Menu

حكومة فيشي الفرنسية ومستقبل السلطة الفلسطينية

مهند إبراهيم أبو لطيفة

منذ عام 1921 تاريح انعقاد المؤتمر السوري الفلسطيني  في جنيف*، والحركة الوطنية الفلسطينية تبحث عن صيغة لقيام كيان سياسي فلسطيني مستقل أو في إطار إقليمي أوسع، من منطلق الوعي بالمخاطر الوجودية التي هددت وتهدد الأرض الفلسطينية والهوية الوطنية، وبالرغم من التحديات والأزمات الكبيرة الداخلية التي تثقل مسيرتها، وليس أقلها الغياب النسبي للحياة والعلاقات الديمقراطية، إلا أن واقع الاحتلال على الأرض وطبيعة الصراع وأبعاده والوضع الإقليمي والدولي وتعقيداته، تفرض تحديات متجددة تهدد الحلم الفلسطيني في الحرية والاستقلال، وشكلت "هزيمة أوسلو" وتداعياتها الكارثية عوائق جديدة أمام إنجاز الكيان الذي يليق بكفاح شعب فلسطين وتضحياته، وها هو واقع السلطة الفلسطينية برمته ودورها الوظيفي، يزيد الأمور تعقيدًا، بالرغم من الاستعدادية الفلسطينية العالية لاستمرار المقاومة والصمود والوعي المتنامي – خصوصًا في وسط جيل الشباب – لأهمية التصدي باستمرار وثبات للكيان الصهيوني الفاشي في الأرض المحتلة.

مع استمرار وتصاعد الغضب الشعبي على مجمل سياسات وأداء السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة وفي المنافي، تفرض تجربة ومستقبل السلطة تحت الاحتلال نفسها على الوضع الفلسطيني وهي كثيرة، كالتجربة الأفغانية مؤخرًا، ومنها قديمًا الحكومة الفرنسية في ظل الحقبة النازية في فرنسا.

بتاريخ 22 جزيران / يونيو 1940 قسمت اتفاقية الهدنة الفرنسية – الألمانية أراضي الدولة الفرنسية إلى منطقتين، خضعت الأولى للسلطة العسكرية الألمانية المباشرة، وسميت بالمنطقة المحتلة، والثانية بقيت صوريًا تحت السيادة الفرنسية وسميت بالمنطقة الحرة، وكانت تتمتع شكليًا بالحكم الذاتي برئاسة المارشال فيليب بيتان، وعرفت باسم حكومة "فيشي"، نسبة إلى منطقة فيشي غير المأهولة بالسكان في ذلك الوقت في جنوب البلاد. وبعد استيلاء قوات ألمانيا النازية ابتداءً من نوفمبر 1942 على  القسم الثاني في الجنوب الفرنسي، اضطرت حكومة فيشي أو نظام فيشي أو سلطة فيشي، للتعاون مع الحكم النازي العسكري والخضوع له حتى أواخر عام 1944، وبقيت فاقدة لسيادتها الفعلية بينما كان قرابة مليوني جندي فرنسي في الأسر مجبرين على القيام بأعمال السخرة واستخدموا كرهائن لضمان قيام سلطة فيشي بتنفيذ مطالب الاحتلال النازي ومنها تحجيم قواته العسكرية، وتقديم "الجزية" والإمداد اللوجستي من أطعمة وملابس وإمدادات أخرى لألمانيا التي كانت تخوض حروبًا على عدة جبهة.

تعاطف عدد كبير من الفرنسيين في البداية مع السلطة الوليدة، على أمل الحفاظ على وحدة أراضيهم والإبقاء على كيان سياسي لهم، مع أنها كانت سلطة غير ديمقراطية، بل توصف بالديكتاتورية والحكومة الدُمية بيد الألمان. ومع مرور الوقت تحول الرأي العام الفرنسي ضدها، وانضم عدد كبير من الشباب الفرنسي للمقاومة الفرنسية لمواجهة الإحتلال النازي، وخاضوا كفاحًا مزدوجًا ضد النازية وضد حكومة فيشي، التي أُتهمت بالعمالة والخيانة، فكانوا يقاومون من الريف الفرنسي ومن الجبال بدعم من السكان من مختلف الطبقات والشرائح الإجتماعية، رجال الجستابو وميليشيات فيشي، وكانت مجموعات المقاومة الشعبية من الوطنيين الفرنسيين تتوزع في كل المناطق وشارك فيها حتى الأطفال والكبار في السن، وسميت باسم "الماكيز"، ولعبت مجموعات المقاومة هذه دورًا في تأسيس الجيش الفرنسي لاحقًا. وبعد أن تم طرد الألمان من فرنسا على يد الحلفاء، غادرت حكومة فرنسا الحرة بزعامة ديغول لندن، لتقود البلاد بديلًا عن سلطة فيشي المنهارة، والتي فر معظم قادتها ووزرائها، وتعرض من تبقى منهم للمحاكمة بعد الإعلان عن تأسيس جمهورية فرنسية مؤقته كانت عبارة عن ائتلاف من قبل العديد من الفصائل المقاومة الفرنسية، وتم إعدام البعض منهم بسرعة، وتمت تصفية آلاف من المتعاونين مع النازية.

 ويحتفظ الأرشيف المصور لتلك المرحلة بمشاهد الإذلال التي تعرض لها كل من تم إلقاء القبض عليه من المتعاونين، حتى النساء منهم اللواتي تم حلق شعور رؤسهن أمام الجمهور على منصات خصصت للتشهير بهن.

تمت محاكمة المارشال بيتان بتهمة الخيانة العظمى من قبل الحكومة الإئتلافية الحرة، وحكم عليه بالإعدام، ومن ثم تم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد الإنفرادي بعد تدخل ديغول شخصيًا، وبقي سجينًا إلى أن مات عام 1951، وحوكم أربعة من كبار المسؤولين في فيشي بتهمة ارتكاب مجازر ضد الإنسانية، وفي سبتمبر 1944، بعد تحرير باريس، أعلنت حكومة فرنسا الحرة برئاسة ديغول بشكل رسمي، إلغاء حكومة فيشي مع كل قوانينها وتشريعاتها، وأصبحت مضربًا للأمثال.

هكذا انتهت دولة أو سلطة فرنسا الفيشية، وتأسست الجمهورية الرابعة، ومع المفارقات بين المشهد الفرنسي والمشهد الفلسطيني، إلا أن سيناريو سقوط السلطة في حد ذاته يطرح نفسه بقوة تحذيرًا من عدم تدارك الأزمة السياسية والشرعية التي تعاني منها السلطة الفلسطينية، والآخذة بالازدياد، كواحد من السيناريوهات الكثيرة التي يمكن أن تحدث، وإمكانيات الخروج منها نظريًا موجودة، مع إدراك أن هناك عوامل عديدة تجعلها حلولًا "مثالية" نسبيا أكثر منها واقعة لاعتبارات تتعلق بجدلية الوضع الفلسطيني والإقليمي والدولي ومنها على سبيل:

تشكيل جبهة وطنية عريضة من قوى المقاومة والفصائل الفلسطينية، وممثلي المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، أو الإعلان عن حل السلطة وتشكيل قيادة موحدة في الضفة الغربية تعلن وحدتها النضالية والسياسية مع قطاع غزة، في إطار كيان سياسي فلسطيني جديد، أو إعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية على أرضية إلغاء اتفاقية أوسلو، أو عبر انتخابات حرة ونزيهة في الأرض المحتلة، تواكبها مؤتمرات وطنية في المنافي والشتات، أو عقد مؤتمر وطني فلسطيني عام في إحدى الدول خارج فلسطين، لمناقشة مستقبل القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني بنتج عنه تحالف وطني واسع، وغيرها من الأفكار والمقترحات، والتي لا يمكن أن تتحقق إلا بتوفر الإرادة السياسية الفلسطينية بالدرجة الأاولى، وأن تتبنى مصالح ومطالب الجماهير الشعبية الفلسطينية في الداخل والخارج، كي لا تسقط الحالة الفلسطينية في سيناريوهات أسوأ مثل الفوضى وغياب السلم الأهلي، أو الحل في إطار إقليمي، وربما حتى إستغلال الإحتلال للفرصة وإستكمال توسعه وتطهيره العرقي.

من أهم العوامل التي أدت إلى سقوط حكومة فيشي، إضافة للتبعية الكاملة للاحتلال النازي، وفقدان السيادة، وسياسة القمع التي مارستها، كانت الأزمة الإقتصادية الحادة التي عصفت بفرنسا في تلك المرحلة، والمعاناة الشديدة التي مر بها الفرنسيون على جميع المستويات الاقتصادية والمعيشية والأمنية والنفسية نتيجة الممارسات الحكومية مما أسهم في تقوية حركات المقاومة، وتوفر الدعم الخارجي للحلفاء خصوصًا بريطانيا.

ما زالت الحركة الوطنية الفلسطينية، تواجه التحدي الأكبر وهو الوقوف في وجه غطرسة الإحتلال الصهيوني، وإنجاز كيانها السياسي الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون في مستوى الدولة ذات السيادة على الأقل بالحد الأدنى إلا بزوال وكنس هذا الكيان الاستعماري عن كامل الأرض الفلسطينية من البحر للنهر، ولكن من أهم التحديات أيضا إستمرار روح "حكومة فيشي" ونهجها، فهل يجب تكرار نفس السيناريو الفرنسي؟ أم هناك فرصة للخروج من الأزمة التي ستعصف إن عاجلًا أم آجلًا بقضيتنا الوطنية أو ربما الزلزال الذي يهددنا إن لم نتسلح بشعبنا ومقاومتنا؟ على القيادات الفلسطينية أن تجيب، لأن الشعب تجاوز مرحلة الرفض الصامت، وقراره أن الحياة وقفة عز.

إشارة لا بد منها: تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي نداءات إستغاثة من قبل حرائر فلسطين في السجون والمعتقلات الصهيونية ومنها رسالة الأسيرة أنهار الديك (على وشك الولادة في المعتقل)، وما زال عدد كبير من أحرار فلسطين في المعتقلات وخصوصًا ذوي الأحكام الطويلة، فهل تلبي فصائل المقاومة هذا النداء؟

-----------------------------

* المؤتمر السوري الفلسطيني: هو المؤتمر الذي عقد في سويسرا في أيلول/ سبتمبر 1921، شاركت فيه شخصيات من سوريا الطبيعية، أي سوريا وفلسطين للمطالبة بالاستقلال عن الاستعمار الغربي، وتمت الإشارة فيه للشعب الفلسطيني وحقه في نيل الاستقلال، وكانت رموز الحركة الوطنية في معظمها تعتبر نفسها سورية من فلسطين، أو جنوب سورية.