Menu

في الأزمة الأوكرانية: أوروبا تخرج نفسها من دائرة المنافسة القطبية بتموضعها مجدداً في خانة التبعية للولايات المتحدة

عليان عليان

منذ بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، في الرابع والعشرين من شباط (فبراير) الماضي، راحت أوروبا وخاصة الدولتين المركزيتين في الاتحاد الأوروبي (ألمانيا وفرنسا) تتأرجحان بين الحفاظ على مصالحهما  التجارية  والاقتصادية مع روسيا وبين الرضوخ للإملاءات الأمريكية، وشاهدنا وسمعنا الرئيس الفرنسي ماكرون  ونظيره  الألماني شولتز يدليان بتصريحات إيجابية أثناء لقائهما مع الرئيس الروسي  فلاديمير بوتين حول سبل حل الأزمة  الأوكرانية، ثم يتراجعان عنها عند العودة إلى بلديهما جراء الضغط الأميركي الحاد عليهما.

ولا نبالغ أن دول الاتحاد الأوروبي في رضوخها للإملاءات الأمريكية على غير صعيد خاصةً بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تتماهى مع العديد من دول العالم الثالث، التي تتلقى تعليمات يومية من السفير الأمريكي في بلدانها حيال ما يجب أن تصرح به، أو أن تحدد موقفاً بشأنه، مبرهنة بجدارة أنها لا تعدو كونها مجرد تابع ذليل للولايات المتحدة، وهي رغم إعلانها عن كم هائل من العقوبات وغير المسبوقة عالمياً على روسيا في كافة المجالات الاقتصادية والإعلامية والثقافية، والتي شبهها العديد من المراقبين بالحرب الاقتصادية النووية، إلا أنها في ذات الوقت راحت  تتباكى على الخسائر التي لحقت وستلحق بها في حال استمرارها، في كافة المجالات الصناعية والزراعية والخدمية إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما يلي:

1-    العلاقات التجارية المتميزة جداً بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، إذ تعد روسيا خامس شريك تجاري للاتحاد الأوروبي في العالم، وتمثل التجارة مع روسيا 4.8% من مجموع المعاملات التجارية للاتحاد الأوروبي خلال سنة 2020، وذلك حسب معطيات المفوضية الأوروبية، وفي المقابل فإن الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لروسيا، ذلك أن الاتحاد يستورد 37.3% من مجموع ما تصدره روسيا من سلع وبضائع، أي أن أكثر من ثلث السلع الروسية من الحبوب والتقنيات والطاقة وغيرها تتجه أساسا للسوق الأوروبية.

وفي عام 2020، بلغت الواردات الروسية من الاتحاد الأوروبي 36.5% من مجموع الواردات الروسية، في المقابل وصلت الصادرات الروسية للاتحاد الأوروبي إلى 37.9% من مجموع الصادرات الروسية. وتظهر هذه الأرقام أن الاتحاد الأوروبي هو الشريك الأكبر والأهم لروسيا، الذي يوفر لها أكثر من ثلث حاجاتها ويستورد منها أكثر من ثلث ما توفره من سلع وبضائع.

2- أن روسيا مصدر أساسي للطاقة لأوروبا، فأوروبا تعتمد على النفط الروسي بنسب 35 في المائة، وعلى الغاز الروسي بنسبة 40 في المائة، في حين أن ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 55 في المائة وعلى النفط الروسي بنسبة 38 في المائة، ما يعني أن وقف إمدادات الغاز والنفط الروسي سيشل حياة المواطنين في أوروبا والحياة الصناعية.

 كما أن بعض الدول الأوروبية، تعتمد بشكل حصري على الغاز الروسي، ويبرز في هذا الجانب: جمهورية شمال مقدونيا والبوسنة والهرسك ومولدوفا، كما أن الاعتماد على إمدادات الغاز الروسي، بلغ نسبة تجاوزت الـ 90 في المائة بالنسبة لفنلندا ولاتفيا، بينما وصل إلى 89 في المائة بالنسبة لصربيا وذلك وفقًا لأحدث البيانات المتاحة في هذا المضمار، أما بلجيكا فبلغت نسبة تبعيتها للغاز الروسي، 77%، ألمانيا 55%، إيطاليا 46%، بولندا 40%، وأما فرنسا فوصلت النسبة إلى 24 في المائة.

 لقد اشتعلت أسعار النفط والغاز منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بعد أن كسرت أسعار النفط حاجز أل (100) دولار منذ عشر سنوات، لتصل إلى 120 دولار للبرميل الواحد بفعل العقوبات الامريكية على قطاع النفط الروسي وحظر استيراده وانخفاض مخزونات الخام الأميركية، وبعد أن تجاوزت أسعار الغاز 1500 دولار لكل ألف متر مكعب، رغم أن روسيا لم تتوقف عن ضخ الغاز من خلال السيل الشمالي رقم (1) والذي يمر عبر أوكرانيا إلى أوروبا رغم الحرب الدائرة فيها.

وارتفاع أسعار الغاز والمشتقات النفطية، انعكس بشكل كبير على ارتفاع أسعار مختلف السلع الاستهلاكية، وارتفاع نسب التضخم في كل من ألمانيا وفرنسا واسبانيا وسائر الدول الأوروبية، فكيف سيكون حال أوروبا إذا ما نفذت القيادة الروسية تهديدها بقطع الغاز عن أوروبا في حال نفذ الاتحاد الأوروبي توجهه بوقف استيراد النفط من روسيا وبفرض عقوبات على شركات النفط الروسية العملاقة "روسنفت" و"ترانسنيفت" و"غازبروم نفت"، بهدف عرقلة الاستثمارات في إنتاج الوقود، وتجميد تمويل مشاريع الاستكشاف؟

حسب تقرير الـEurostat فإن أهم دوافع ارتفاع الأسعار الشهر الفائت في منطقة اليورو يرتبط مباشرةً بارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 31.7%، وهذا الارتفاع في أسعار الطاقة أدى إلى ارتفاع أسعار الغذاء غير المصنّع (القمح مثلاً) بنسبة 6.1%، دوماً على أساس سنوي، مع فروق كبيرة في معدلات ارتفاع الأسعار المقدرة لدول منطقة اليورو المختلفة، حيث بلغت أعلى مستوياتها شرقاً، في دول مثل لاتفيا (12.4%)، وإستونيا (13.9%)، وبلغت أدنى مستوياتها غرباً، في فرنسا (4%)، وبلغت معدلات أعلى من المتوسط الأوروبي في دول مثل بلجيكا (9.6%) وهولندا (7.2%) وإسبانيا (7.5%)، أما ألمانيا والنمسا، فبلغ معدل ارتفاع الأسعار فيهما 5.5%، تحت المتوسط بقليل.

صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، سبق وأن اعتبرت فرض عقوبات أميركية أو غربية ضد روسيا يمكن أن يلحق أضراراً كبيرة بالاقتصادات الأوروبية، ولا سيما في قطاعات الطاقة والتجارة والتصنيع والبنوك والأسوأ، مشيرة إلى أن "منع تدفق الغاز إلى أوروبا لا يزال الورقة الاقتصادية الرابحة لموسكو، إذا فرض الغرب عقوبات أكثر صرامة ضدها، غير أن ضعف الاتحاد الأوروبي أمام الإجراءات المضادة من قبل الكرملين قد يمتد إلى ما هو أبعد من الطاقة".

ورأت الصحيفة في تقريرها "أن أضرار الاقتصادات الأوروبية قد تشمل موردي التكنولوجيا والمقرضين لمصدري السلع، والمصنعين المعتمدين على المواد الخام، ما قد يزيد من تعقيدات الروابط التجارية والضغوط التضخمية، ويحد من نشاط مجموعة واسعة من الشركات الأوروبية". كما أن توقف آلاف الشركات الألمانية  ومئات الشركات الألمانية والغربية عموماً عن الاستثمار في روسيا، قد ألحق بها خسائر كبيرة جداً، وإذا ما  استمرت هذه العقوبات فإنها قد تواجه خطر "التأميم" الذي سبق وأن اقترحه أندريه تورتشاك أمين المجلس العام للحزب الحاكم في روسيا.

لقد عبرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي "كريستين لاغارد "عن خشيتها من الانعكاسات الخطيرة للعقوبات المفروضة على روسيا على الاقتصاد الأوربي بقولها: "الغيوم الجيوسياسية تحوم فوق أوروبا إذا ما زادت، وسيكون لها بالتأكيد تأثير في أسعار الطاقة، وفي معدلات النمو، نتيجة لانخفاض الدخل، وربما نتيجة لانخفاض الاستهلاك والاستثمار المؤجل".

ورغم الوعود  التي قطعها الرئيس الأمريكي الأمريكية للأوروبيين في لقاء بروكسل في الرابع والعشرين من شهر مارس ( آذار ) 2022  بشأن تعويض الغاز الروسي إلا أن الأوروبيين في شك كبير بهذه الوعود، بحكم عدم قدرة الولايات المتحدة على توفير نفس  الكمية من الغاز الروسي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن تكلفة النقل والمدة التي تستغرقها ناقلات الغاز إلى الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، وتكلفة إنجاز بنية تحتية لتأهيل الغاز المسال، سترفع من سعر الغاز بشكل لا يحتمله المواطنون والمصانع في مختلف الدول الأوروبية، وهذا ما عبر عنه بوضوح رونالد سميث كبير محللي النفط والغاز في شركة "بي سي إس غلوبال ماركتس" بقوله: "الحقيقة هي أن أوروبا ليس لديها بديل للغاز الروسي".

صحيح أن الاقتصاد الروسي سيتأثر بشكل كبير جداً، من هذه العقوبات التي شملت إخراج العديد من البنوك الروسية من "نظام سويفت" للتحويلات المالية، وتجميد أرصدتها في البنوك الغربية، إلا أن روسيا استعدت مسبقاً لهذه العقوبات، واحتفظت باحتياطي يقترب من تريليون دولار، ولن تتراجع عن  الأهداف المحددة من عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، لأن التراجع عن تحقيق هذه الأهداف، في المحصلة يسهل مهمة حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة في استمرار التآمر على روسيا ،من أجل إضعافها وتهشيمها وتقسيمها على غرار ما جرى ليوغوسلافيا. وفي جعبة روسيا الكثير الكثير في مواجهة هذه العقوبات، من ضمنها تأميم الشركات الغربية التي توقفت عن العمل التزاماً بالعقوبات، ودفع ثمن الغاز بالروبل وفق القرار الصادر عن الرئيس بوتين في الثالث والعشرين من شهر مارس (آذار)، ما يشكل ضربة كبيرة للدولار واليورو لصالح الروبل الذي بدأ يشهد ارتفاعاً ملحوظاً في قيمته، بعد تراجع قوته الشرائية بنسبة 40 في المائة.

وأخيرا، فإن أوروبا بتوقيعها على قائمة العقوبات الرابعة ضد روسيا، تكون قد أمعنت في الحرب ضد نفسها، وأطلقت النار على قدميها، ووقعت في كمين الإدارة الأمريكية الذي سعى إلى إضعاف أوروبا اقتصاديا، وإخراجها من دائرة المنافسة الاقتصادية للولايات المتحدة ومن دائرة أن تكون طرفاً في المعادلة القطبية القادمة.