قبلَ نحو عامٍ من اليوم، كانت الساحةُ الفلسطينيّةُ منشغلةً بالتجهيز للانتخابات التشريعيّة، وكتبتُ وقتَها مقالًا هنا في الهدف تحت عنوان: ترتيب الأولويّات فلسطينيًّا وحدةً أو انتخابات، وخلصت فيه إلى أولوية الوحدة، ولكن إن تعذّرت، هذا لا يعني بالضرورة رفض الانتخابات، فـ"إجراءُ انتخاباتٍ من شأنها خلق شرعيّةٍ موحّدةٍ لأمر الواقع السياسيّ الفلسطينيّ الهابط يبقى أفضلَ من شرعيّةٍ منقوصةٍ لمؤسّساتٍ تمثيليّةٍ منقسمة".
مرَّ عامٌ ولم تجرِ انتخابات، وأصبحت الوحدةُ أبعد، خاصّةً بعد أن قرّرت القيادةُ الفلسطينيّة عقدَ مجلسٍ مركزي، قاطعته حركتا حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبيّة، وأصدرت بيانًا مشتركًا عدّت فيه عقد المجلس "خطوةً انفراديّةً تعمّق الانقسام".
إنّ الإصرارَ على عقد المجلس المركزي حسب كثيرٍ من المراقبين جاء في إطار جهود ترتيب أوضاع القيادة الفلسطينيّة في المرحلة القادمة، مرحلة ما بعد أبو مازن. وهي ترتيباتٌ ليست مؤقّتة، ومن ثَمَّ الشروع في تنفيذها ينفي موضوعيًّا وجود أيّ نيّةٍ جديّةٍ لدى القيادة الرسميّة لإجراء أيّ إصلاحٍ حقيقيٍّ في المؤسّسة والهياكل القياديّة الفلسطينيّة على قاعدة الشراكة والوحدة، لتعودَ وتكتسب الشرعيّة التمثيليّة الكاملة. والطريق نحو الوحدة واضحٌ ومحدّدٌ بخطواتٍ توافقت عليها القوى الفلسطينيّة في وثيقة الوفاق الوطني عام 2006، وأكّدت عليها في محطّاتٍ عدّةٍ بعد ذلك، والخطوات التي اتّخذتها القيادة الرسميّة أخيرًا هي سيرٌ في طريقٍ معاكس.
فالمجلسُ المركزيُّ الذي عقد مطلع الشهر الماضي كان من المفترض أن يناقش توصيات لجنةٍ "تضمّ شخصيّاتٍ وطنيّةً وازنةً تقدّم رؤيةً استراتيجيّةً لإنهاء الانقسام، والشراكة في ظلّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة، على اعتبار أنّها الممثّل الشرعيّ والوحيد للشعب الفلسطيني، خلال مدّةٍ لا تتجاوز خمسة أسابيع" كما تقرّر في اجتماع الأمناء العامين للقوى الفلسطينيّة الذي عقد بالتزامن في بيروت ورام الله في أيلول 2020، وهو ما لم يحدث، وبدلًا من أن يكون مجلسًا للشراكة والوحدة جاء ليفاقم الأزمة.
إنّ ما نشهده اليوم هو عمليّةُ قتلٍ تدريجيٍّ لمنظّمة التحرير، يتزامن مع ترسيخ أمرِ واقعٍ في الأرض المحتلّة من قبل إسرائيل، بدعم ممن يعرف بالمجتمع الدولي بأطرافه كافةً تقريبًا، وتساوق من قبل القيادة الفلسطينيّة الرسميّة؛ يجعل إمكانيّة قيام دولةٍ فلسطينيّةٍ على حدود 67 مستحيلة، ويشكّل ظرفًا موضوعيًّا حاكمًا كيَّفَ السلطة الفلسطينيّة أكثر وأكثر مع الدور الوظيفي الأمني الإداري. كذلك بالنسبة لقطاع غزة الذي تحوّل إلى تجمّعٍ سكانيٍّ منعزل، أقصى أماني من يديره هو أن ينفتح العالم عليه اقتصاديًّا وسياسيًّا.
لقد بات واضحًا في ضوء تجربة السنوات الماضية، والمستجدات الأخيرة أن القيادة الرسميّة الفلسطينيّة لا يمكن أن تذهب إلى خيار الوحدة بوازعٍ من المسؤوليّة الوطنيّة، وربّما يجب أن تُدفع دفعًا إلى ذلك.
في ضوء هذا الاستنتاج يبدو منطقيًّا أن تتّحد المعارضة عبرَ بناء تحالفٍ واسعٍ مناهضٍ لتفرّد القيادة، تستطيع من خلاله ممارسة الضغط عليها لتحقيق الوحدة. لكن هذا الخيار المنطقي يصطدم بعقباتٍ جدّية، أهمُّها التباين في البرامج، الوطنيّة والمجتمعيّة، بين قوى علمانيّةٍ وأخرى إسلاميّة، واختلال التوازن بين تلك القوى لصالح الإسلاميّين الذين سيهيمنون بالضرورة على التحالف إن اقتصر على القوى المنظّمة. ومن المهمّ الإشارة إلى أنّه حين نتكلّم عن تحالفٍ لا نقصد مجرّد إعلانٍ سياسيّ، يمكن أن يتضمن مبادئ وخطوطًا عامةً مشتركة، بل بِنيةً مؤسسيّة، متفاعلة مع الحياة، لها قيادةٌ وبرنامجُ عمل، وحتى إن تأسّس مثل هذا التحالف على برنامجٍ توافقي، سيطغى برنامج الإسلاميين بحكم الأمر الواقع مع الزمن.
والمشكلة في ذلك أنّ مرجعيّة القوى الإسلاميّة الأيديولوجيّة والفكريّة لا تشكّل قاسمًا مشتركًا للشعب الفلسطيني، ولا عنوانًا لإجماعٍ وطنيّ، وهي مسألةٌ مهمّة، ولا تعالج على قاعدة الأغلبيّة والأكثريّة، لأنّها مسألةٌ تعاقديّةٌ أساسيّة، مرتبطةٌ بالثقافة وتعريف الفرد وعلاقته بالجماعة، وتحديد الخطّ الفاصل بين العام والخاص، وعلاقة السلطة بالإيمان الديني، وهي قضايا ما زالت ملتبسةً عند أكثر الإسلاميّين تفتّحًا، فكيف عند حماس والجهاد! هذا علاوةً على أنّ ممارستهم العمليّة خلال العقود الماضية، خاصةً حماس؛ التي كانت في سلوكها وأدبيّاتها، في نظر باقي القوى تتحرّك بين خياري البديل والهيمنة، ولم تطمئن الآخرين يومًا إلى أنّها جادةٌ في السعي للشراكة.
أما قوى اليسار المعارضة فلديها أزماتٌ بِنيويّةٌ حقيقيّةٌ وعميقة، تعيق حركتها وتحدّ من فاعليتها على الأرض، كذلك هي مرتبطةٌ ماليًّا وبشكلٍ حيويٍّ بالمؤسّسة الفلسطينيّة الرسميّة، سواءً عبرَ المخصّصات التي تتقاضاها من المنظّمة، أو تفرّغَ كثيرٌ من كادراتها خاصةً القياديّة في دوائر المنظّمة ووزارات السلطة. فهي لا تستطيع أن تنفصل ماليًّا عن المؤسّسة الرسميّة، خاصّةً بعد أن تأقلمت في أساليب عملها وهيكلها المؤسّسي مع توافر ذلك التمويل، وهي غيرُ قادرةٍ كذلك على تأمين بدائلَ لكوادرها إن أوقفت القيادة الرسميّة مرتّباتهم كما حصل مع حركة حماس ، ناهيك عن أنّ هذه القوى عجزت عن أن تقيم الوحدة فيما بينها، بل حتى في اتّخاذ مواقفَ موحّدةٍ في الكثير من القضايا الوطنيّة المهمّة، وآخرها على سبيل المثال مسألةُ المشاركة في اجتماعات المجلس المركزي، فكيف يمكن أن تشكّل رافعةً لوحدةٍ وطنيّة؟
عودةً إلى مقدّمة المقال، الأولويّة هي الوحدة، لكن إن تعذّرت لا بدَّ من البحث في البدائل. تحالف قوى المعارضة بشكلٍ توافقيّ هو خيار، لكن أمامه تحدّيات كبيرة، تذليلها ممكن إن توافرت الإرادة والمسؤوليّة الوطنيّة لذلك. كذلك مطلوب اليوم تفعيل المبادرات الشعبيّة غير الحزبية، وإطلاق أخرى جديدة في الوطن والشتات رافضة لنهج القيادة الرسميّة السياسي ولتفرّدها، كل ذلك من شأنه أن يعمّق أزمة شرعيتها حتّى لا يبقى أمامها مفرٌّ من قَبول الشراكة الوطنيّة.
في النهاية لا بدَّ من التأكيد على أنّنا لسنا أمامَ صراعٍ على طبيعة نظام حكم في وطن يحتمل الانقسام السياسي، بل على وجود الوطن من عدمه، صراع يريد العدوّ وداعميه ألا تكون هناك هُويّة وطنيّة للفلسطيني بل ثقافيّة فقط. إن الشعوب يمكن أن تمرّ بانقساماتٍ سياسيّةٍ حادّةٍ لكن على جغرافيا واحدة وداخل ديموغرافيا واحدة. وفي الحالة الفلسطينيّة التي تتشتت فيها الجغرافيا والديموغرافيا تبقى الوحدةُ السياسيّةُ الضمانَ لبقاء القضيّة حيّةً، ولاستمرار النضال من أجل عودة الأرض والشعب، وفي حال استمرّ الانقسام وتجذّر فلن يتبقّى من فلسطين سوى القضيّة الإنسانيّة والتراث الثقافيّ.