تتّسمُ تفاعلاتُ النظامِ الدوليّ بديناميكيّةٍ شديدةٍ تدفعُهُ نحوَ الحركةِ الدائمة، ومن ثَمَّ، نحو التغيّر المستمرّ، وقد اعتادَ الباحثون تقسيمَ مراحلِ التطوّر التي شهدها النظامُ الدوليّ الذي تشكّل في أعقاب الحرب العالميّة الثانية إلى ثلاث:
الأولى: مرحلةُ القطبيّة الثنائيّة: التي تعرفُ أيضًا بمرحلةِ الحرب الباردة؛ وهي المرحلةُ التي شهدت تنافسَ قطبينِ كبيرينِ على قيادة النظام الدوليّ، هما الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفييتي، من خلال قيادتهما لمعسكرينِ دوليينِ تتباينُ نظمُهما السياسيّةُ والاقتصاديّةُ والاجتماعيّةُ والفكريّةُ إلى حدِّ التناقضِ الكامل، وقد انتهت هذه المرحلةُ رسميًّا بانهيارِ الاتّحاد السوفييتي وتفكّكه عام 1991.
الثانية: مرحلةُ القطبيّة الأحاديّة: التي يطلقُ عليها أيضًا مرحلة الهيمنة الأمريكيّة المنفردة؛ وهي المرحلةُ التي آلت فيه قيادةُ النظام الدولي إلى قطبٍ واحد، هو الولاياتُ المتّحدة الأمريكيّة، وبدأت فعليًّا مع سقوط جدار برلين عام 1989، واستمرّت حتى ما بعد الغزوّ الأمريكيّ للعراق عام 2003، بسنواتٍ قليلة.
الثالثة: مرحلةُ السيولة الحاليّة: التي يبدو فيها النظامُ الدوليّ بلا قيادةٍ واضحةٍ قادرةٍ على فرض إرادتها المنفردة أو الجماعيّة على مجمل مكوّناته، لكنّها تشهدُ في الوقت نفسِهِ محاولاتٍ مستميتةً للانتقال به من نظامٍ يهيمن عليه قطبٌ واحدٌ أو قطبان إلى نظامٍ متعدّدِ الأقطاب، ومن ثَمَّ لم تتحدّد معالمُها النهائيّةُ أو تستقرَّ بعد؛ غيرَ أنّنا إذا دققنا النظرَ في هذا التقسيم فسوف نكتشفُ أنّه يتّسمُ بالكثير من العموميّة، ومن ثَمَّ يصعبُ اعتبارُهُ تقسيمًا دقيقًا أو محكمًا.
فالواقعُ أنّنا إذا تأمّلنا المراحلَ الثلاثَ آنفةَ الذكر، فسوف نكتشفُ أنّ كلًا منها لم يتّسم بالضرورة بتجانسٍ كامل، فلم يكن النظامُ الدوليّ الذي تأسّس في أعقاب الحرب العالميّة الثانية مباشرةً ثنائيّ القطبيّة، لكنّه كان أقربَ ما يكونُ إلى نظامِ قيادةٍ جماعيّة، يدارُ بالتوافق بين الدول الكبرى التي خرجت منتصرةً من الحرب العالميّة الثانية وحصلت على مقاعدَ دائمةٍ في مجلس الأمن الدوليّ؛ استنادًا إلى مفهوم الأمن الجماعيّ المنصوص عليه في ميثاقِ الأمم المتّحدة، الذي يرى في الأمن الدوليّ ككلٍّ وحدةً واحدةً لا تتجزّأ.
بعبارةٍ أخرى يمكنُ القولُ: إنّ الفترةَ الممتدةَ من عام 1945 (تاريخ انتهاء الحرب العالميّة الثانية) وتأسيس الأمم المتّحدة في الوقت نفسه، وحتى اندلاع أزمة برلين عام 1948، شهدت محاولةً لتأسيس نظامً للأمن الجماعيّ، يقوده التحالفُ المنتصرُ في هذه الحرب، من خلال مجلس الأمن؛ استنادًا إلى القواعد والآليّات المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتّحدة؛ غيرَ أنّ التفاعلات الدوليّة اللاحقة أثبتت أنّ الفرضيّة التي بُني عليها هذا النظام، القائلة إنّ التحالفَ الدوليّ الذي تحقّق إبان الحرب العالميّة الثانية، وانتصر فيها سيستمرُّ بعدها، لم تكن صحيحةً، فقد تبيّن أنّه تحالفُ ضرورةٍ أمّلتها متطلّباتُ الحرب، لكنّه غيرُ قابلٍ للاستمرار بعدها. وكانت أزمةُ برلين التي اندلعت عام 1948، بين الاتّحاد السوفييتي والدول الغربيّة المشاركة في احتلال العاصمة النازيّة، كاشفةً لهذه الحقيقة. وحين قرّرت الدولُ الغربيّةُ بقيادة الولايات المتّحدة تأسيسَ حلفِ الناتو بعد أزمةِ برلين بشهورٍ قليلة، وتحديدًا عام 1949، فقد كرّس هذا القرارُ رسميًّا انقسامَ العالم إلى معسكرينِ كبيرينِ متصارعين؛ أحدُهما غربيٌّ تقودُهُ الولاياتُ المتّحدة، والآخرُ شرقيٌّ يقودُهُ الاتّحادُ السوفييتي. وهكذا انتقل النظامُ العالميّ من نظامٍ أُريد له أن يُدارَ وَفْقَ مفهومِ الأمن الجماعيّ، وأن تقودَهُ الأممُ المتّحدة، إلى نظامٍ يُدارُ وَفْقَ مفهومِ توازنِ القوى التقليديّ، ويتنافسُ على قيادتِهِ كلٌّ من: حلف الناتو وحلف وارسو.
على صعيدٍ آخر، يُلاحظُ أنّ النظامَ الدوليّ ثنائيُّ القطبيّة، الذي جسّدته "حربٌ باردةٌ" بين المعسكرين؛ الشرقيّ والغربيّ، واستمرّ حتّى تفكّكِ الاتّحاد السوفييتي وانهياره عام 1991؛ لم يكن نظامًا متجانسًا. فمن ناحيةٍ، لم تكن "الحربُ" التي اندلعت بين المعسكرين المتصارعين كلّها "باردة"؛ فخلالَ هذه الفترة الطويلة نسبيًّا اندلعت حروبٌ "ساخنةٌ" كثيرةٌ بين المعسكرين المتصارعين، لكنّها أديرت بالوكالة (كالحربِ الكوريّةِ في بداية الخمسينات، والحرب الفيتناميّة طوال الستينات، والحرب الأفغانيّة في نهاية السبعينات...إلخ)، كما اندلعت أزماتٌ كثيرةٌ داخلَ كلٍّ من المعسكرين (أزمة العدوان الثلاثيّ التي أدّت لاحقًا إلى خروج فرنسا الديجوليّة من الهياكل العسكريّة لحلف الناتو، والانشقاق الصينيّ السوفييتي في بداية السبعينات، الذي أدّى إلى تقاربٍ أمريكيٍّ صينيٍّ جسّدتها زيارةُ الرئيس نيكسون للصين عام 1971..الخ). ومن ناحيةٍ أخرى، لم تكن العلاقاتُ بين المعسكرين القوتين المتصارعتين على المستوى نفسه من الحدّة دائمًا، حيث سادها في بعض الأحيان توتّرٌ كاد يصلُ أحيانًا إلى حافة الحرب، كما سادها في أحيان أخرى تعاونٌ كاد يصلُ في أحيان أخرى إلى حدّ الوفاق. فأثناءَ فترة حكم ستالين، على سبيل المثال، ساد اعتقادٌ مفادُهُ أنّ العلاقةَ بين المعسكرين لا يمكن إلّا أن تكون صراعيّة، ومن ثَمَّ، فلا بدَّ أن تنتهيَ بأن يسير أحدُهما في جنازة الآخر، وبعد موته عام 1953، والكشف عن جرائمه الكبرى وتولي خرتشوف السلطة، ظهر مفهوم "التعايش السلمي" الذي حوّل العلاقةَ بين المعسكرين من "صراعيّةٍ" إلى "تنافسيّة". وبينما اشتعل في عهد ريجان سباقُ تسلّحٍ وُصف بأنّه "حربٌ باردةٌ جديدة"، أمكن في عهد جورباتشوف تدشين مرحلة تعاونٍ مثمرٍ بينهما أدّى إلى حلولٍ للعديد من الأزمات الدوليّة، في الخليج، وفي القرن الإفريقي، وفي أمريكا اللاتينيّة.
كذلك الحال بالنسبة لمرحلة "الهيمنة الأمريكيّة المنفردة" على النظام الدوليّ؛ فعقبَ انهيارِ الاتّحاد السوفييتي مباشرةً، بدت الهيمنة الأمريكيّة والغربيّة مطلقةً إلى درجةِ أنَّ بعضَ كبارِ المفكّرين، على رأسهم فوكوياما، طرح نظريّة "نهاية التاريخ" التي راحت تروّج لفكرة أنّ الرأسماليّة حقّقت انتصارها النهائي على الاشتراكيّة وأنّ الليبراليّة السياسيّة حقّقت انتصارها النهائي على السلطويّة التي جسّدتها ديكتاتوريّة البروليتاريا، ومن ثَمَّ، فإنّ النموذجَ السياسيَّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي يجسّدُهُ الغربُ بقيادة الولاياتِ المتّحدة هو النموذجُ الذي يتوقّع أن يسود العالم بأسره إلى أبد الآبدين. لكن ما هي إلا سنواتٌ قليلةٌ حتى بدأت هذه النظريّةُ تترّنح وتنهار تمامًا في ضوء التحدّيات الهائلة التي واجهتها الهيمنة الأمريكيّة، من ناحيةٍ، والنظام الرأسمالي، من ناحيةٍ أخرى. فالولاياتُ المتّحدة، التي بدت من خلال غزوها لأفغانستان ثمّ العراق في بداية القرن، اضطرّت في النهاية للانسحاب من كليهما، كما راح النظامُ الرأسمالي، الذي بدا بدورِهِ مسيطرًا ومهيمنًا في بداية القرن، يواجهُ أزماتٍ متعدّدةً لم تكن "فقاعة الرهن العقاري" التي انفجرت عام 2008، سوى إحدى ظواهرها المتكرّرة. فإذا أضفنا إلى ذلك ما شهدته الحقبة الأخيرة من استعادة روسيا لقوّتها ومكانتها، ومن بروز الصين قوّةً اقتصاديّةً قادرةً على تجاوز القوّة الأمريكيّة خلال سنواتٍ قليلة، لتبيّنَ لنا حجمُ ما يتمتّعُ به النظامُ الدوليّ من ديناميكيّةٍ تجعلُهُ في حالةِ حركةٍ مستمرّةٍ وعدمِ القدرة على الاستقرار على حالٍ واحدةٍ لفترةٍ طويلة. وفي ظلِّ هذه الحقيقة الدائمة، ينبغي فهم طبيعة الصراع الدائر حاليًّا على الساحة الأوكرانيّة؛ فهذا الصراعُ يبدو في ظاهره صراعًا بين حقّين؛ حقّ أوكرانيا في الاستقلال والسيادة والمحافظة على وحدة أراضيها واختيار حلفائها، من ناحيةٍ، وحقّ روسيا في حماية أمنها القومي، من ناحيةٍ أخرى. لكن هذا الصراع هو في جوهره صراعٌ على النفوذ بين القوى الدوليّة الكبرى؛ بسبب إصرار حلف الناتو على الاستمرار في التوسّع شرقًا، بضمّ جورجيا وأوكرانيا، رغمَ استعادة روسيا لجانبٍ كبيرٍ من القوّة التي كانت قد فقدتها عند انهيار الاتّحاد السوفييتي؛ لذا ينبغي النظر إلى الأزمة الأوكرانيّة باعتبارها من بين الأزمات المفصليّة الكاشفة عن تحوّلات النظام الدولي، شأنها في ذلك شأن أزمة برلين 1948، وأزمة السويس 1956، وأزمة الصواريخ 1962، وأزمة احتلال العراق 1990،،، الخ.
أهميّةُ أوكرانيا بالنسبة لروسيا تنبعُ ليس فقط من كونها أكبرَ الدول التي كانت جزءًا من الاتّحاد السوفييتي، ولكن أيضًا من كونها دولةً جارةً تشتركُ مع روسيا في حدودٍ يبلغ طولُها 1576 كم، وانضمامها إلى حلف الناتو معناه أنّه سيكونُ بمقدور هذا الحلف المعادي لروسيا الاتّحادية نشر أسلحته المختلفة، بما فيها الصواريخ المتوسطة المدى، على امتداد تلك الحدود، وهو أمرٌ يستحيلُ قَبولُهُ من المنظور الاستراتيجيّ أو الجيوسياسي الروسي؛ صحيحٌ أنّه سبق لروسيا أن تغاضت عن انضمام جمهوريّات كانت فيما مضى جزءًا من الاتّحاد السوفييتي إلى حلف الناتو (استونيا ولاتفيا وليتوانيا التي انضمت للحلف عام 1999)، لكن ذلك تمَّ في وقتٍ كانت روسيا ما تزال ضعيفةً ومنشغلةً بإعادة بناءِ مؤسّساتها، فضلًا عن أنّ الأمرَ كان يتعلّقُ بدويلاتٍ صغيرةٍ لا يمكنُ مقارنتها بأوكرانيا من حيث الأهميّة.
بعبارةٍ أخرى يمكن القول: إنّ روسيا تريد بمواقفها الحاليّة تجاهَ الأزمة الأوكرانيّة أن تبعث برسالةٍ إلى الغرب، تقول له فيها: إنّ موازين القوى قد تغيّرت، وإنّها أصبحت الآن في وضعٍ يسمحُ لها برفضِ ما كانت مضطرّةً لقَبوله والإذعان له من قبل، وحين تسكتُ أصواتُ المدافعِ التي بدأت تُسمعُ عند كتابة هذهِ السطور سيكونُ النظامُ الدوليُّ قد بدأ يدخلُ منعطفًا جديدًا يعكسُ موازينَ القوّةِ الحاليّة، التي بات واضحًا أنّها تختلفُ كثيرًا عن موازين القوّة التي كانت سائدةً لحظةَ انهيارِ الاتّحاد السوفييتي رسميًّا عام 1991.