى مجرد أداة مفرغ من محتوياته الأخلاقية، الثقافية المختلفة (نبيه بشير-عودة الى التاريخ المقدس: ص171)].

  1. لطالما احتقر الفاشيون العلم باعتباره منهجًا للفهم وأداة للإنسانية، وكانت النظرة للعلم استخدامية أداتية، وهكذا تمزج الفاشية بتلاعب خبيث بين العلم الأداتي والإيمانية اللاعقلانية العدمية.
  2. تتجسد في الفاشي لا عقلانية واضحة، تحيد العقل وسلطته القائمة على العلم والبحث لمصلحة الأسطورة والغيبيات العدمية.
  3. ترفض الفاشية التغيير وتلتزم بالنمط الثابت، حانة إلى التقاليد والأعراف والقوانين الثابتة.
  4. إن النظام المتزمت هو جوهر البنية الفاشية، التي ترفض الاعتراف بالإنسانية العادية، بل بالسوبرمان الذي لا يتعب ويقاتل حتى النهاية.
  5. الالتزام بقيم العائلة هو ركيزة أساسية للمجتمع الفاشي، رغم القيمة الايجابية لهذه السمة على وجه العموم، إلا أن اندراجها ضمن منظومة قيم أخرى تتعامل عضويًا مع المجتمع باعتباره كائنًا عضويًا موحدًا يجعلها تأخذ منحى آخر.
  6. تمجيد الألم، حيث استخدمت هذه القاعدة لتبرير أنماط التربية المتزمتة، ومعاقبة الناس وترهيبهم تحت راية الوصاية عليهم وحماية مصالحهم.
  7. تنبني الفاشية على التقاليدية النظامية الصارمة، وقيم العمل والقتال.
  8. (إهانة شرفنا يجب أن تعاقب بشدة) ولكن الفاشية لا تقول لنا ما هو الشرف، هل هو عدم السماح بالاعتداء على الآخر أم هو كبح جماح الرغبة التوسعية؟
  9. يوافق الفاشي عادة على عبارة (عقاب جرائم الجنس مثل الاغتصاب والتحرش بالأطفال أكثر من مجرد السجن، جرائم مماثلة يجب معاقبتها بالجلد أو أكثر) وكما غيرها قد تعد هذه العبارة متلائمة مع طريقة تفكير مواطن عادي من الطبقة الوسطى أو العامة المتشددون وراء القيم الدينية، ولكن الموافقة عليها يشكل قبولًا بتجاوز القانون ووضع قوانين لا قانونية إن صح التعبير.
  10. يربط الفكر الفاشي بين العائلة وفكرة الشعب والوطن بما يحيل إلى تقديس (أولي الأمر) إن صح التعبير دون نقد أو محاكمة.
  11. تحث الفاشية على التخلص من «البلهاء والفاسقين والغير شرفاء» كوسيلة لحل مشاكل المجتمع كلها، الذين هم بمفهومها، حيث لا تعترف إلا بذاتها، أولئك الأغيار الآخرون يضاف إليهم المواطنون المرضى بأمراض عقلية أو إعاقات جسدية تبعدهم عن الكمال وفكرة القوة المطلقة التي لا تعرف التعب.
  12. تركز الفاشية أحكامها بناء على نقاء الشعب (الفولك) وعفته، وصولًا به إلى الكمال، ولكن البحث عن الكمال وعن شعب كامل هو ضرب من المحال، وقد ثبت فشل كل مسعى إلى ذلك.
  13. ترفض الفاشية المحاكمة العقلانية للوقائع وهي تميل إلى الهروب إلى الأمام وتكميم المشاكل.
  14. هناك ميل أكيد إلى الانعزال والاختفاء، والبقاء وحيدًا، مما يحيل الإنسان إلى العزلة والتقفر ويبقيه وحيدًا باتجاه النظام الذي سيتحكم به ويضبطه.
  15. موافقة صارمة على تقسيم العالم، تعكس رغبة دفينة بالانحياز إلى إحدى الجهات، وكعادته، يعمم الفاشي المسائل ولا يتمعق في عواملها المختلفة، مفترضًا أن الضعف والقوة سمة طبيعية وليست موضوعية ذات أسباب مما يمهد لتصنيف آخر للعالم على أساس عرقي.
  16. تؤمن الفاشية بالقوى الخارقة واللاعقلانية وأن هناك قوة ما قادرة على التحكم بالناس. الهروب إلى الكوارثية سمة أساسية من سمات الفاشية التي تهرب من بحث الأسباب الحقيقية للكوارث والحروب والمشاكل الاجتماعية نحو حل علوي، أو خارج السيطرة البشرية، تجسيدا لفكرة (الحل النهائي).
  17. تحرص الفاشية على إطلاق نظام من الخوف والرعب والوشاية والدسيسة مما يخلق عددًا لا نهائيًا من الرقابات والتحذيرات التي تحيل إلى رغبة جارفة في الإنضواء في هذا النظام رغبة في التخلص من آثاره السلبية.

تلك كانت أهم عناصر الفاشية عند أدورنو وزملائه، وقد انطلقوا في بحثهم من فرضية مفادها؛ أن الاعتقادات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تشكل نمطًا واسعًا متماسكًا يعبر عن نزعات عميقة في الشخصية، وفسروا البناء الشخصي لأصحاب الشخصية التسلطية من خلال ضعف (الأنا) التي تتوق إلى بناء قيمي سليم، مما يدفع لتعويض ذلك بالبحث عن مصادر خارجية يستندون إليها في خلق بناء قيمي شكلي خاص بهم، وإن كان في حقيقة الأمر لا يعبر عن قدرة ذاتية حقيقية متميزة. وهكذا بإمكاننا تلخيص سمات الشخصية التسلطية عند أدورنو وزملائه: بالتقليدية والالتزام بقيم الطبقة الوسطى المحافظة والقبول غير النقدي بالسلطات ورفض ومعاقبة الخارجين على القيم التقليدية ومعارضة التفكير التأملي والتمسك بالمزاجية والنمطية وإسقاط الدوافع الانفعالية واللا شعورية على الخارج والافتتان بالقوة والتركيز المفرط على القضايا الجنسية (2).

وقد انتقد روكيتش الاستناد إلى هذا المقياس (أدورنو وزملائه) لقياس الفاشية؛ لأنه نشر أصلًا على أساس أنه مقياس للتسلطية، وقد اعتبر أن الانتقال من الفاشية إلى التسلطية يمثل انتقالًا من الخاص إلى العام، فالتسلطية عند ميلتون روكيتش أوسع من الفاشية التي يعتبرها (تسلطية يمينية)(3) وهو يرى أن مقياس الفاشية يقيس جانبًا واحدًا من جوانب التسلطية، مركزًا في تحليله على التصلب والجمود.

ويشير التصلب إلى عجز نسبي عن تغيير الشخص لسلوكه واتجاهاته عندما تتطلب الظروف الموضوعية ذلك والتمسك بطرائق غير ملائمة للسلوك والشعور، ويختلف هذا عن مفهوم (التمادي) الذي يشير إلى استمرار استجابة انتهت مسبباتها بالفعل، على حين أن التصلب يمثل مقاومة اللجوء إلى أنواع جديدة من الاستجابات التكيفية(4) . ويتصل مفهوم التصلب بمفاهيم أخرى أهمها (عدم تحمل الفوضى) الذي تحدث عنه فرانكل برونشفيك والمقصود به الرغبة بالتعامل مع كل شيء على أنه أبيض وأسود، وهكذا يقسم الفاشي العالم إلى أقسام، فهناك أنا والآخر، نحن والغوييم.

وبإشارته إلى مقاومة التغيير بالنسبة لمعتقد فردي أو مجموعة من المعتقدات أو العادات أو إلى وجود بعض الميول القهرية و الوسواسية النوعية داخل الفرد؛ فإن التصلب يرتبط بمفهوم الجمود أي «مقاومة التغيير بالنسبة للأنساق الكلية المعتقدات»، وإذا كان التصلب ينظر إليه على أنه خاصية افتراضية لمعتقد فردي؛ فالجمود خاصية للنسق الكلي للمعتقدات التي تعوق صاحبها عن إحداث تغيير(5)، فمرجع سلوك الذهن الجامد هو النسق الكلي للأفكار أكثر منه فكرة واحدة.

ويشير مفهوم الجمود عند روكفيتش إلى مجموعة من المظاهر السلوكية المعرفية المتعلقة بالأفكار والمعتقدات المنتظمة في نسق ذهني مغلق مسبقًا، فهو طريقة منغلقة على التفكير مرتبطة بأيدلوجية بصرف النظر عن مضمونها، وبنظرة تسلطية في الحياة وعدم احتمال الأشخاص الذين يختلفون ويعارضون المعتقدات الخاصة بأصحابها.

يرتبط الجمود بنظرة الفاشي إلى ثبات العالم؛ فالعالم كله كما يعرفه الفاشي كيان ثابت معطى مسبق، وهو على صورته (للمصادفة) يتعين عليه مجرد التكيف معه، وأي خروج عن هذه القاعدة تحيل الفاشي إلى الاضطراب والبحث عن موازنة فورية وإعادة تقويم لاستعادة المنظور الملائم والمألوف، وهكذا بعد استخدام كل الحيل تلجأ الفاشية إلى العنف المتسم إرهابا.

ونظرة الفاشي إلى ثبات العالم تنعكس في الصورة المنمذجة التي يقدمها عن الآخر، فالعرب والمسلمون في نظره، متخلفون، بدو مغامرون، محبون للجنس بشكل مثير للاشمئزاز، كسالى وخاملون، وشرقيون عموماً، والفلسطينيون في الذهنية الصهيونية إن لم يكونوا ديداناً أو صراصير حسب الحاخام عوفاديا يوسف، فهم إرهابيون، قتلة، مخبولون، أفاع وكلاب، معادون للسلام.

واستكمالا لنظرة أشمل يركز روكيتش على (المجاراة) (conformity) أي أشكال السلوك والاتجاهات التي تنتظم من خلال المعايير والأدوار المفروضة على الأفراد والتي تؤدي بهم إلى الاتفاق مع الجماعة التي ينتمون إليها، أو هي من جهة أخرى انصياع الفرد لضغوط الجماعة بصرف النظر عن وجود أي مطلب مباشر يفرض عليه أن يستجيب بصورة محددة. وترتبط المجاراة بالإذعان الذي يشير إلى الأفعال الخارجية دون اعتبار للمعتقدات الخاصة بصاحب الاستجابة، إنه السلوك الصريح الذي يقترب بدرجة كبيرة من السلوك الذي ترغب الجماعة أن يسلكه أعضاؤها؛ فالشخص يستجيب كما تريد منه الجماعة أو طبقًا لتوقعاتها، وهو لا يعتقد فيما يفعله بصورة واقعية، فهو يساير الجماعة دون اتفاق (بينه وبين نفسه) خاصة معها(6).

ويحلل سيزر وزملائه مفهوم المجاراة إلى عاملين اثنين الأول، إن سلوك الآخرين يقدم لنا معلومات مفيدة، وذلك على أساس الحاجة الدائمة للحصول على معلومات مرتبة، والثاني: حتى يحظى سلوكنا بالقبول الاجتماعي وتجنب الرفض (الاستنكار) وبالتالي الطرد مع الجماعة.

يحيل هذا المنطق إلى نقص في المرونة الفكرية كما أشرنا، يرتكز على ثوابت ومسلمات لا تقبل النقاش لأنها محاطة بدلالات وجدانية وشحنات لا شعورية تجعل كل نقاش مهدد لثبات الحياة ومعناها. وهكذا فالسلطوي برأي داكو(7) إذا بدا بتصلبه إرادويا إلى الحد الأقصى، فذلك لأنه تحديدًا بلا إرادة يركب رأسه لأتفه الأسباب، وعلة ذلك أن أية معارضة تضعه أمام هاوية اللايقين والضعف خاصته، ويستطرد داكو «اذا كان العناد إرادة فالبغال جد إراديين»، هذا العناد يجد نفسه في العجز عن سلوك الالتفاف، كشرط أساسي من شروط الإنسان المتكيف وبسبب عجزه هذا باعتباره كائنا (متمردا) غير متكيف، يخلق الفاشي بيئة خاصة صالحة له.

ترتبط هذه الصفة بسلوك الاستبرار الذي يتبعه الفاشي، وهي عملية نفسية علائقية تهدف إلى تبرير العدوان على الغير من خلال تأثيره، كما يحدث، رد فعل براءة للذات، وعندما تضطرب شخصية الفاشي وتتبدد سكينته لأسباب موضوعية أو ذاتية، فإن السلوك المتوقع هو كما سبق وأشرنا البحث بكل الوسائل عن إعادة النظام للعالم الذي ينهار من حوله واستعادة السكينة والأمن الداخلي، فيبحث عن آخرين مطابقين له، يجدهم في عشيرته أو حزبه أو شيعته، ويشكل هؤلاء الآخرون صورة تكاد تكون امتدادًا بيولوجيا للأم الحامية، ويلعبون دور (الحضن الطيب) حسب تعبير ميلاني كلين(8).

ويمثل الآخرون مجموعة يحاول عبرها الفرد إعادة بناء (نحن جماعية) يستعيد بها وهميًا محاولة الانصهار من جديد في جسد الأم، هنا يسود التماثل ويطغى نقاء المجموعة، ويتجسد النظام الطبيعي، ونلاحظ من جديد أن المجموعة التي تضيق بأي نقد تشعر أنها مهددة نرجسيًا عندما يخاطر أحد بمناقشة قناعاتها أو بإبراز نقاط ضعفها. قد يكون مفيدًا أن نلفت إلى أن من يقرأ تحليل لوكاتش المذهل للآثار السيكولوجية للمعاناة الألمانية أثر هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى يلحظ بين السطور تاريخ الولايات المتحدة بعد 11 أيلول، لقد أنتجت هزيمة الحرب الأولى هتلر وحزبه النازي، موسوليني وحزبه الفاشي وتحولت الأنا المضطربة الألمانية والإيطالية إلى نظام فاشي والمؤشرات جميعها تحيل إلى هذه الأنا المضطربة نفسها المسيطرة على المجتمع الأمريكي بعد 11 أيلول فيصبح التحرش بالفاشية أشبه بإيقاظ وحش نائم وربما تكون الحسنة الوحيدة (بتحفظ) التي تنتج عن هذا التحرش، عن مهاجمة العالم المنظم للفاشية هي أنه في لحظة البحث عن الانتظام وإعادة الضبط لنظامه وسلوكه يكشف عن وجهه الحقيقي وتتبدد دفعة واحدة جميع الأقنعة المستعارة التي تم الركون إليها للاختباء خلفها في لحظات الهدنة مع العالم النازع للتمرد.

 

الفاشية باعتبارها استبدادًا:

لا يوجد تعريف مانع وجامع للاستبداد، فالنموذج الوحيد لم يوجد ولن يوجد لأن الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية تختلف من مكان إلى آخر وتتبدل من زمان إلى آخر؛ فالاستبداد وباعتباره ظاهرة من ظواهر الاجتماع السياسي لا يولد اعتباطًا ولا يتراكم جزافًا وإنما تحكمه مجموعة معقدة ومتشابكة من الأسباب والظروف يتداخل فيه الذاتي والموضوعي والداخلي والخارجي، الاقتصادي والثقافي، فهو ثمرة مجموعة مركبة من القوى والبواعث المختلفة في درجة تأثيرها المتشكلة بظروف الزمان والمكان.

يشير التحليل النفس – اجتماعي أن الفعل المؤسس للاستبداد هو فعل الاستيلاء أي انتزاع الحكم والقبض عليه من دون تفويض من المجتمع أو ضد إرادته.

يكتسب الاستبداد معناه السيئ من كونه اغتصابًا واحتكارًا للحق المشترك مع الآخرين، فهو فعل يقوم على الاستحواذ والاستيلاء والسيطرة على شيء هو حق مشترك مع الغير(9). والاستبداد في إفادته معنى الانفراد، فإنه يتضمن دون شك نفي الآخر وعدم الاعتراف به مشاركًا في الحق العام، والاستبداد يحول العلاقات بين الأفراد من علاقات تحكمها وتنظمها قوة الحق إلى علاقات تضبطها محض القوة، والاستبداد باعتباره قوة مجردة من كل حق يقوم في مبدئه على الغلبة والاستيلاء؛ فالفعل المؤسس للاستبداد هو الاستيلاء، وكما يرى هوبز في تحليله للاستبداد انطلاقًا من الحاجة إلى الأمن، فإن الاحتكام «إلى القوة المجردة من كل معيار أخلاقي تمنع كل سلام وتهدم كل استقرار، إنها حالة حرب الكل في حرب مع الكل»(10).

وقد استخدم خلدون النقيب(11) مفهوم الاستبداد للتفرقة بين الحاكم الذي يلتزم بالقانون قولًا وفعلًا والحاكم الذي يكون قوله وفعله هو القانون، فإذا وجد القانون فإن، الحاكم يحتكر سلطة تعديله وتغييره، ويرى النقيب أن الحكم الاستبدادي قد يكون فرديًا أو حكم جماعة، ومن الأهمية النظر نحو نوعية الاستبداد الذي ينبع من اختراق الدولة للمجتمع وهيمنتها عليه بصورة كبيرة يلخصها النقيب في «الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع».

نجد توافقا كبيرًا وشبه تطابق ما بين الاستبداد والشمولية بمحتواها الفاشي، فإذا كانت الشمولية ترتكز على عنصري الايكوسنترية (التركز حول الذات) ما يعني الميل إلى رد كل شيء إلى الذات، فهي أيضًا ترتكز على الاثنوسنترية ما يحيل إلى ميل للحكم على كل شيء بمعايير الرهط الاجتماعي الذي ينتمي إليه الفرد(12). وهكذا تقوم الشمولية أو ما يسميه إمام عبد الفتاح إمام (مذهبية السلطة الجامعة)(13) على شكل من أشكال التنظيم السياسي يقوم على إذابة جميع الأفراد والمؤسسات في الكل الاجتماعي عن طريق العنف والإرهاب أو كما يلحظ ماكس فيبر(14) أن المؤسسة الاستبدادية هي مفهوم نوعي يجمع سمات لطبقة كاملة من المؤسسات المتخصصة في التحفظ على الأشخاص والضبط الاستبدادي لنمط حياتهم، وفي مقال نشره الفيلسوف الإيطالي جيوفاني جنتيلي بعنوان «الأسس الفلسفية للفاشية» استعمل صفة التوتاليتارية totalitarian  بمعنى الاحاطة والشمول واحتواء كل شيء في صفة للنظام الفاشي(15).

أما الاستبداد بمعناه النفس فرويدي فقد لحظ أنه يستعمل بالترادف مع مفهوم  المتسلط، باعتباره شخصية مرضية، تتصف بالزورية (البارانوئيدية paranoid )، بمعنى الاتصاف بالتوقع الدائم أن الآخرون ينتقصون من قيمة الفرد، أو يحاولون إلحاق الأذى به أو تهديده، على شك دائم بإخلاص وصدق المحيطين به دون مبرر وفرط باليقظة والانتباه والانزلاق بسرعة إلى الحنق ووهم الشهرة وعدم التسامح مع أي سلوك يتم تقييمه على أنه مهين، وعدم الثقة بالآخرين؛ بسبب الخوف الدائم من إمكانية استغلال أي معلومة ضده، نلاحظ هنا تطابقًا تامًا مع سيكولوجيا الحصار والبحث عن الأمن واختراع الأعذار لتشديد الحصار الداخلي واتخاذ موقف عدائي تجاه الخارج. لقد رأينا أن الصهيونية تضيق بأي تقدم وتغضب بشدة إزاءه، فيصبح الناقد إذا كان يهوديًا: كارهًا لذاته ومرتدًا عن قيم الشعب اليهودي، أما اذا لم يكن يهوديًا فهو ببساطة (لا سامي). ويعلم الجميع كيف تستخدم الصهيونية المحرقة بشكل تجاري أرعن لاحتكار المأساة وتظهير نفسها باستمرار محتكرة دور الضحية لليهود، مبررة سلوكها مسلك الجلاد بهذا الاحتكار الوقح. وإذا كان هذا النوع من السلوك ينحو نحو العزلة في الدائرة السياسية، فإنه يأخذ شكل التقفر في دائرة العلاقات البشرية، ما يعني أن يكون المرء مقتلعًا، فلا يكون لديه مكان في العالم، مكان يقر له الجميع به ويضمنونه فيصبح همه قتال دائم لتثبيت هذه المكانة أو إقرار الاعتراف بهذا المكان(16).

أما النرجسية فهي صفة أخرى من صفات هذه الشخصية، وباختلاطها بالتعصب بأشكاله تعطي نتائج كارثية، لتتميز بالتعجرف والنقص في التعاطف وفرط الحساسية تجاه آراء الآخرين وإعزاء العنصر الايجابي للنفس وإسقاط النوازع السلبية على المختلف الذي لا ينتمي للرهط؛ فتبالغ في إنجازاتها وحسناتها وتتوقع من الآخرين أن يعترفوا لها بالجميل بصورة خاصة بمبرر أو بدونه ، وتستحوذ على النجاح والشهرة والتألق هذا النمط من الناس غالبا ما يمتلك مشاعر مزعزعة بالقيمة الذاتية وتعتبر آراء الآخرين واعترافهم به مهمة جدًا، ويستجيب لأي نقد سلبي، بالغضب أو بمشاعر الإهانة أو الإذلال ويميل هذا النمط لاستغلال الآخرين واستخدامهم جسرًا لتحقيق أهدافه الخاصة مع نقص في التعاطف معهم أو الحساسية لهم(17)، لذلك تعمل الفاشية على خلق المسافة مع الآخرين والبعد عنهم، فكلما ازدادت المسافة بين الأنا والآخر كلما اطمأنت الأنا وخف قلقها.

والسادية من جهة أخرى سمة لازمة للفاشية (نتحدث هنا عن الفاشية كنظام وبنية وليس عن أفراد منتمين الى الفاشية)، بتعبيرها عن سلوك عدواني وعنيف وقاس تجاه الآخرين من أجل تحقيق السيطرة في العلاقات الخارجية ويحافظ أصحاب هذا النمط على السيطرة على الآخرين من خلال وسائل تتراوح بين الرعب والإرهاب اللفظي وصولا إلى سوء المعاملة الجسدية، وغالبا ما يستمتعون بإيلام ضحاياهم أو إهانتهم وفي الغالب يقيدون حرية الأشخاص مع ولع شديد بالأسلحة. وهكذا تصبح السادية حسب ايريك فروم(18) الشغف بالحيازة على رقابة موجود حي رقابة مطلقة، فإرغام أحد أن يتحمل الألم والإذلال دون أن يكون بوسعه الدفاع عن نفسه يكون مظهرا من مظاهر الرقابة المطلقة.

لقد شاهد العالم بأسره ذلك المظهر-الذي تكرر كثيرا في الحقيقة- عندما اقتحمت القوات الإسرائيلية سجن أريحا وأرغمت عشرات الأشخاص العزل على الوقوف عراة أمام عدسات التلفزة، في تلذذ واضح بعذاب الضحية، وبدون أي مبرر سوى الإذلال والرغبة في إظهار التحكم الكامل عبر تحطيم أرواح البشر، وأكثر من ذلك في سلوك تصوير الضحايا وهي من سلوكيات الفاشيين المعروفة في الهند وألمانيا وإسرائيل والشيشان والأميركتين والعراق. كل هذا يشير إلى ضعف الشخصية الفاشية في أعماقها؛ فالقوة تعني شخصية واثقة من نفسها مرنة تقبل النقد من الآخرين، منطقية وديمقراطية، تحترم امكانات الغير، بينما الشخصية الفاشية تتستر خلف جمودها وسلطويتها من أجل قمع الآخرين وعدم إظهار ضعفها، عاجزة عن النقاش المرن الديمقراطي وعاجزة عن تقبل الآخرين وتقبل الحقائق المنطقية وتصبح القوة هي المرجع الأساس للعلاقة بحق الآخرين والموقف منهم. يرتبط هذا الضعف بعدوانية الفاشي؛ فهجومه دفاع مستتر، يهاجم خوفًا من أن يُهاجَم ويُنال منه، ويُذَل؛ فالسلطوية والسيطرة بالنسبة للضعفاء تعويضان يحتلان المقام الأول، ذلك أن إذلال الآخرين يمنحهم وهم السمو والقوة، يضاف إلى ذلك إنهم أنجزوا عملاً، لكن دون أن يتوجب عليهم صرف الطاقة الخلاقة الضرورية التي يقفون عاجزين حيالها.

أضف إلى ذلك أن الشخصية الفاشية، شخصية هوائية مزاجية، وتلك ملاحظة كلاسيكية في علم النفس، تشير إلى تغير المزاج الفاشي يميل إلى البربرية، التناقضية؛ فالفاشي يحتاج إلى تبرير أفعاله ويلوكه المتغير نتيجة تغير المزاج، هذا التناقض مع صفة التصلب والجمود يزول إذا لاحظنا المسلمة التي تعيد فكرة الفاشي عن ثبات العالم إلى اضطرابه العميق المتفجر.

ونود التأكيد أن تناقض القوانين وازدواجيتها صفة لازمة للنظام الفاشي، وهذا يترجم في الشخصية الفردية، بأن الفاشي شخصية غير منضبطة للنظام الأخلاقي العام للمجتمع، فهو يعمل باستمرار على إنتاج قانونه الخاص، نجد صدى ذلك وأصله ربما في مقولة نيتشه الشهيرة «واحسرتاه.. امنحني الجنون إذا.. إذا لم أكن فوق القانون فأنا ألعن الملعونين»، وذلك الذي لا يستطيع أن يبقى فوق القانون لا بد له في الحقيقة من أن يوجد قانونًا آخر أو يصاب بالجنون كما يحلل ألبير كامو كلمات نيتشه. ووضع النفس خارج القانون، يخلق وضعًا تتحول فيه السلطة إلى استبداد وحشي؛ فالسلطة المفرطة تلك التي تقع خارج أي قانون هي سلطة متوحشة بالضرورة. وهكذا، لا يني الفاشي يدعو الآخرين للالتزام بالنظام، أما هو بالذات فلا يلتزم بالنظام! هل يمكن التوقف قليلاً للتفكير في السلوك الأمريكي والإسرائيلي حول هذه النقطة؟ وأيضاً نقطة أخرى أن الفاشي يعمل على تحقير الآخر وإنجازه والسخرية منه! والفكر الفاشي فكر هدّام، وكما يقول نيتشه فإنه "لإقامة معبد جديد لابد من تهديم معبد قديم.."، ذلك هو القانون، إن ذلك يحيلنا تلقائيًا إلى فكرة النمذجة التي يجب على أساسها إعادة إنتاج العالم على الصورة المختصة، وإذا كان ذلك صعبًا، لأنه في الحقيقة يتناقض مع فكرة التفوق والاختلاف، فإن المطلوب على الأقل، وهذا هو الممكن إخضاع هذا العالم والهيمنة عليه، تحويله حديقة خلفية أو إقليمًا استعماريًا، هذا ما حاولته الإمبراطورية العثمانية، وهذا ما حاولته فرنسا في الجزائر، وإيطاليا في ليبيا ، والجماعة البيضاء في جنوب إفريقيا والولايات المتحدة في جمهوريات الموز والكاريبي..الخ.

 والفاشي عدمي، فهو يؤمن بالكل أو اللاشيء، وذلك مردّه إلى فكرة التفوّق المطلقة.. فلا يوجد تفوّق نسبي، لأن هذا يقتضي تفوقًا نسبيًا معاكسًا في زاوية أخرى، مما يولد تناقضًا في فكرة التفوق والاختلاف، لذلك لا بد من عدالة مطلقة، أو راسخة في نسختها المنقحّة، ولا بد من تدمير الجميع، وتلقين العالم درسًا.. ليس فقط طالبان وبن لادن، وإنما الجميع بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وبالمعنى الإطلاقي للقيم الأخلاقية، فإن تحديد ما هو جيد وما هو سيء يستند أساساً إلى مصلحة الفاشي، ولدينا نموذج دراسي جيد حول هذه المسألة: ففي مسألة دريفوس الشهيرة في التاريخ الفرنسي نجد معادلتين ممكنتين:

حقيقة ملفّقة: دريفوس مذنب = هذا جيد للجيش الفرنسي الذي يخرج من القضية أقوى = هذا جيد لفرنسا = هذا إذاً عادل وبالتالي = أُدين دريفوس.

 حقيقة مطلقة: دريفوس بريء = هذا يحط من مكانة الجيش = هذا سيء لفرنسا فالعدالة تقتضي أن يدان دريفوس، ولكنها العدالة الفرنسية فقط.

ولنحاول نقل العدالة إلى مجال آخر..

* بن لادن مذنب = هذا جيد للعقيدة والنظام والجيش والاستخبارات الأمريكية = هذا جيد لأمريكا.

 * بن لادن بريء = هذا سيء للجيش والنظام والاستخبارات = هذا سيء لأمريكا.

فالعدالة الراسخة تتطلب إدانة بن لادن وطالبان. التفسير السابق لهذه المعادلة سبق وأن أشرنا إليه، فالموضوع يكمن وراء الصور ووراء الكلمات، إنه في الحقيقة يكمن في البحث عن أسئلة جيدة للحصول على أجوبة جيدة، وهنا نجد إحدى سمات الفاشي: السطحية والشكلانية، فهو لا يهتم بمثل هذه الأسئلة الجيدة، لا يهتم بالأسئلة من نوع: كيف ولماذا التي تميل إلى الأسباب والدوافع وراء السلوك وليس مجرد السلوك المعزول، فلا يوجد جريمة معزولة، إن كل جريمة تمتلك تاريخيتها الخاصة والضحية هي جزء من تاريخ الجلاد الذي يستمر في البحث عنها حتى يجدها، وعندما تنقضي المهمة لا يني يحوم حول ضحيته؛ الجريمة بحد ذاتها ليست سوى محطة في تاريخ الجلاد أو المجرم.

 

المراجع:

  1. يمكن الاطلاع على المقياس الذي أنتجه أدورنو ورفاقه من هذا الرابط: https://www.anesi.com/fscale.htm.
  2. لؤي خزعل جبر. نقدا للفاشية:(مدرسة فرانكفورت) وانبثاق مفهوم الشخصية التسلطية. في: جريدة المدى http://almadapaper.com/sub/02-604/n09.htm
  3. د. معتز سيد عبد الله. الاتجاهات التعصبية.ط1(الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. سلسلةعالم المعرفة.1989) ص74.
  4. المرجع السابق. ص69
  5. المرجع السابق. ص72
  6. المرجع السابق.  ص75
  7. سعد محمد رحيم. الفاشية واللغة المغتصبة: https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=46338
  8. سامر جميل رضوان: المتسلط. المستبد. شخصية مرضية . في:قراءات في سيكلوجية العنف. مجموعة. مجلة شبكة العلوم النفسية العربية عدد 4 أكتوبر نوفمبر ديسمبر 2004.
  9. محمد هلال الخليفي. جذور الاستبداد في الحياة السياسية العربية المعاصرة. في: الجزيرة- المعرفة- تحليلات2005.
  10. المرجع السابق.
  11. ثناء فؤاد عبد الله. آليات الاستبداد وإعادة إنتاجه في الواقع العربي. تغطيات. المعرفة. موقع الجزيرة على الانترنت.
  12. جان بيير كوت وجان بيير مونيه. عناصر من أجل علم اجتماع سياسي. ترجمة أنطون حمصي.ط1( دمشق: وزارة الثقافة. 1994 ) ص37
  13. إمام عبد الفتاح إمام. الطاغية، دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي. عالم المعرفة. 183 الكويت . ص63
  14. كوت و مونيه. مرجع سابق. ص73
  15. إمام عبد الفتاح إمام. مرجع سابق. ص64
  16. حنة آرندت. أسس التوتاليتارية. ترجمة أنطوان أبو زيد، ط1 (لندن: دار الساقي 1993) ص 272
  17. سامر جميل رضوان. مرجع سابق.
  18. فرويد وأدلر وآخرون. مدارس التحليل النفسي في تطور مستمر. ترجمة وجيه أسعد. (دمشق: وزارة الثقافة. 1992 ) ص155.