تشاء مقاومة الشعب الفلسطيني، أن تجعل من ذكرى النكبة الثالثة والسبعين محطة نوعية وغير مسبوقة في تاريخ الكفاح الفلسطيني منذ عام 1948، دون التقليل من أهمية محطات المقاومة السابقة سواءً على صعيد الكفاح المسلح أو الانتفاضات الشعبية، بل يمكننا القول أن المحطة الجديدة هي نتيجة السياق التراكمي لمجمل النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال وفي رفضه لمشاريع التسوية الصفوية التي أبرمتها القيادة المتنفذة لمنظمة التحرير منذ عام 1993، وبتنا نشهد في هذه المحطة تلاحماً للجبهات الفلسطينية الثلاث: جبهة القدس والضفة وجبهة قطاع غزة وجبهة الداخل الفلسطيني التي تشكل المتغير الأبرز الذي لم يكن في حسبان العدو الصهيوني، يضاف إلى ذلك جبهة الشتات الفلسطيني والعمق الشعبي العربي النوعي. وهذا التلاحم الكفاحي؛ أكد وحدة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، بحيث بات من المؤكد بأن المواجهة السافرة مع العدو الصهيوني، في إطار انتفاضة القدس ومعركة سيف القدس؛ ستسفر عن نتائج حاسمة لصالح القضية الفلسطينية، في معركة صراع الوجود مع العدو الصهيوني.
الولايات المتحدة تدخل على خط تفعيل دعمها للحركة الصهيونية
في هذه المقالة؛ سنعالج بأثر رجعي ملابسات النكبة في إطار الأمم المتحدة ومشاريعها في نهاية أربعينيات القرن الماضي، لاستخلاص الدروس والعبر؛ إذ أنه ما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حتى سارعت الحركة الصهيونية إلى تفعيل اتفاق بلتيمور الموقع مع الإدارة الأمريكية عام 1942 التي نقلت من خلاله تحالفها الرئيسي من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، وقد ترتب على تفعيل هذا الاتفاق ما يلي:
1- التدخل الأمريكي السافر لصالح الحركة الصهيونية؛ إذ باشر الرئيس الأمريكي "هاري ترومان" بالإعلان السافر عن دعمه المطلق للحركة الصهيونية؛ بإرساله رسالةً إلى "المستر إتلي" رئيس وزراء بريطانيا؛ بوصف بريطانيا القوة المنتدبة على فلسطين، وذلك في أغسطس (آب) 1945، يؤيد فيها فتح أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين من ألمانيا وغيرها وطالب بإدخال مائة ألف يهودي إلى فلسطيني.
2- تشكيل اللجنة الأنجلو أميركية عام 1946 التي خرجت بتوصيات تسهل عملية تفعيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وعلى أن تكون الدفعة الأولى بواقع (100) ألف يهودي، مع ضمان انتقال مساحات واسعة من الأراضي لليهود، وبقاء فلسطين تحت الانتداب البريطاني، إلى أن يتسنى عقد اتفاق بين العرب واليهود، وأنه قبل أن توضع فلسطين تحت وصاية الأمم المتحدة، على الدولة المنتدبة (بريطانيا) أن تستمر في تنفيذ ما ورد في "صك الانتداب" فيما يتعلق بتسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتمهيد الظروف الملائمة لذلك.
قرار التقسيم لعام 1947
في إطار التنسيق بين الدولتين الاستعماريتين "الولايات المتحدة وبريطانيا" أقرت هيئة الأمم المتحدة، في 29 تشرين ثاني (نوفمبر) 1947 مشروع قرار يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية وذلك على النحو التالي:
1- ينتهي الانتداب البريطاني على فلسطين في وقت لا يتأخر عن اليوم الأول من شهر آب (أغسطس) 1948.
2- تؤسس في فلسطين دولتان مستقلتان وهما: أ- دولة عربية بمساحة 42 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية، وتشمل: الجليل الغربي (عكا والناصرة) ومنطقة نابلس وجنين وطولكرم، وقطاع القدس (باستثناء مدينة القدس) وقطاع بيت لحم (باستثناء بيت لحم، وقطاع الخليل (باستثناء الجزء المحاذي للبحر الميت) ومدينة يافا ومعظم قطاع اللد والرملة، والسهل الساحلي في جنوب فلسطين (غزة والمجدل وخان يونس) والجزء الشمالي من منطقة بئر السبع (العوجة – الحفير).
ب- دولة يهودية بمساحة 56 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية، وتشمل الجليل الشرقي (صفد وطبريا) وبيسان، ومدينة حيفا وكافة قراها وكافة المناطق المحيطة بمدينة يافا (ما عدا يافا)، وتل أبيب والمستعمرات الواقعة في السهل الساحلي، ومجمل المساحة الممتدة والمحاذية للبحر الميت من قطاع بئر السبع حتى العقبة (باستثناء منطقة العوجا والحفير).
3- توضع القدس بمساحة (2) في المائة من مساحة فلسطين، تحت الوصاية الدولية على أن تشمل المنطقة الممتدة من شعفاط شمالاً إلى بيت لحم جنوباً ومن أبو ديس شرقاً إلى عين كارم غرباً. وقد أقر مشروع التقسيم بأغلبية ثلثي الأصوات، وكانت من الدول التي أيدت القرار الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
تجدر الإشارة إلى أن هذا المشروع؛ سبق وأن طرح على الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 تشرين ثاني (نوفمبر) 1947، ولم ينل أغلبية الثلثين المطلوبة، وحينها تحركت الولايات المتحدة بكل ثقلها الدبلوماسي؛ عبر سياسة العصا والجزرة للضغط على الدول التي رفضت مشروع القرار لتغيير موقفها، ومن الدول التي مورست عليها الضغوط تايلاند وهاييتي وليبيريا والحبشة والصين الوطنية ( تايوان) وغيرها من الدول، وقد خرج الرئيس الأمريكي عن المألوف في العلاقات الدولية في ممارسة الضغط على مندوبي الدول التي لم تؤيد أو امتنعت عن التصويت على مشروع قرار التقسيم، وكذلك أبدى الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك "تريجفي لي" تحيزاً مطلقاً لصالح المشروع. لقد أيدت القرار الدول الغربية والشرقية ودول الكومنولث و 11 دولة من أمريكا اللاتينية أما الدول الآسيوية والأفريقية فلم يكن لها المقاعد العديدة التي لها الآن لكي تبطل المشروع.
مقاومة فلسطينية لقرار التقسيم
لقد رفض الشعب الفلسطيني قرار التقسيم الذي منح اليهود مساحة 56 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية، ونزع عن القدس صفتها العربية الإسلامية، فهذا المشروع باطل بالمعنى القانوني والحقوقي لأن اليهود لم يكونوا يمتلكون من فلسطين حتى 15 أيار ( مايو) 1948 سوى (7) في المائة من الأراضي الفلسطينية، حصلوا عليها بطرق باطلة وغير مشروعة، من خلال دور الانتداب البريطاني في نقل مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية للعصابات اليهودية، تحت دعاوى وقوانين مختلفة؛ تنفيذاً لمضمون "صك الانتداب"، ومن خلال نقل عائلات اقطاعية سورية ولبنانية ملكيات فلسطينية لليهود في مرج بن عامر وسهل الحولة وصفد وغيرها، وأبرز هذه العائلات (بيهم وسرسق؛ تيان والقباني؛ الصباغ والتويني؛ شمعة والقوتلي والأحدب والمرديني)؛ علماً أن هذه الملكيات تعود لفلسطينيين؛ عجزوا عن دفع الضريبة للسلطة العثمانية سابقاً وللانتداب البريطاني لاحقاً، فدفعتها العائلات الاقطاعية، ومن ثم تملكتها من خلال وصولات الضرائب.
لقد قاوم الشعب الفلسطيني قرار التقسيم، وخاض مقاومة ملحمية للدفاع عن الوطن بدون دعم حقيقي من الدول العربية التي رفضت مد المقاومة بالسلاح، في حين رفضته الدول العربية شكلاً، وخاضت حرباً على مرحلتين تخللتها هدنتين؛ انتهت بهزيمة الجيوش العربية لسببين هما: تواطؤ العديد من هذه الأنظمة؛ بحكم تبعيتها لبريطانيا، والسبب الآخر يكمن أيضاً في عدم التكافؤ في السلاح وعدد الجنود، ومع ضرورة الإشارة هنا أن هذه الجيوش قاتلت عند حدود قرار التقسيم، ومن ثم فإن المعارك انتهت؛ بسيطرة العصابات الصهيونية على 78 في المائة من مساحة فلسطيني، متجاوزة النسبة المحددة لها في القرار.
قرار الأمم المتحدة رقم 194
وفي الحادي عشر من كانون أول 1948 صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار رقم 194 الذي ينص بوضوح على حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وتعويضهم عما لحق بهم وممتلكاتهم من ضرر، وتعويض من لا يرغبون بالعودة عن ممتلكاتهم وعن كل ما أصابهم من ضرر. ما يجب الإشارة إليه هنا أن الأمم المتحدة اشترطت لقبول دولة (إسرائيل) في عضويتها قبول هذا القرار وتنفيذه، ومن أجل هذا الغرض أنشأت الأمم المتحدة لجنة توفيق ومصالحة كان على رأس مهماتها عودة اللاجئين، وعقد مؤتمر في لوزان لهذا الغرض في آذار 1949، حيث عارضت حكومة العدو الصهيوني عودة (900) ألف لاجئ فلسطيني، وقدمت اقتراحاً بجمع شمل العائلات وبما لا يتعدى بضعة آلاف، ولم تقبل الحل المتدرج لقضية العودة الذي رأى إمكانية عودة (100) ألف كبداية،
هذا ومن زاوية تكتيكية، وحتى تضمن دولة العدو الصهيوني الاعتراف الدولي بها وافقت على القرار 194، لكنها لم تلتزم به بدعم من الولايات المتحدة، ومن ثم تحولت تدريجياً قضية فلسطين من قضية شعب له حقوقه التاريخية والقومية، إلى قضية لاجئين أثر صدور قرار من الأمم المتحدة في 8 كانون الأول 1949 بإنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين؛ إذ أنه وبالتعاون بين الكيان الصهيوني والأمين العام للأمم المتحدة آنذاك؛ تم حذف قضية فلسطين من دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة واستبدالها ببند يحمل عنوان "التقرير السنوي للمفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين" واستمر الأمر كذلك حتى عام 1974.
دروس النكبة
بعد هذا العرض للدور الأنجلو أميركي المركزي في خلق النكبة، وفي تمرير مشروع التقسيم، وفي تجاوز حق العودة، كان لا بد من استخلاص الدروس الأساسية التي في ضوئها تتم رسم استراتيجية المقاومة، وأبرز هذه الدروس ما يلي:
أولاً: أن بريطانيا وأميركا كانتا ولا تزالا دولتين عدوتين لم تغادرا موقعهما الاستعماري، وبالتالي فإن الرهان عليهما لإحقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، هو عبث في التكتيك وتدمير لاستراتيجية الكفاح الوطني الفلسطيني التي يجب أن تستند بديهياً إلى تحديد واضح للوحة معسكر الأصدقاء ولوحة معسكر الأعداء. وأنه من الخطأ التعويل على أية مواثيق أو قرارات سياسية مصدرها أو مرجعيتها الولايات المتحدة وغيرها من الدول الإمبريالية، لأن هذه الأطراف تبنت موضوع قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين وعملت ولا زالت تعمل على تفوقها وإفساح المجال أمامها للتوسع والسيطرة على البلاد العربية.
ثانيًا: أن القوى المحلية الرجعية المرتبطة والتابعة لقوى الاستعمار؛ لعبت دوراً رئيسياً في تنفيذ الوعد وخلق النكبة، وهذه القوى لا تزال تشكل الاحتياطي الرئيسي للاستعمار والصهيونية في تفعيل مفاعيل النكبة، وعلينا أن نستحضر ثورة 1936 التي كانت على وشك تحقيق أهدافها لولا التدخل العربي الرسمي في حينه الذي راهن على صديقته بريطانيا لوقف الهجرة والاستيطان.
ثالثاً: أن الأمم المتحدة ومن خلال الدور الذي لعبه الأمين العام للأمم المتحدة في تلك المرحلة لعبت دوراً أساسياً في صنع النكبة، خاصةً وأنها لم تتابع تنفيذ قراراتها التي تجاوزها العدو عندما رفض تنفيذ قرار التقسيم على سوءته واستولى على 80 في المائة من فلسطين التاريخية وعندما رفض تنفيذ قرار 194.
وأخيراً؛ أشير إلى نقطة أعتقد جازماً بأهميتها وهي: "أنه من المشروع للفصائل الفلسطينية ولمؤتمرات حق العودة التي ترفض اتفاقات أوسلو التصفوية وأخواتها؛ التركيز على القرار 194 في سياق إدارة الصراع مع العدو الصهيوني وحلفائه، وفي سياق كسب أصدقاء جدد للقضية، والنضال الوطني الفلسطيني أو في سياق تحييد بعض الدول، وعدم حشرها في خانة الأعداء، لكن من غير المشروع لها أن تعبئ الشعب الفلسطيني وفق هذا القرار على حساب التثقيف والتعبئة؛ بضرورة تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، خاصةً وأن هذا القرار مستند إلى قرار التقسيم الذي مكن العصابات الصهيونية من إقامة دولة لها في فلسطين.