Menu

الاندماج البنيوي بين حركة فتح والسلطة: محاولات عقيمة لأزمة لا فكاك منها

وسام رفيدي

نشر هذا المقال في العدد 28 من مجلة الهدف الرقمية

بماذا كان يفكّرُ مَنْ قرّرَ من حركةِ فتح وضعَ (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) على رايةِ فتح التاريخية؟ قطعًا لم يفكّر ببعضِ العلمانيين والمسيحيين الملتحقين أو المحسوبين على حركة فتح، الذين لن يرضيَهم هذا التطوّرُ الديني. ربّما كان يتمثّل تجربةَ صدام حسين الذي فعل الشيءَ ذاته قبل سقوطِ نظامِه، ولكن مَنْ قلّده من حركة فتح لم ينتبه إلى أنّ إبداعَ صدام ذلك لم ينفعه، فالتمسّح بالخطابِ الديني، وهو البعثيُّ العلمانيّ المفترض، لم يمنع نظامَهُ من السقوط خلال 48 ساعة، ولا حشدَ الشعب العراقي للدفاع عنه، بل تُرك لمصيرهِ المأساويّ وحيدًا. ربما كان يفكّر في منافسةِ حماس على الاستنادِ للشرعيّةِ الدينيّة، وتلك المنافسةُ غدت موضةً سياسيّةً في العالم العربيّ اليوم، حتّى لبعض اليساريّين. ومَنْ يتابع خطابَ حركة فتح، بكلّ تلاوينِ هذا الخطاب، منذ تأسيسِ حركة حماس يلحظ نزوعَها (فتح) لتضمينِ خطابها رموزًا وشعاراتٍ وصياغاتٍ دينيّةً متنوّعة.

 مرّةً أخرى، فَقَدَ مَنْ فكّر بذلك الصوابَ لأسبابٍ عديدةٍ، أوّلُها: أنّ القاعدةَ الجماهيريّةَ الواسعةَ لحركةِ حماس ليست كلُّها ملتفّةً حولَ حماس بسببِ الشرعيّةِ الدينيّةِ المدعاة، فحزبُ التحرير وحركةُ الجهاد لديهما أيضًا تلك (الشرعية)، ولكنها بالذات بسببِ الموقف المقاوِم للحركة، والجماهير، كدرسٍ تاريخيٍّ موثوق، لم تلتحق يومًا بركبِ حزبٍ أو فصيلٍ بفعلِ أيديولوجيّته، دينيّةً كانت أم ماركسيّةً أو قوميّة، بل بسببِ حملِ السلاح ونهجِ المقاومة، فالأيديولوجيةُ شأنُ المثقّفين وواضعي البرامج وراسمي السياسات، لا شأن الجماهير. وتجربةُ الجبهةِ الشعبيّة في قطاع غزة منذ 67-72 وكذا تجربتها في الضفّة في ثمانيناتِ القرن الماضي، أحد تلك الدروس وليس كلها.

وعليه، فإنّ وضع (لا إله إلا الله محمد رسول الله) على رايةِ فتح ليس أكثرَ من تخبّطٍ يعكس أزمةَ الحركة، تلك الأزمةُ التي وصلت ذروتَها بفعلِ متغيّراتٍ ثلاث، وليس بسببِ تلك المتغيّرات حصرًا: أوّلُها، معركةُ سيفِ القدس ومعركةُ الأقصى، التي كانت فتح غائبةً عنها تمامًا لدرجة هتاف جماهير القدس ضدَّ رأس الحركة الأول في تحشّداتهم. ثانيها، فضيحةُ اللقاحاتِ مع الكيان الصهيوني، التي أظهرت حجمَ الدونيّةِ والوضاعة التي تعاملت بها حكومةُ الكيانِ مع جهاز السلطة وبموافقةِ الثاني ورضاه. ثالثها، اغتيالُ الناشط الجذري في موقفهِ نزار بنات بكلّ بربريّةٍ ووحشيّة. وما زاد الطينُ بلّةً معطيانِ إضافيّان: الأوّلُ أنّ لا انفكاكَ بين (الطرفين) السلطة وفتح في المسؤوليّة، فإن يتحمّل الأوّل مسؤوليةً ما، يعني أن يتحمّلها الثاني والعكس صحيح، فهما من حيث البِنيّةُ طرفٌ واحد لا طرفان. أما المعطى الثاني، فهو أن سلوكَ السلطة بأجهزتِها، وحركة فتح بقاعدتِها المحتشدة في الشارع، وتصريحات قادتها، وضعت نفسَها في موضعٍ بدت فيه وكأنّها تدافع عن اغتيال بنات، أو بالحدّ الأدنى تقلّل من فظاعةِ الحدثِ وتسعى للفلفتِه. فالقمعُ الدمويّ لأيّ صوتٍ احتجاجيٍّ على جريمةِ الاغتيال، وتحشيدِ قاعدةِ فتح لقمعِ المحتجّين في الشارع، وإطلاق تهديدات علنيّة من قادةٍ فتحاويّين ضدَّ المحتجّين والمعارضين، وأخيرًا عدم اتّخاذ أيّ إجراءٍ مقنعٍ وعلنيٍّ ورسميٍّ حتى اللحظة ضدَّ مرتكبي الجريمة من عناصرَ وضبّاطٍ ومسؤولين،  بل رفضُ تحمّلِ المستوى السياسيّ في السلطة لمسؤوليتِه، ويحاولون لفلفةَ الموضوع، وكأننا بهم يقولون: عفا الله عمّا مضى، كلّ ذلك يؤشر لما ذهبنا إليه.

كل ذلك يؤكّد حقيقةَ المأزقِ التناقضيّ الذي تعيشه السلطةُ وحركةُ فتح معًا، الذي يتجلّى بتصرفاتٍ رعناءَ سواءً في الممارسة أو في الخطاب. ويكفي بالإشارة لتصريحاتِ العالول والرجوب التهديديّة الموتورة، ولتجنيدِ الشبيبّة الفتحاويّة لضربِ المعارضين وسحلهم، من رجال ونساء وشخصيّات ورموزٍ ونشطاء وطنيّين، عند دوار الساعة في رام الله، أمامَ الشرطة وفي ظلّ مراقبتِهم، فتلك المظاهر المرفوضة تعكس حقيقةَ التصرّفِ المأزوم الذي يندفع بغوغائيّةٍ وبتحشيدٍ موتورٍ ضدّ أي صوتٍ حرٍّ ووطني في الشارع، علمًا أن بعض الرموز الفتحاويّة بلغت حدًّا من الموتوريّة في تصريحاتها وكتاباتها يتجاوز كثيرًا ما قاله الرجوب والعالول. ومن الأمانة بمكانٍ الإشارة لمواقفَ فرديّةٍ مسؤولةٍ من كادراتٍ وقياداتٍ فتحاوية، قالت كلمتها بكلّ شجاعةٍ في اغتيال بنات وفي القمع البربري للمحتجّين منهم معين الطاهر وإيهاب بسيسو.

مع ذلك كلِّه، لا أرى أنّ الأزمةَ الحاليّةَ أزمةُ السلطةِ حصرًا، أو أزمةُ حركةِ فتح حصرًا، بل أزمةُ نظامٍ سياسيٍّ بنته حركةُ فتح واندغمت فيه بكلِّ قوّتِها، وللأسباب التالية:

أولاً: لا مجالَ مطلقًا، بتقديري، للانفكاك بين حركة فتح والسلطة في رام الله، كما هو الحال في غزّة أيضًا. فالسلطة تنبني وَفْقَ نظامٍ الزبائنيّة، الذي نجح بتكوينِ قاعدةٍ اجتماعيّةٍ له عبرَ التوظيفِ والمحسوبية والارتزاق؛ نتيجةَ فقدانهِ أية شرعية، سواءً أكانت شرعيّةً ثوريّةً كانت أيّام الثورة، أم انتخابيّةً قانونيّة. فعوّضا عن بناءِ النظامِ على قاعدةِ الشرعيّة الانتخابيّة القانونية، ونتيجةَ تهتّك شرعيّتهِ الثوريّةِ السابقة وانتهائها، فهو بأمسّ الحاجة لنظام الزبائنية، وهذا ما خلق ذلك الاندغام بين حركة فتح وجهاز السلطة، فالحركةُ وفّرت القاعدةَ للسلطة بتوظيفِ عشراتِ الآلاف، يعيلون مئاتِ الآلاف، في مؤسّساتِ السلطة، ثمّ، فالفائدة مزدوجة: السلطة وفّرت قاعدتَها الزبائنية (شرعية ما مدعاة) وفتح وفرت التوظيف والراتب لعشرات الآلاف وربطتهم بمشروع أوسلو. لذلك فالاندغامُ بين السلطة وفتح بنيوي لا فكاك منه إلا بانتهاء أحد الطرفين، وذلك مستحيلٌ في الزمن المنظور. وعليه لا قيمة عملية بتقديري لشعاراتٍ من نوعِ إنهاءِ الارتباط بين السلطة وحركة فتح، مع اقتناعي أنها تقال فقط في مدّة الأزمات لا أكثر، للتنصّل، غير الأخلاقي على أية حال، من سلوك الأجهزة الأمنية أو من رائحة الفساد المزكمة للأنوف أو من أية فضيحةٍ مباغتة.

ثانيًا: في تجنّد حركة فتح للدفاع عن السلطة وأجهزتها الأمنية، ومظاهر التجنّد وتجلياتها هذه، كانت كأنها تقول: اتّهامُ السلطة اتّهامٌ لفتح. اتّهامُ الأجهزة الأمنية اتهامٌ لفتح. إذن، فاتّهامُ السلطة باغتيال بنات اتّهامٌ لفتح. من حيث التداخلِ البنيوي بين الطرفين، فما يقولونه صحيح: فاتهام السلطة اتهام لفتح فعلًا، فالأجهزة الأمنية، مَنْ على رأسها وضباطها وعناصرها بأغلبيتهم الساحقة فتحاويون، وبمواقعَ رسميّةٍ في التنظيم، وعندما تقرّر حركةُ فتح حشدَ الشبيبة الفتحاوية، لمعاونة عناصر الأجهزة في قمع اعتصام دوار الساعة، وبمراقبة جهاز رسمي: الشرطة، فحينها يكون الاتّهام للسلطة اتّهام لفتح.

من الطبيعي أن تتصرّفَ فتح وَفْقَ هذا المنوالِ لتلك الأسبابِ بالذات، يضاف إليها حقيقة أن تأكيد فتح عبر خطابها من قبل قياديين أن فتح مستهدفة؛ بهدف السيطرة على الضفة من قبل حماس، رغم ما يثيره هذا الهاجس/التحليل من السخرية، فإنه يؤكد حقيقةَ الأزمة بأن فتح تسعى لتحشيدِ طاقات قاعدتِها وجماهيرِها باختراع (عدو) هو حماس في الضفة، في رغبةٍ، غيرِ معلنة، لحرفِ الموضوعِ عن اغتيالِ بنات؛ لأنّ الاتّهام باغتيالهِ يطالها كسلطة.

القاصي والداني، والعارف للواقعِ السياسي في الضفة، ولو بمستوى الصفوفِ الدراسيّة التمهيديّة، يدرك أن (التخوّف) من حماس في الضفة هو محضُ فزاعةٍ مقصودةٍ لسببينِ اثنين مهميّن: الأوّل، أنّ حماس لا تملك القدرةَ على فعل هذا، بافتراضِ أنها ترغب، والسبب يعود لتعرّضِها للقمعِ المزدوجِ عبر سنين وسنين من قبل الجهتين: الكيان الصهيونيّ وسلطة أوسلو، وثانيهما، أن الكيانَ الصهيوني لن يسمحَ مطلقًا بذلك، وخلالَ ساعاتٍ سيقتحم الضفة الغربية إن تهدّد وجود الدجاجة التي تبيض ذهبًا/تنسيقًا أمنيًّا، أي سلطة أوسلو.

وفي عمليةِ الحرفِ هذه عن قضيّة نزار باختراعِ (عدو) لفتح تخدم تمامًا الرغبة في طمسِ ملف نزار بنات لا أكثر.

وبعد، المبعوث الأمريكي للمنطقة، عمرو، وصف السلطة بأنّها غابةٌ جافّةٌ، وهي كذلك فعلاً، ومن حقّهِ أن يخافَ عليها هو والصهاينة، فهي دجاجتُهم التي تبيض ذهبًا، ولكن يقيني لا يريد أي فلسطيني حرق تلك الغابة إلا إذا تمتع بقدرٍ وافر من الموتورية، فحرقُها يعني أن نارًا تلتهم الأخضر واليابس، وتلقي نحو 180 ألف موظف يعيولون أكثر من 700 ألف نسمة في الشارع، فضلًا عن أنه سيحرف التناقض الأساسي مع الصهاينة. ولكن هذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أن ما بعد سيف القدس واغتيال نزار بنات يجب أن يكونَ كما قبله، فالهياكلُ والبُنَى والمؤسساتُ والشعاراتُ والسياساتُ الوطنيّةُ كلُّها، ينبغي أن يعادَ النظر فيها. هذا ما قاله الجميعُ بعد سيف القدس وهذا ما يتأكّد بعد جريمةِ اغتيال بنات وأزمةِ السلطة.