Menu

الحصادُ المرّ في حرب السنوات السبع العجاف

رضي الموسوي

بوابة الهدف الإخبارية - نشر المقال في العدد 35 من مجلة الهدف

في الخامس والعشرين من شهر مارس/آذار 2022 الجاري؛ تدخلُ الحربُ في اليمن عامَها الثامن وقد أتت على الأخضر واليابس ودمّرت أغلبَ المناطق، فقد سويّت البُنى التحتيّة؛ من مدارسَ ومستشفيّاتٍ ومرافقَ عامّةٍ بالأرض، وزادت معدّلاتُ البطالة والفقر والعوز، وتفشّت الأمراضُ التي كان يعتقد أنّها اندثرت، مثل: الكوليرا والملاريا، وأصبح الشعبُ اليمنيّ في غالبيته الساحقة بحاجةٍ لمساعداتٍ إنسانيّةٍ من الخارج للبقاء على قيد الحياة، في وقتٍ تشكو الأممُ المتّحدةُ من تراجع التمويل اللازم لإنقاذ ملايين اليمنيّين الذين بدأ بعضُهم في أكل أوراق الشجر للبقاء على قيد الحياة في بلدٍ كانت تعرف بـ"اليمن السعيد".

يشيرُ تقريرٌ صادرٌ عن برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، إلى أنّه بعدَ ستّ سنواتٍ من الحرب؛ خسر اليمنُ أكثرَ من 126 مليار دولار من النمو الاقتصادي المحتمل، في حين كلفت الأطراف المشاركة في الحرب مئات مليارات الدولارات، وفي أحدث تقريرٍ للبرنامج أفاد أنّ "الصراع في اليمن قد أدّى إلى 377 ألف وفاة، نحو 60 في المئة منها وفاة غير مباشرة"، فضلًا عن ضياع فرص التنمية الإنسانيّة التي كان يفترض فيها إيجاد إمكانيّاتٍ للقضاء على الفقر المدقع الذي يعاني منه نحو 16 مليون مواطنٍ يمنيّ. ويقول مدير برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي، أخيم شتاينر عن أسوأ أزمةٍ إنسانيّةٍ وتنمويّةٍ تمرُّ بها دولةٌ في العالم: "لا يزال ملايين اليمنيين يعانون من الصراع، وهم محاصرون في الفقر ولديهم فرصٌ ضئيلةٌ للحصول على فرصِ عملٍ وسبل عيش".

يرسمُ التقريرُ صورةً قاتمةً عن الحالة الكارثية راهنًا، وفي حال استمرار الصراع، متوقعًا أن الحرب ستودي بحياة 1.3 مليون شخص في حال استمرارها حتى العام 2030، وسيرتفع عددُ الأشخاص الذين يعيشون في فقرٍ مدقّعٍ إلى 22 مليونًا، أي نحو 65 من سكان البلاد.

وشدّد التقرير الأممي على ضرورة أن يتمَّ تخصيصُ دعم التعافي إلى ما هو أبعد من البِنية التحتيّة، وأن يكون الناس في صميم هذه الجهود، من المتوقّع أن تحقّق الاستثمارات التي تركّز على الزراعة وتمكين المرأة وتنمية القدرات والحوكمة الفعالة والشاملة والمؤسّسات أعلى عائدٍ على التنمية. في هذا السياق يؤكّد الممثّل المقيم لبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي في اليمن، أوك لوتسما على أنّ "اليمن يشهد نموًا سكانيًّا سريعًا للغاية، مما يفرضُ الكثير من الضغط على موارد البلاد الطبيعيّة، مبينًا أنّ اليمن يعدّ من أكثر البلدان التي تعاني من الإجهاد المائي في العالم، ما يؤكّد الحاجة إلى إدارةٍ مستدامةٍ للمياه (..). وكذلك اليمن من أكثر البلدان التي ستعاني من تغير المناخ، فمن المتوقع أنّه بحلول عام 2050 سترتفع درجة الحرارة إلى ثلاث درجات على الأقلّ مما هي عليه اليوم، لذلك "يمكنكم أن تتخيّلوا تأثير ذلك على بلدٍ شبهِ صحراويٍّ مثل اليمن"، حسب قول لوتسما، وكأن هذا البلد تنقصه مصائب المناخ فوق ما فيه من أزماتٍ وكوارث.

إنّ الأزمات التي تشير لها التقارير المتعدّدة المصادر، تؤكّدها الوقائعُ على الأرض، فتوضّح الإحصائيّات أنّ آلاف المنشآت التعليميّة والصحيّة والتجاريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وتلك المتعلّقة بالبِنية التحتيّة قد تمَّ تدميرُها، منها نحو 3000 مدرسة، مما تسبّب في حرمان ملايين الأطفال من التعليم، وأنّ أكثرَ من ثلاثة ملايين طفل تتراوح أعمارهم ما بين 5 الى 17 سنة دخلوا في نطاقِ عمالةِ الأطفال. ويشير تقريرُ منظّمة الأمم المتّحدة للأمومة والطفولة "يونيسيف" صدر في شهر يوليو/ تموز 2021، إلى أنّ هناك أكثر من 6 ملايين طفلًا يمنيًّا يواجهون اضطراباتٍ تعليميّةً في بلدٍ يبلغ عددُ سكانه قرابة 29 مليون نسمة. كما أن ثلثي القوة العاملة في التدريس ويبلغ عددهم 170 ألف معلّم لم يتلقّوا رواتبَ منتظمةً مدّةَ 4 سنوات؛ الأمرُ الذي يجبرهم على البحث عن مصادر رزق أخرى، ومن ثَمَّ يزداد تدهور الواقع التعليمي في البلاد.

وحيث تأتي الحرب على كلِّ شيء، فقد تسبّبت في تدمير أكثر من 15 مطارًا و16 ميناء وأكثر من 300 محطّة ومولّدات كهربائيّة، فضلًا عن تدمير آلافٍ عدّة من خزّانات وشبكات المياه وآلاف الجسور وعشرات آلاف المنشئات الاقتصاديّة، وقرابة 200 جامعة ومؤسّسة جامعيّة ونحو 400 مستشفى ومركز صحي. وقدرت اليونيسيف عدد الأطفال الذين قتلوا أو شوهوا بأكثر من 10 آلاف طفل، ما حدا المتحدث باسم المنظّمة جيمس إلدر، القول "لقد وصل الصراع في اليمن الى مرحلةٍ مخزية"، مشيرًا إلى أن "4 من كل 5 أطفال، أي ما مجموعه 11 مليون طفل، يحتاجون لمساعداتٍ إنسانيّة (..) وأن نحو 400 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد، وأكثر من مليوني طفلٍ تسرّبوا من المدارس".

ولا شكَّ أن هذه الصورة المعتمة تعدّ "انعكاسًا للأزمة الاقتصاديّة التي تعيشها البلاد بسبب الحرب وخلّفت أكبرَ أزمةٍ إنسانيّةٍ عرفتها الإنسانيّة في العصر الحديث.. وأنّ عدد الضحايا من الأطفال في تزايدٍ مستمرٍّ بسبب اشتداد الأزمة الاقتصاديّة واستمرار تدهور العملة الوطنيّة وزيادة التضخّم"، وَفْقَ ما ذهب له الخبير الاقتصادي المقيم في اليمن، فارس النجار. وفي العام الجاري (2022) تحتاج الأمم المتّحدة إلى قرابة 4 مليارات دولار لمساعدة الملايين من اليمنيين، وَفْقَ مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانيّة ونائب منسق الإغاثة في حالات الطوارئ راميش راجا سينغهام، الذي أشار إلى أن التمويل تضاءل في السنوات الأخيرة، الذي قال أنّ خطّة الاستجابة للعام الماضي لم تموّل إلا بنسبة 58 بالمئة، مع إعلان برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتّحدة في ديسمبر/كانون الأوّل خفض موازنته المرصودة لمساعدة ثمانية ملايين شخصٍ في اليمن.

هذهِ المعطيات تؤكّد المآلات الخطرة التي بلغها اليمن، حيث يدفع اليمنيون أثمانًا باهظةً؛ قتلًا وتشريدًا ونزوحًا وفقرًا ومرضًا وغيرها من الأثمان الكبرى التي قُدّر لليمنيين مواجهتها وجملة من التحدّيات، أهمُّها مسألة السيادة ووحدة التراب الوطني والقدرة على النهوض من جديدٍ والشروع في عملية التنمية الإنسانيّة والبدء بتشييد الدولة اليمنيّة الحديثة، دولة المواطنة، وفق ما يرتضيه أبناؤها وليس وفق إملاءات القوى الإقليميّة والدوليّة، وهذا يحتاج إلى إعادة ترتيب الأولويات ومنها العلاقات مع دول الجوار، دول مجلس التعاون الخليجي الذي كان اليمن يتمتّع بعضويةٍ في عشرةٍ من هيئاته المتخصّصة، بدأها بأربع بعد قمتي المنامة (2000) ومسقط (2001) وهي هيئاتٌ عاملةٌ في إطار هيكلية المجلس:  مكتب التربية لدول الخليج العربي، مجلس وزراء الصحة لدول مجلس التعاون، مجلس وزراء العمل والشئون الاجتماعيّة بدول مجلس التعاون، دورة كأس الخليج العربيّ لكرة القدم، منظّمة الخليج للاستشارات الصناعيّة، هيئة التقييس لدول مجلس التعاون، هيئة المحاسبة والمراجعة لدول المجلس، جهاز تلفزيون الخليج، لجنة رؤساء البريد في مجلس التعاون ومؤسّسة الإنتاج البرامجي المشترك. لقد كان اليمن يسير، ولو ببطئ شديد، تجاهَ عضويّةٍ مراقبةٍ في نادي الأثرياء، وقد تمّت مراجعة علاقات المجلس مع اليمن في القمّة الخليجيّة التي عقدت في الدوحة عام 2002، وكان التأكيد على أهميّة وجود اليمن في هذه المؤسّسات، كما جرى الحديث عن مدّ اليمن الخليج بالأيدي العاملة وإمكانيّة أن يكون سلة غذاء لدول مجلس التعاون الخليجي بتخصيص استثمارات مجدية، وأن يكون وجهةً سياحيّةً واعدةً للخليجيين وبإمكانه أن يؤمّن بديلًا عن مضيق هرمز عند حدوث حالاتٍ طارئة. كان ذلك عندما كانت العلاقات طبيعيّةً إلى حدٍّ ما؛ وبعد محاولاتٍ طلب فيها اليمن الدخول في عضوية النادي الخليجي، بدأها عام 1996 ورفض طلبه؛ بسبب توتّر العلاقات مع بعض دول الخليج، وعدم حسم النزاع الحدوديّ مع السعوديّة، ونتيجةً للموقف الذي اتّخذه من اجتياح الجيش العراقي للكويت في صيف 1990. ولكن بعد توقيع اليمن على معاهدة الحدود مع السعوديّة وإعادة فتح السفارة الكويت يّة في صنعاء، تغيّر الموقف الخليجي وحظي بعضويّةِ بعض الهيئات منذ عام 2000. بعد عشر سنواتٍ هبّت رياح الربيع العربي على أكثرَ من بلدٍ، ومنها اليمن، التي دخلت في أتون التدخّلات الإقليميّة والدوليّة لتصلَ في الوقت الراهن إلى الحالة التي هي عليها. وحيث تغيّرت الأولويات السياسيّة، فقد أعلن قادة مجلس التعاون في 2011، عن ترحيبهم بانضمام المغرب والأردن لخلق تحالفٍ عسكريٍّ وأمنيٍّ وتكاملٍ اقتصاديٍّ وسياسيّ، وذلك وَفْقَ ما رشّح من معلوماتٍ حينها، إلّا أنّ هذه الخطوة كانت تشبه تأسيس مجلس التعاون العربي، على عجل، الذي أهمل دور الجغرافيا في إنجاح التكتلات الكبرى، فسقط في أوّل امتحان، وهو نفسُ مآل الترحيب بالأردن والمغرب في النادي الخليجي. أما اليمن فقد تعقّدت أوضاعه بدلًا من أن تتطوّر، ودخل في مجاعةٍ لأغلبيّةِ سكانه، حيث أن 80 بالمئة من اليمنيين هم بحاجةٍ لمساعداتٍ ماسّةٍ وضروريّةٍ للحياة.

يشكّلُ اليمنُ الخاصرةَ الرخوةَ لدول مجلس التعاون الخليجي، واستمرار الحرب يعني إنهاك الجميع وإدخالهم في الفوضى الخلاقة واستنزاف للثروات، ويعني أيضًا فقدان دول مجلس التعاون الخليجي مسألة الأمن والاستقرار، ذلك أن اليمن يشترك مع السعوديّة في حدودٍ طويلةٍ تبلغ نحو 1800 كيلومتر، في حين يبلغ الشريطُ الحدوديّ بين محافظة المهرة اليمنيّة ومحافظة ظفار العمانية قرابة 290 كيلومتر، ويمكن لهذه الحدود أن تكون عاملَ استقرارٍ ونهضةٍ وسببًا في التنمية المشتركة، لكنها يمكن أن تكون العكس من ذلك. فالأمرُ يعتمدُ على الإرادات السياسيّة والتوجّهات المستقبليّة لدول منطقة الخليج والجزيرة العربيّة، التي تحيط بها قضايا ملتهبةٌ وتحتاج إلى إطفاء الحرائق في حدائقها الخلفيّة.. وأوّلُها إنهاءُ الحرب التي أتت على الأخضر واليابس في اليمن واستنزفت موازنات دول المنطقة.