Menu

بانوراما الوضعِ الفلسطينيّ بين استسلامِ السلطةِ ونفيرِ المقاومة

سعاده مصطفى أرشيد

بوابة الهدف الإخبارية - نشر المقال في العدد 36 من مجلة الهدف

كان لشهر رمضانَ وقعُهُ المقاوم على مدار السنوات الأخيرة، كانت ذروتُها في رمضان الماضي؛ إذ تضافرت العواملُ الإيمانيّةُ مع الهجمة الاستيطانيّة على باب العامود، وحي سلوان، والشيخ جرّاح، وبالطبع على المسجد الأقصى، ثمّ مع حرب سيف القدس التي حقّقت نتائج في وصول صواريخها إلى تل أبيب ودفع ثلاثة أرباع المجتمع المعادي للازدحام في الملاجئ؛ الأمرُ الذي رفع الحالة المعنويّة الوطنيّة التي طالما أرهقتها الاتفاقيّات المشؤومة والتنسيق مع العدوّ، وكان من مفاعيلها الإيجابيّة أن ضربت التوجّهات التقسيميّة التي جعلت منه غزّة وضفّة؛ داخل وخارج؛ مخيّم ومدينة وريف... ووضعت الشعب الفلسطيني بقضه وقضيضه في ذات الموكب الزاحف إلى القدس، من أعالي الجليل إلى أقاصي النقب.

نحنُ اليومَ بانتظارِ رمضانَ جديد؛ تحمل أيّامُهُ عناصرَ تصعيدٍ مضاعفةً عمّا كان في رمضان الماضي، هذا وإن كانت المواجهة على الدوام مسألةً إيجابيّةً عند من يمتلكون الإيمان بالمشروع المقاوم، ويرفضون الذلّة والدنيّة، إلا أنّها في الوقت ذاته؛ تحمل في طيّاتها بعض المخاطر التي تستدعي الحيطة والحذر.

تتمثّل عناصر المواجهة أصلًا ومركزيًّا في وجود الكيان الغاصب، وفرعيًّا في استمرار السياسات العدوانيّة، من تهويدٍ للقدس واستيلاءٍ على الرضا؛ استيطانًا وتخريبًا وقلعَ أشجارٍ، وإحراقَ مواسمَ زراعيّة، وفي مقابل ذلك الظاهرة اللافتة والمثيرة، بظهور جيلٍ جديدٍ من المقاومين الذين يعملون بقراراتٍ ميدانيّة، لديهم من الجرأة والشجاعة ما يجعلهم يشتبكون مع جيش الاحتلال من مسافاتٍ صفريّة، وهو ما يشاهد في جنين ومخيمها ونابلس وطوباس، وفي ما يجري في النقب والقدس من دهسٍ وطعن؛ أحدث حالةً من الرعب في صفوف جيش الاحتلال، وجعلهم يتّخذون قراراتٍ ميدانيّةً بقتل المقاومين، حتى وإن تسنّت الفرصة لاعتقالهم؛ محاولين إحداث صدمةٍ، أو كما يطلقون عليها كي الوعي، وهي السياسة التي تعود عليهم بغير النتائج التي يتوخونها.

من عوامل الاشتباك أنّ هجمةً استيطانيّةً بالغة الشراسة يعدّ لها الاحتلال، وهي من انعكاسات الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة، إذ تمارس (إسرائيل) ضغوطًا على دولٍ عديدة، لعدم إعطاء حقّ اللجوء الإنسانيّ لليهود الأوكران تحديدًا، وكي لا يجدوا ملاذًا لهم إلا بالهجرة إلى فلسطين المحتلّة؛ الأمرُ الذي يزيد من التعداد اليهوديّ ويعوضهم عمن يهاجرون عكسيًّا، وتستطيع المتاجرة إنسانيًّا وأخلاقيًّا، بإسكان معظمهم في مستوطنات الضفّة والقدس، في محاولةٍ لإعطاء الاستيطان غير الشرعي بعدًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا، يعني ذلك توسيع المستوطنات، ومزيد من مصادرة الأراضي؛ إن لم يكن إنشاء مستوطنات جديدة، وتفيد أخبارهم بأن الموافقة الحكومية، قد صدرت والميزانيات، قد رصدت لبناء آلاف الوحدات السكنيّة في مستوطنات الضفة، وفي شمال النقب وهي المنطقة غير الجاذبة للاستيطان.

من عوامل الاشتباك؛ الأزمة الاقتصاديّة، وهي وإن كانت أزمةً عالميّة، إلا أنّها تترافق في فلسطين مع وجود سلطة تعتاش من الدعم الخارجي، وتفوح من ثناياها قضايا الفساد والاحتكار، وتفيد مصادر حكومة اشتية: أن الرواتب لن تصرف للموظفين كاملةً في هذا الشهر الذي تزداد به مصاريف الأسر كعادتها كل رمضان، وترتفع بها الأسعار في كلّ عام، لكنّها في هذا العام؛ ترتفع إضافيًّا بسبب الأزمة العالميّة، وبسبب فشل الحكومة في رام الله في اجتراح حلولٍ أو التصدّي لاحتكارات المتنفذين. من عناصر الأزمة؛ إنّ حرب سيف القدس في رمضان الماضي، وإن حقّقت الانتصار المعنويّ والعسكري، إلا أنّها لم تؤتِ؛ حصادًا سياسيًّا أو تخفّف مما يعانيه أهل غزة الصابرين. فقد ذهبت وعود الوسيط المصري أدراج الرياح، كما حدث في مرّاتٍ سابقة، وكأنّ غزّة تلدغ من الجحر ذاته المرّةَ تلو المرة، فلا رفع الحصار ولا فتحت المعابر إلا بأوقاتٍ متباعدة، ولم تتحرّك عجلةُ إعادة الإعمار، فيما تضاعفت معاناة غزة وأهلها مرةً بسبب ما أحدثته الحرب الإسرائيليّة من دمار، ثم ما ستسببه موجه الغلاء المتصاعدة إثر الأزمة الأوكرانيّة.

على الصعيد الإقليميّ، هناك حراكٌ واسعٌ في أكثرَ من اتجاه؛ إيران توشك أن توقّع الاتّفاق النووي مع الغرب بشروطها، وبما يؤكّد أنّ الثبات على الموقف يؤتي أفضل النتائج؛ سيرفع عنها الحصار وسيف العقوبات، ما يمنحها ومحورَ المقاومة عناصرَ قوّة؛ تقلق (إسرائيل)، ومن يدور في فلك المحور المقابل؛ إمكانيّات التحرّش في إيران ذات احتمالاتٍ معقولةٍ واحتمالاتِ الردّ الإيرانيّ على استشهاد عناصر لها في سوريا، قد تكون مؤكّدة بعد اعتراف إيران بذلك، وهو اعترافٌ يلزمها بالردّ، سواءً مباشرةً أو عبرَ المحور المقاوم الممتدّ، من جبال صعدة في اليمن وصولًا إلى غزّة، فيما تنشط (إسرائيل) بين تركيا شمالًا وشرم الشيخ جنوبًا، في محاولةٍ لتشكيل ناتو شرق أوسطي لمواجهة محور المقاومة، فيما لا تجد من حلولٍ للتهدئة في غزة إلا طريقتها التلفيقيّة، بإصدار بعض تصاريح للعمل في الداخل الفلسطيني.

عودٌ على بَدْءٍ ما جاء في هذا المقال، بأنّ هذا الشهر قد يحمل في ثناياه بعض المخاطر، التي تستدعي من قواه الفاعلة اليقظة والحذر، منها أنّ حالة الفاقة التي سيعيشها المجتمع، بسبب أزمات الرواتب ثمّ حالات الغلاء وارتفاع الأسعار، قد تتسبّب في حالة قلقٍ اجتماعيٍّ وفلتانٍ أمنيّ قد يقود إلى صراعٍ داخلي، وأي صراعٍ داخليٍّ لا يكون إلا على حساب الصراع مع التناقض الرئيس، مع الاحتلال.

وممّا يثيرُ القلق، ويستدعي الحذر والتحوّط، أنّ القرار الفلسطينيّ الرسميّ لا زال يراوح مكانه، في الزاوية التفاوضيّة، وفي منطق أنّ أوراق العمل مرتبطةٌ بواشنطن وتل أبيب فقط لا غير، وأصحاب القرار اليوم في مرحلة إعادة إنتاج تلك الخيارات البائسة، لكن بشكلٍ أكثرَ تهافتًا يؤدّي إلى تنازلاتٍ إضافيّة، وعمليّات التنسيق قد أخذت بعدًا جديًّا وجديًّا يلاحظ في إصدار تصاريح مرورٍ عبر الحواجز الإسرائيليّة لضبّاط الأمن الفلسطيني؛ الأمرُ الذي قد يجعل من المعادلة الصراعيّة هي السلطة في مواجهه المقاومة، بدل أن تكون المقاومة في مواجهه الاحتلال. واستطرادًا؛ إنّ كلّ هذه التنازلات لم تجعل السلطة شريكًا، ويلاحظ كلّ من يتابع نشرات الأخبار غيابها و الأردن معها من أيّ حراك، فلا المحور الذي تنتمي إليه يشركها، وهو يخرجها من عيره، فيما هي لا تريد أن تكون في نفير المحور المقاوم.