Menu

أخي المواطن من ضربك على خدك الأيسر كسّر رأسه

عبد الرزاق دحنون

وصف الاتحاد الدولي لناشري الصحف ناجي العلي بأنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر. وهي الحالة الأولى في تاريخ هذا الفن التي يتم فيها قتل فنان كاريكاتير رمياً بالرصاص في لندن على قارعة الطريق وفي وضح النهار بسبب رسوماته وتغريداته. ومتى كانت التغريدة تقتل صاحبها؟

تعوَّدنا في الصحافة أن يتناول رسام الكاريكاتير في تغريداته الشخصيات السياسية العامة بلطف وحرص شديدين، كرئيس الدولة أو أمين عام الحزب أو جلالة الملك أو السلطان المعظَّم أو دولة رئيس الحكومة وحاشيته. يُغرِّد ناجي العلي: " ياسر عرفات قرابتك؟ لا، صاحبك؟ لا، اتعشيت معه؟ لا، اجتمعت فيه؟ لا. طالما أن أبو عمار مش قرابتك، ولا صاحبك، ولا متعشي معه، ولا مجتمع فيه، ليش يا أخو الشليته صار لك ساعتين داعس على رجلي؟".

قَلَبَ ناجي العلي هذه المعادلة، فشخصياته من الرعاع المهمشين العاديين أبناء المخيمات وبيوت الصفيح الفقراء المساكين زينب ومحمد وفاطمة وعائشة وحنظلة. يقول في تغريدة "تعالي يا فاطمة هذا أبو الزعيم جاي بحاله يقنعك بحسنات القرار اثنين أربعة اثنين. فاطمة: والله لو بيجي مش أبو الزعيم بس، لو بيجي كمان أخو الزعيم، وأم الزعيم، وامرأة الزعيم ...فشروا".

هكذا أصبح القارئ لا يطالع في رسومه المواقف الرسمية من الأحداث والردود عليها وكشفها، بل يطالع ما يقوله رجل الشارع عبر الحياة السياسية اليومية بلسانه الفضّاح الجارح الساخر معلقاً تارة وشاتماً تارة أخرى. تقول فاطمة لجارتها: "جوزي مع أبو عمار، ورافع شعار كُنْ موالي ولا تبالي، وابني مع أبو صالح، الله يصلحه، ويبعد عنه أولاد الحرام، وأنا بين نارين، بيني وبينك، أنا مع اللي بيطخ على إسرائيل مين ما كان يكون".

ونكاية بالطاغية وحاشيته الفظَّة، غليظة القلب، صنع لها من يوبخاها كلَّ صباح، إنه "حنظلة" ابن المخيم ذي السنوات العشر. وهو دائماً "عاطي ظهره" لذلك يستحيل على أجهزة الأمن والمخابرات كشفه. وهو دائماً حاف، مسحوق، مرقوع الثوب، ولكنه في النهاية لا يخسر شيئاً. وضعه ناجي العلي كضمير حي، واع، وعين ترصد كل ما ترتكبه السلطة السياسية من موبقات. يقول فدائي مصاب قبل استشهاده بدقيقة: "بتعرفي يا فاطمة ليش أنا مبسوط مش لأني رايح عالجنة ولا لأني أقابل ربنا أنا مبسوط بس لأني راح أرتاح من شوفة وجوه هالحكام العرب". هنا تكمن خطورة كاريكاتير ناجي العلي الذي أرق مضجع الطاغية على امتداد الوطن من المحيط إلى الخليج وأقلق راحته، فأمر بقتله رمياً بالرصاص. ما الداعي لنسأل من قتل ناجي العلي؟ يا سيدي القاتل معروف.  يُغرِّد "مقالك اليوم عن الديمقراطية عجبني كتير. شو عبتكتب لبكره؟ يُجيب: "عبكتب وصيَّتي".

ولعل المضمر الأكثر عمقاً وتخفياً وراء هذا الغضب المستعر نحو رسام يتكئ في سلامته الشخصية على تضامن الرعاع من قومه في مخيمات الفقر والفاقة، هو إدراك الطاغية عجزه عن فهم نوازع هؤلاء البسطاء ومبررات هجاءهم السافر. وشتمهم المقذع، لأن العامة تشتم من قلب مجروح فتكون شتيمتها في محلها، لذلك يرتعب منها الطاغية. يُغرِّد على لسان الحاكم العربي: "من رأى منكم اعوجاجاً مني بدّي ألعن اللّي خلّفه". يقول ناجي العلي: "يا حنظلة خذ حفنة تراب من أرض البرتقال الحزين للمسطولين بحب أمريكا يمكن إذا شمّوا هالتراب يعودوا إلى رشدهم". 

 قيل بأن ناجي العلي تلقى تهديداً من السلطة السياسية بقطع أصابع يديه إذا استمر بالسخرية في رسوماته اليومية من القيادة السياسية وزعيمها. فكان رد ناجي العلي مزيداً من الرسومات التي تطال هيبة الطاغية وبطانته. وقال متحدياً ساخراً في آن معناً: إذا قطعتم أصابع كفي سأرسم بأصابع قدمي.

يُغرّد ناجي العلي والصوت يخرج من بين قضبان زنزانة السجان: "الأخ بطرس مسيحي قبطي اعتقلوه بتهمة الانتماء لتنظيم سري ومن التعذيب اعترف أنو من الإخوان المسلمين". مواطن من طاقة السجن: "الحرية للمعتقلين السياسيين في سجون إسرائيل كما أهدي سلامي إلى جميع المعتقلين في السجون العربية، أنا بخير، طمنوني عنكم". في عيد العمال: "الليلة عيد يا فاطمة غازليني بكلمة حلوة. شايفتك مبسوط يا زلمي بالأول من أيار إن شاء الله بتظل مبسوط لآخر الشهر". يقنع زوجته: "اسمعيني بس يا فاطمة: لازم تنسي شي اسمه فلسطين وأنا أوعدك بمستوطنة نعيش فيها بثبات ونبات ونخلف صبيان وبنات. ترد بسخرية: ما هذا الحكي الفاضي اللي ما بحبِّل؟ بدي بيع حالي لأي نظام عربي عشان أطعم أولادي سامحني يا رب. فاطمة: الله لا يسامحك على هالشغلة".

وكان قد رسم قبل أسابيع من وفاته لوحة رشيدة مهران سكرتيرة مكتب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في تونس ونُشرتْ في جريدة القبس يوم 24/6/1987 سخر فيها وبجرأة قاتلة من هيبة السلطة وقدسيتها. يُغرد فيها قائلاً أو قاتلاً أو مقتولاً: "بتعرف رشيدة مهران؟ لأ. سامع فيها؟ لأ. ما بتعرف رشيدة مهران، ولا سامع فيها، وكيف صرت عضو في الأمانة العامة للكتاب والصحفيين الفلسطينيين. لكن مين داعمك بالمنظمة يا أخو الشليته؟".

ومن المثير للانتباه حقاً أنه كلما زاد القمع وتعددت ضروب المذلة والإهانة والإحباط اليومي كان هذا دافعاً نحو المواجهة العلنية السافرة. أي أن الطاغية الأشد قمعية هو الأكثر تعرضاً لأعنف تعبير عن الغضب. تقول فاطمة تعبيراً عن غضبها من الحُكَّام العرب: "مش ناوين تحاربوا وترجّعوا فلسطين، كفّوا شرَّكم عنَّا، العمى احسبونا يهود".

يفسر لنا جيمس سكوت في كتابه الخطير "المقاومة بالحيلة – كيف يهمس المحكوم من خلف ظهر الحاكم" هذه المسألة تفسيراً مهماً لافتاً حيث يرى أن الخضوع والإذعان الإكراهي لا ينبئ عن استسلام حقيقي أو اقتناع فعلي بل إنه نتاج الخوف من العقاب والبطش. وكأن الإكراه والعسف يحصن المقموع ضد الإذعان ويولد لديه الرغبة العارمة في التمرد. يًغرِّد ناجي العلي بعد أن طفح الكيل: "أخي المواطن من ضربك على خدك الأيسر كسَّر رأسه" ميدان تفجر التحدي العلني يغدو دوماً الميدان الأكثر براحاً وحرية، بل إن هذا الميدان سيغدو مساحة يكتشف عبرها كل من القامع والمقموع طاقاته الحقة وإمكاناته المضمرة عبر بلوغ الصراع بينهما ذروته وتوتره، ما بين تجاوز المقموع لكل الحدود وانتهاكه لكل المعايير والقيم من ناحية، وعنف الرد ودمويته من قبل الطاغية من ناحية أخرى.